يقول عليه الصلاة والسلام: ((يَا أَبَا ذَرٍّ لأَنْ تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ مِائَةَ رَكْعَةٍ وَلأَنْ تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ بَابًا مِنَ الْعِلْمِ عُمِلَ بِهِ أَوْ لَمْ يُعْمَلْ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ أَلْفَ رَكْعَةٍ)) هذا الحديث الشريف يبيِّن فضل العلم على العبادة.. لأَنْ تَغْدُوَ.. أي لأن تذهب، والعلم له مواطن، وموطنه في المسجد.. ((لأَنْ تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ)) . . إذا تعلَّمت آيةً، تعلَّمت قراءتها، وتعلَّمت معناها، وعملت بها، ارتقيت، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾، فالإنسان له عند الله مقام يحدِّده علمه وعمله، فكلَّما ازددت علماً ازددت من الله قُرباً، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((لا بورك لي في شمسِ يومٍ لم أزدد فيه من الله علماً))، عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، يؤكِّد فضل العلم على العبادة، لأن العالِم ربَّما كان.. ((فَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ))، لكن العابد لأقل ضغطٍ، أو لأقلِّ إغراءٍ تنهار مقاومته، العابد مقاومته هَشَّة، قد ينتكس بسرعة، قد يترك بسرعة، قد يعود كما كان عليه، لأنه باني سلوكه على أحوال طارئة، على فورة عاطفيَّة، لكنَّه لو بنى سلوكه على تحقيقٍ، ويقينٍ، وحقيقةٍ، وبحثٍ، ودرسٍ، إن العلم سلاح المؤمن، فلهذا هذه الملاحظة الأولى المستنبطة من هذا الحديث الشريف: ((يَا أَبَا ذَرٍّ لأَنْ تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ مِائَةَ رَكْعَةٍ...)) أي أنك تعلَّمت هذه الآية، فاستفدت منها، فارتقيت عند الله.. لأنه بالتعلُّم تستفيد أنت وحدك، لكنَّك في التعليم تُفيد، والذي يفيد أفضل من الذي يكتفي بأن يستفيد.
يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما أعزَّ الله بجهلٍ قط ولا أذلَّ بعلمٍ قط))، مستحيل إلا أن يكون العلم سبباً للرفعة عند الله، وعند الناس، وعند نفسك، لأن رتبة العلم أعلى الرتب، ولا أذلَّ بعلمٍ قط، فالجهل قبيح وصاحبه ذليل، والعلم جيِّد وصاحبه عزيز، فإذا أردت عزَّ الدنيا والآخرة فعليك بالعلم، وعليك بطلب العلم.. فحتَّى في الدنيا، حتَّى الذين تَعَمَّقوا في علوم الدنيا لهم مكانةٌ رفيعة، قد يكون حولهم أناسٌ متقدِّمون في السن ولكن يقفون أمامهم كالأطفال، فالعالِم شيخٌ ولو كان حدثاً والجاهل حدثٌ ولو كان شيخاً، فإذا أردت عزَّ الدنيا والآخرة، إذا أردت أن يعزِّك الله عزَّ وجل فاطلب العلم، فبين أن يموت الإنسان ولا يدري به أحد، بين أن يموت الإنسان ولا يكترث لموته أحد؛ وبين أن يموت العالِم فتهتزُّ لموته بلدةٌ بأكملها، هذا شأن العلم، وهذا مقام العلم، وهذه رفعة العلم، وهذا فضل العلم.
ويقول عليه الصلاة والسلام: ((طالب العلم بين الجُهَّال كالحي بين الأموات))، أي أن الجاهل ميِّت، جسده حي لكنَّ نفسه ميِّتة، والعالِم حي، بل طالب العلم، طالب العلم فقط، فإذا جلس طالب العلم بين إخوةٍ له، أو بين زملاء له، أو بين أقرباء، أو بين جيران، في جلسة، في نُزهة، في سهرة، في نَدوة، طالب العلم متفتِّح، طالب العلم مستنير، طالب العلم متوازن، طالب العلم مُعْتَدِل، وكلامه فيه دقَّة، طالب العلم لا تجمح به نفسه، طالب العلم عفيفٌ عن المحارم، طالب العلم عفيفٌ عن المطامع، فهذا طالب العلم كأنه حيٌّ بين الأموات، وشتَّانَ بين الحي وبين الميِّت، الميِّت جثَّة هامدة، لا يعلم، ولا يتكلَّم، ولا ينطق، ولا يتنفَّس، ولا يفكِّر، ولا يسأل، ولا يجيب، فالإنسان من دون علم كأنه هبط إلى مرتبة الحيوان؛ جسم يأكل، ويشرب، وينام، ويعمل، ويستمتع فقط، لا يزيد الإنسان من دون العلم عن أن يكون في مستوى البهائم.
وقال عليه الصلاة والسلام: ((إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا. قَالُوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ؟ مجالس العلم))، فإذا جاء الإنسان إلى مجلس العلم بقلبٍ مخلص، ونيَّةٍ عالية، وقد بذل جهداً ووقتاً وجلس وفق أصول المجالس؛ بأدبٍ جم، وبإنصات، فمستحيلٍ إلا أن يكرمه الله سبحانه وتعالى لأنه: " إن بيوتي المساجد....... وحق على المزور أن يكرم زائره ".
