بحث

بر الوالدين

بر الوالدين

بسم الله الرحمن الرحيم

      قال تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾ 

      هناك معنى دقيق في هذه الآية: العبادة لله، والإحسان للوالدين،يجب أن تفرق بين العبادة والإحسان، الوالدان يجب أن تحسن إليهما، يجب أن تؤثرهما على نفسك، يجب أن تكون في خدمتهما طوال حياتك، هذا هو الإحسان، 

      ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾  هذه الباء باء الإلصاق،  

      لو فتحنا معاجم اللغة، الفعل أحسن يتعدى بـ, إلى، أحسنت إليه، ليس هناك في اللغة أحسنت به، لكن في القرآن : ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾  

      أي: إحساناً بالوالدين، فهذا الفعل ورد في كتاب الله على خلاف القاعدة، القاعدة: أحسن إليه 

      قال العلماء:  معنى ذلك أن الإحسان للوالدين ينبغي أن يكون بالذات مباشرة، وكأنك ملصق به 

      قد يكون الإنسان مشغولاً، وقد يكون عنده سائق، يقول له: خذ أبي إلى المكان الفلاني، هذا لا يجوز، يجب أن تأخذه أنت، يجب أن تخدمه بذاتك، أو يكلف إنساناً, يسأل عن حاجات أمه فيأتيها بها.  

      يجب أن يكون إحسانك إلى والديك بالذات مباشرة، يجب أن تلتصق بهما إذا أحسنت إليهما، السبب: 

      أن الأب والأم أحياناً, يتجاوزان أمور الدنيا، يحتاجان إلى وجودك، إلى مؤانستك، إلى أن تكون معهما، لا إلى أن تقدم لهما كل الحاجات، يتمنى الأب أن يرى ابنه أمامه . 

      أيها الأخوة, في بعض البلدان الآن, تعاني ما تعاني من تفكك الأسرة، إنسان مرض يؤخذ إلى مأوى العجزة مباشرة، هذا المتقدم في السن, يسعده أن يكون بين أولاده . 

      هناك امرأة ثرية جداً، ولها أولاد كثر، أصيبت بالشلل، فالأولاد تبرموا منها بضغط من زوجاتهم، كل واحد منهم رفض أن يستقبلها، فاتفقوا على أن يضعوها في مأوى العجزة. 

      والآن: هناك مستويات عالية جداً من مأوى العجزة وكأنه فندق خمس نجوم، خدمات من أعلى مستوى، غرفة مكيفة، طعام من الدرجة الأولى، نظافة، أناقة، جمال، كل هذا الرفاه لا يعدل أن يكون هذا الإنسان العاجز بين أولاده، فهذه المرأة الثرية, وجدت نفسها في مأوى العجزة، في رفاه عال جداً، طلبت كاتب العدل، وكتبت كل أموالها من دون استثناء للجمعيات الخيرية، وانتقمت من أولادها . 

      أيها الأخوة, هناك الآن علم اسمه: علم نفس الشيوخ، صار للإنسان المتقدم في السن نفسية خاصة، علم نفس الشيوخ, يبيّن أن هذا الإنسان عنده حساسية بالغة جداً، ما الذي يسعده ؟ أن يكون بين أولاده، فالخدمة من الدرجة العاشرة, وهو في بيت أولاده أفضل عنده من خدمة من الدرجة الأولى, وهو في مأوى العجزة.  

      إذا كان والد أحدنا شاباً, فهيماً، مثقفاً، يكون إرضاؤه سهلاً جداً، ليس بحاجة لابنه ، أما إذا كبر الأب، وتقدمت به السن، وضعفت ملكاته، ويحتاج إلى خدمة عالية المستوى، وإلى تنظيف، وإلى طعام خاص، صار الأب عبئاً، الرضا هنا، وهو كبير، وهو عندك. 

