دعوة النبي صلى الله عليه وسلم قامت على التوحيد، وقامت على المساواة بين البشر، وقامت على بعض التكاليف. وهو الأمر الذي أثار قريش لذلك تحركت، ماذا فعلت؟
جاؤوا إلى أبي طالب، فقالوا: إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل أبناءنا، فإما أن تخلي بيننا وبينه، وإما أن نكفيكه، فقال لهم أبو طالب قولاً رقيقاً، وكان حكيماً، وردهم رداً جميلاً، فانصرفوا عنه، ومضى النبي صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه يظهر دين الله.
أيها الأخوة، فذهب الوفد لما تابع النبي صلى الله عليه وسلم دعوته، وأبو طالب ردهم رداً جميلاً، ولم يحرك ساكناً، عاد الوفد إلى أبي طالب، فقالوا له: يا أبا طالب، إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك عن ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آباءنا، وسفه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين، ثم انصرفوا عنه.
الآن أبو طالب تأثر، هذا اسمه تصعيد، صعدوا الخصومة، أدخلوا أبا طالب كطرف في النزاع، فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم يطب نفساً لتسليم رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ولا خذلانه، فدعا أبو طالب ابن أخيه محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له: يا ابن أخي، إن قومك قد جاؤوني، وقالوا لي كذا وكذا، فأبقي علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق، فقال عليه الصلاة والسلام: (( والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته )) ثم بكى عليه الصلاة والسلام. فلما ولى النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن بكى ناداه أبو طالب، أقبل يا ابن أخي، فأقبل عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اذهب يا ابن أخي، فقل ما أحببت، فو الله لا أسلمك لشيء أبداً ـ
الآن طبقوا خطة ثانية، عمدوا إلى المستضعفين في الأرض من المسلمين، أنزلوا بهم من الأذى والاضطهاد والتعذيب الشيء الكثير، أمر عليه الصلاة والسلام هؤلاء المستضعفين الفقراء الذين نكلت بهم قريش، بالهجرة إلى الحبشة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لأنها أرض صدق بها ملك لا يظلم أحداً، فهاجر عدد من الرجال والنساء في السنة الخامسة، ثم لحق بهم مهاجرون آخرون بعد بضعة شهور، حتى وصلوا إلى 83 رجلاً مع بعض النساء، أن تنعم بالإسلام في هذه البلدة، وأن تنشأ هذه المساجد، وأن تقام هذه الدروس، بفضل أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، الذين تركوا مكة، وهاجروا إلى أرض الحبشة خائفين. قريش خافت من أن ينتشر الإسلام خارج مكة، فأرسلت رجلين إلى النجاشي ملك الحبشة محملين بالهدايا القيمة بغية استعادة المهاجرين إلى مكة، فلما طلبا من النجاشي تسليمهم، استدعاهم النجاشي وسألهم عن أمرهم، فتحدث نيابة عنهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وعرض بإيجاز جوهر دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: (( أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله فينا رجلاً نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه )) هذا الإسلام، الإسلام مكارم أخلاق بعد الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر وخيره وشره، الإيمان هو الخلق فمن زاد عليك بالخلق زاد عليك في الإيمان، (( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )). أولاً لجؤوا إلى أبي طالب فلم ينجحوا، ولجؤوا إلى تعذيب الضعفاء من قريش فهاجروا، أرسلوا وفداً لاسترجاعهم فلم يفلحوا.
الآن لجأت قريش إلى ترويج الاتهامات الباطلة، لصد الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه الحملة الإعلامية، التاريخ يعيد نفسه، من هذه الاتهامات:
اتهموه بالجنون، وفي ذلك قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ﴾ الله عز وجل رد عليهم، فقال: ﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾.
اتهموه بالسحر، وفي ذلك قوله تعالى: ﴿وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴾ الآن قد اقترب موسم الحج، فالوليد بن المغيرة خاف أن ينتشر خبر هذه البعثة، وهذا القرآن بين القبائل التي تأتي للحج، فتضعف مكانة قريش، أخذهم الهم، ماذا نفعل؟ ماذا نقول؟ لذلك قال لهم الوليد: يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم، وأن وفود العرب ستقدم عليكم، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، طبعاً استبعدوا أنه كاهن، واستبعدوا أنه شاعر، إلا أنهم اتفقوا على أن يقولوا: إنه ساحر، لأنه يفرق بين الأقارب، فأنزل الله في الوليد، قال تعالى:
﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ* فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ *إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ﴾
اتهموا النبي صلى الله عليه وسلم بالإتيان بالأساطير، ولا زلنا في الحملة الإعلامية التي أرادتها قريش كي يشوه سمعة النبي عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾
واتهموا المؤمنين بالضلالة، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ ﴾
هذه التهم التي وجهت قريش لرسول الله، ((لذلك ورد في بعض الآثار أن سيدنا موسى كليم الله أثناء المناجاة، قال: يا رب، لا تبقِ لي عدواً، قال: يا موسى، هذه ليست لي )) يعني لا بد من عدو للمؤمن، بل بعضهم، قال: المؤمن لا بد له من كافر يقاتله، ومن منافق يبغضه، ومن مؤمن يحسده، ومن شيطان يغويه، ومن نفس ترديه، العدو الثالث مؤمن، لكنه ضيق الأفق، يحسدك، بدل أن يسأل الله من فضله.
الآن لجأت قريش إلى حملة السخرية والاستهزاء، والضحك، والغمز واللمز والتعالي على رسول الله صلى الله وسلم وعلى المؤمنين، قال الله عز وجل: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ هؤلاء ينظرون إلى المؤمنين ازدراء واحتقاراً. امرأة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ساخرة مستهزئة: إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث، فأنزل الله تعالى: ﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾. أبو جهل قال مستهزئا: اللهم إن كان هذا الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم، فنزل قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ وقال الله عن ضحكهم وغمزهم: ﴿ إِنَّ الّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهَينَ ﴾ قال تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ﴾.
ومن منطلق الاستعلاء والسخرية، قال المشركون: لا نرضى بمجالسة أمثال هؤلاء، من هم؟ يعنون صهيباً وبلالاً وخباباً، لا يجلسون مع هؤلاء استكباراً وعلواً في الأرض، فقال الله عز وجل: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾
ومر النبي صلى الله عليه وسلم بجماعة من قريش فهمزوه، واستهزؤوا به، فغاضه ذلك، فأنزل الله عز وجل: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يستهزءُون﴾.
أيها الأخوة، هذه مواقف قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بدؤوا بأبي طالب على أن يتخلى عن ابن أخيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اتجهوا إلى تعذيب المستضعفين، ثم اتجهوا إلى ترويج حملة إعلامية ظالمة، اتهموه بالشرك وبالسحر وبالكذب وبالأساطير، ثم اتجهوا بالاستهزاء به والسخرية منه، والغمز واللمز، لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان أهلاً لها، ولقد أقسم الله بعمره الثمين، فقال:
﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