ويقول عليه الصلاة والسلام: ((وقِّروا من تعلمون منه العلم، ووقِّروا من تعلِّمونه العلم))، أما توقير من تتعلَّمون منه العلم فالمعنى بديهي، ولكن توقير من تعلِّمه!! هنا إشارة دقيقة جداً إلى أن المتعلِّم إذا شعر أنه محبوب، وأنه مطلوب، وأنه مرغوبٌ فيه، وأن المعلِّم رحيمٌ به، متواضعٌ له، واسع الصدر، طويل النفس، يأخذه بالحلم، يصبر على أسئلته غير المتوازنة، يفسح له مجالاً ليسأل، إن هذا التواضع والتوقير لمن تُعَلِّمه هو أثمن من العلم نفسه، بهذه الطريقة يستفيد طالب العلم. أما إذا كان هناك استعلاء، أو كان هناك بعدٌ بين المعلِّم والمتعلِّم، أو كان هناك تكبُّر، أو كان هناك استخفاف بالمتعلِّم، أو كان هناك سخريةٌ منه، أو كان هناك إجابةٌ قاسية لاذعةٌ؛ فإن المتعلَّم يستحي، وينكمش، ويبتعد، ويكون هناك حجابٌ كثيفٌ بين المعلِّم والمتعلِّم، عندئذٍ لا ينفع العلم.
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((قيدوا العلم بالكتابة))، هنا نقطة دقيقة جداً، الإنسان أحياناً يحضر مجالس علم، ويستمتع بها، ويستفيد بها، لا يبقى منها بعد حين إلا الانطباع، لا يتذكَّر شيئاً، فالإنسان إذا ما كتب لا يذكر. إنَّك إذا كتبت وتذاكرت ثَبَّتت هذه المعلومات، من أسبوعٍ إلى أسبوع، ومن شهرٍ إلى شهر، ومن عامٍ إلى عام تصبح عالِماً، لذلك طلب العلم يحتاج إلى جهد، وليس من جهدٍ على وجه الأرض أرقى عند الله من الجهد الذي تبذله في طلب العلم، فلا يوجد علم من دون جهد. لكن الإنسان من دون جهد لا يرقى، يبقى في مكانه، مستقيم، مستقيم على العين والرأس، يغضُّ بصره، ويحرِّر دخله، ولا يخالف الشرع، هذا مستهلك، هذا ناج؛ ولكنه لا يرقى إلى مستوى أن ينجي غيره، ألا تطمح أن تكون عالِماً؟ ألا تطمح أن تكون مُعَلِّماً؟ فلماذا تزهد في تعليم الناس؟ يقول عليه الصلاة والسلام لسيدنا على كرَّم الله وجهه: ((فَوَاللَّهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ)). الإنسان يهرب من الجهد، هكذا طبيعة الإنسان يميل إلى الراحة، عندما تراجع أنت بعد الدرس الأحاديث، أو في أثناء الدرس تكتبها، وتكتب بعض التعليقات على الحديث، وشرح بعض الكلمات، وتحاول في البيت أن تحكيها لزوجتك، أو لأولادك، أو لإخوانك، أو لجيرانك، أو لزملائك، عندما ينطلق اللسان في شرح الأحاديث وشرح الآيات هذه بدايات التعليم، عندما يكون الإنسان في قلب عشرات الأشخاص، في قلب المئات، ساعتئذٍ يشبه أن تنطبق عليه هذه الآية: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾، لا تكن فرداً، كن أمَّة.
ويقول عليه الصلاة والسلام: ((ما جُمِعَ شيءٌ أفضل من علمٍ إلى حلم))، علم إلى حلم، الحلم كناية عن الأخلاق الفاضلة لأن الحلم سيِّد الأخلاق، والعلم تحصيل للعلم الشرعي الشريف هذا يرفع مكانة الإنسان. أحياناً تجد إنساناً ذكياً يحصِّل معلومات ومعارف جيِّدة، لكن تتعامل معه تجد في معاملته سوءاً، كبراً أحياناً، حباً للذات، رغبة أن يستأثر بكل شيء، عندئذٍ تقول في أعماق نفسك: آه ليت أخلاق هذا الإنسان كعلمه، هذا الإنسان حصّل العلم جيِّداً لكن أخلاقه ليست في مستوى علمه، لكنَّك إذا جمعت بين العلم وبين الخُلُق، بين أن تكون عالِماً متفتِّح العقل، وبين أن تكون طيِّباً طاهر النفس فهذا هو المثل الأعلى الذي نصبو إليه، نصبو في الإنسان أن يجمع بين العلم وبين الخُلُق، بين الفطنة وبين الطيب..
ويقول عليه الصلاة والسلام: ((تناصحوا في العلم ولا يكتم بعضكم بعضاً، فإنَّ خيانةً في العلم أشدُّ من خيانةٍ في المال))، لو أن أحد الشريكين قبض مبلغاً ووضعه في جيبه، أليست هذه خيانة؟ طبعاً خيانة، ما ظنُّك أن الذي يكتم العلم، يكتم حكماً شرعياً، يكتم معنى لآية، يكتم توجيهاً نبوياً لمصلحةٍ يريدها، أو إتقاء شرٍ يخافه، إنَّ هذه خيانة لا تقلُّ عن خيانة المال، فإن العلم دين، والله سبحانه وتعالى أخذ على العلماء عهداً أن يبيِّنوا للناس ولا يكتموا العلم.. ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾، فكتمان العلم خيانةٌ كبيرة.
ويقول عليه الصلاة والسلام: ((مجالسة العلماء عبادة))، نوعٌ من العبادة أن تجلس في مجلس علم، نوعٌ من العبادة، إنَّك بالعلم ترقى.
ويقول عليه الصلاة والسلام: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)).
ويقول عليه الصلاة والسلام: ((مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ أَوْ أَرَادَ بِهِ غَيْرَ اللَّهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)) .
ويقول عليه الصلاة والسلام: ((لا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ ولا لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ وَلا تَخَيَّرُوا بِهِ الْمَجَالِسَ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَالنَّارُ النَّارُ)) .