      قال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ﴾  

      ما هو الأفّ؟ الأف زفير، صوت مرتفع، تأفف، التأفف فصاعداً محرم، ماذا يقابل الأف؟ غلق الباب في وجههم بقوة، هذا أقلّ شيء ممكن، وهناك أبناء –والعياذ بالله– يقول لأمه: كل البلاء منكِ، أسأل الله أن يخلّصنا منك، وهناك أبناء يضربون آباءهم، فما دامت كلمة أف محرمة، فما قولك فيما فوق الأف؟  

      قال بعض العلماء:  لو أن في اللغة كلمة أقلّ من أف, لذكرها الله عز وجل 

      قال تعالى: ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾  

      لا تجد آية قرآنية, يوصي الله فيها الآباء بأولادهم، لماذا؟ لأن محبة الأولاد فطرة وطبع، هل يمكن أن يصدر مرسوم جمهوري, أنّ على المواطنين تناول طعام الفطور، وإلا فهم تحت طائلة السجن؟ لا داعي، كل الناس جائعون، ولا بد أن يأكلوا، فكل شيء مركب في الفطرة, لا يحتاج إلى قوانين، حب الأبناء مركب في فطرة الإنسان، أيّ أم مسلمة، فاجرة ، فاسقة، منحرفة، تحب ابنها، ولكن ليس كل ابن يحب أباه، لذلك: جاء الأمر ببرّ الآباء، لا ببرّ الأبناء،  

      قال الله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾  

      سبحان الله! موضوع الجنين، الجنين يحتاج إلى كلس، الأم لا تشرب الحليب، والجنين يأخذ حاجته من الكلس من عظام أمه، فأغلب النساء الحوامل اللواتي لا يأكلن الحليب والجبن بكميات معقولة, يصبن بنخر في أسنانهن، وهشاشة عظامهن، لأن الجنين أخذ حاجته من الكاس من عظام أمه،  

      قال الله تعالى: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ 

      ورد في بعض الآثار: ليعمل العاق ما شاء أن يعمل, فلن يدخل الجنة 

      وأنا أنصحك, ألاّ تشارك عاقًّا، لو كان فيه خير, لكان لأمه وأبيه، لا تشاركه، ولا تعامله، هذا عديم الخير . 

      قَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تعالى؟ قَالَ: الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا، قَلت: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قَلت: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ 

      أعظم الأعمال: الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا، ثم بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، ثم الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. 

      عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أَبُوكَ 

      لذلك سئل النبي صلى الله عليه وسلم:  

      من أعظم النساء حقاً على الرجل ؟ أعظم امرأة لها حق عليك أمك، فلما سئل: من أعظم الرجال حقاً على المرأة؟ قال: زوجها 

      هذا كلام النبي، أعظم النساء حقاً على الرجل أمه، وأعظم الرجال حقاً على المرأة زوجها . 

      عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ:  

      أَقْبَلَ رَجُلٌ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  

      فَقَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ, أَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنْ اللَّهِ تعالى,  

      قَالَ: هَلْ لك من وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ؟  

      قَالَ: نَعَمْ, بَلْ كِلَاهُمَا,  

      قَالَ: فَتَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنْ اللَّهِ تعالى؟  

      قَالَ: نَعَمْ,  

      قَالَ: فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا  

      خدمة الوالدين جهاد في سبيل الله . 

      أيها الأخوة, هذا الدرس عن بر الوالدين، الذي أتمناه أن يُترجم إلى واقع، وإلا فلا قيمة لهذا الدرس إطلاقاً، قل: ألف مليون، هذا كلام، تملّكُ هذا المبلغ شيء، وأن تنطق بهذا الرقم شيء آخر . 



المصدر: شرح الحديث الشريف - رياض الصالحين - الدرس (069-101) : باب بر الوالدين وصلة الأرحام - ما الفرق بين العبادة لله والإحسان للوالدين؟ وهل أوصى القرآن بهما؟