المحن والمصائب :
أيها الإخوة الكرام ؛ حقيقة ثابتة لا ريب فيها، طبيعة الحياة، وهكذا شاء الله لها أن تكون، طبيعة الحياة، وطبيعة البشر، تجعلان من المستحيل أن يخلو المرء من المحن والمصائب ؛ لأن المصائب محكُّ الرجال ؛ ولأن المصائب أسلوب تربوي لترقية النفس من حال إلى حال، إنَّ الشدائد التي تحل بساحة المرء كثيرة جداً، كم يخفق له عمل، وكم يخيب له أمل، وكم يموت له حبيب، وكم يمرض له بدن، وكم يفقد من ماله الذي جناه بعرقه وتعبه، هذه نماذج من المحن التي تصيب الإنسان في الحياة الدنيا .
الله جل جلاله على لسان مبعوث العناية الإلهية، والذي لا ينطق عن الهوى، يقول عليه الصلاة والسلام، ودققوا في هذه الخطبة التي أذكرها على المنبر آلاف المرات : (( يا أيها الناس إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ودار ترح لا دار فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشدة، ألا وإن الله تعالى خلق الدنيا دار بلوى، والآخرة دار عقبى، فجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة، وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضا، فيأخذ ويبتلي ليجزي، فاحذروا حلاوة رضاعها لمرارة فطامها، واحذروا لذيذ عاجلها لكربة آجلها، ولا تسعوا في عمران دار قد قضى الله خرابها، ولا تواصلوها، وقد أراد منكم اجتنابها فتكونوا لسخطه متعرضين، ولعقوبته مستحقين))
الحكمة وراء المحن :
لابد من محن لابد من مصائب لابد من متاعب، هذه المتاعب أيها الإخوة لها هدفان كبيران :
1- إما أن تكون تأديباً وتربية وعلاجاً .
2- وإما أن تكون امتحاناً وترقية .
قال تعالى : ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾
الرسل أكثر الناس امتحانا :
أيها الإخوة الكرام ؛ إذا كانت هذه سُنَّة الحياة عامة، وفي الناس كافة، فإن أصحاب الرسالات خاصة أشدُّ تعرضاً لنكبات الدُّنيا وويلاتها، لماذا ؟ إنَّهم يدعون إلى الله، فيحاربهم دعاة الطاغوت، ينادون بالحق فيقاومهم أنصار الباطل، يهدون إلى الخير فيعاديهم أنصار الشر، يأمرون بالمعروف فيخاصمهم أهل المنكر، هكذا طبيعة الحياة، وهذه سنة الله في خلقه، بهذا يحيا الأنبياء، والدعاة الصادقون في دوامة من المحن، وسلسلة من المؤامرات والفتن، سنة الله في خلقه، خلق آدم ومعه إبليس، وخلق إبراهيم ومعه النمرود، وخلق موسى وخلق فرعون، وخلق محمداً صلى الله عليه وسلم وخلَق من حوله ؛ أبو جهل وأبو لهب، هؤلاء الذين قاوموا دعوته، وتآمروا على قتله وأخرجوه من مكة، ونكَّلوا بأصحابه، وفعلوا كل شيء من أجل إطفاء دعوته هذه سنَّة الله في خلقه، اقرؤوا إن شئتم قوله تعالى : ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً ﴾
الكافر تجزعه المحن :
أيها الإخوة الكرام ؛ أثبت الاستقراء، وأثبتت المشاهدات، أن أشد الناس جزعاً وأسرعهم انهياراً أمام شدائد الحياة هم الكفار، والمرتابون وضعاف الإيمان، والدليل قول الله عز وجل :
﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ ﴾
﴿ لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ﴾
﴿ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً ﴾
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾
هؤلاء الذين ما عرفوا الله، هؤلاء الذين شردوا عنه، هؤلاء الذين كانوا في حجاب عنه، هؤلاء الذين أبقوا أنفسهم جاهلين، هؤلاء لا يؤمنون بقدر فيرضون به، يقول عليه الصلاة والسلام : ((الإيمان بالقدر يذهب الهم والحزن))
((الإيمان بالقدر نظام التوحيد))
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ((لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةٌ، وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ))
إنَّهم لا يؤمنون بقدر فيرضوا به، ولا بإله حكيم قدير فيطمئنوا إلى حكمته في خلقه، ولا بأنبياء فيجدوا في حياتهم القاسية قدوةً وعبرةً ولا بحياة أخرى فتهب عليهم نسماتها منعشةً للنفس، طاردةً للكآبة باعثة للأمل .
أسباب صبر المؤمن على البلاء :
لا شك أيها الإخوة ؛ أننا نجد الانتحار أكثر ما يكون في البيئات التي ضعف فيها الإيمان، أو فُقد فيها الإيمان، فإن لم يكن انتحار فهو الألم القاتل، والجزع الهالك، والكآبة الحزينة، والحياة التي خلت من أي معنى للحياة .
أما المؤمنون فهم أصبر الناس على البلاء، وأثبتهم في الشدائد وأرضاهم نفساً في الملمَّات، لماذا؟
1- لأنَّهم عرفوا قصر الحياة الدنيا بالنسبة إلى الدار الآخرة، فلم يطمعوا أن تكون دنياهم جنَّة قبل جنَّة ربِّهم .. الدنيا جيفة طُلَّابها كلابها .. الدنيا دار من لا دار له، ولها يسعى من لا عقل له .. إن أسعد الناس في الدنيا أرغبهم عنها، وأشقاهم فيها أرغبهم فيها.
من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ من حتفه وهو لا يشعر .
أوحى ربك إلى الدنيا أنَّه من خدمني فاخدميه، ومن خدمك فاستخدميه .
والدنيا تغرُّ وتضرُّ وتمر ..
2- عرفوا سنن أنبيائهم ورسلهم، عرفوا أنَّهم أشدُّ الناس بلاءً في الحياة الدنيا، وأقل الناس استمتاعاً بزخرفها .
3- عرف المؤمنون أن ما ينزل من مصائب ليس ضربات عجماء ولا خبط عشواء ولكنها وفق قدر معلوم، وقضاء مرسوم، وحكمة أزلية، وكتابة إلهية، فآمنوا بأنَّ ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، قال تعالى : ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾
4- عرفوا أن من صفاته تعالى أنه يقدر فيلطف، ويبتلي ويخفف ومن ظن انفكاك لطفه عن قدره، فهذا من قصور نظره، قال تعالى : ﴿ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾
﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ﴾
5- عرفوا أنَّ من لطف الله عز وجل، أن هذه الشدائد دروس قيمة وتجارب نافعة لدينهم ودنياهم، تنضج نفوسهم، وتصقل إيمانهم وتذهب صدأ قلوبهم : مثل المؤمن الذي تصيبه الوعكة من البلاء كمثل الحديدة تدخل النار فيذهب خبثها ويبقى طيبها .
بل ما أشبه النكبة بالبيضة، يُظن أنها سجن لما فيها، إلا أن هذه البيضة تحوط ما فيها، وتربيه وتعينه على تمام نموه، وليس عليه إلا الصَّبر إلى أمد، والرِّضى إلى غاية، ثم تُفقس البيضة فيخرج هذا الكائن خلقاً آخر .
إذا ظن هذا المخلوق الذي في البيضة أنها سجن له فهو مخطئ، إنها تحوطه، إنها تنضجه، إنها توفر له أسباب نموه، فإذا صبر قليلاً على هذا السجن الموهوم بعد إذ ينضج ويخرج كائناً كاملا.