الإنسان في الإسلام المخلوق الأول رتبة لقوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ﴾ ولأن الإنسان قَبِل حمل الأمانة سخر الله له: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ﴾ تسخير تعريف وتكريم، موقفه من تسخير التعريف أن يؤمن، وموقفه من تسخير التكريم أن يشكر، فإذا آمن وشكر حقق الهدف من وجوده: ﴿مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ﴾ والإنسان هو المخلوق المكرم: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ كيف هو مكرم؟ بل كيف خلقه الله ليرحمه؟ قال تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ خلقه ليرحمه، هناك مصائب، هناك مشكلات، هناك أمراض، الحقيقة للتوضيح علة صنع السيارة أن تسير، والمكبح يتناقض في أصل مهمته مع علة سيرها، ولكنه أكبر ضمانة لسلامتها، فلذلك الإنسان هو المخلوق الأول، والمخلوق المكرم، والمخلوق الذي خلق ليرحمه الله عز وجل، ولكن لا بد من معالجة دقيقة لهذا الموضوع.
الإنسان هو المخلوق المكلف، مكلف أن يعبد الله، والعبادة في أدق تعاريفها: هي طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية. هي طاعة طوعية وليست قسرية، ممزوجة بمحبة قلبية، فما عبد الله من أحبه ولم يطعه، كما أنه ما عبده من أطاعه ولم يحبه، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية، أصل الدين معرفة الله عز وجل.
الإنسان عقل يدرك، وقلب يحب، وجسم يتحرك، غذاء العقل العلم، وغذاء القلب الحب، وغذاء الجسم الطعام والشراب، فإذا لبى هذه الحاجات الثلاث معاً تفوق، وإذا لبى واحدة منها تطرف، وفرق كبير بين التفوق والتطرف، والإنسان أي إنسان على وجه الأرض جبل على حبّ وجوده، وعلى حبّ سلامة وجوده، وعلى حبّ كمال وجوده، سلامة وجوده بطاعة ربه، باتباع تعليمات الصانع، لأن تعليمات الصانع هي التعليمات الوحيدة التي ينبغي أن تتبع، وكمال وجوده التقرب إلى الله بالعمل الصالح، واستمرار وجوده بتربية أولاده.
إن الإسلام وسط بين المادية المقيتة والروحية الحالمة، بين الواقعية المرة والمثالية التخيلية، بين الفردية الطاغية والجماعية الساحقة، بين الثبات الرتيب والتغير المضطرب، بين الحاجات الملحة والقيم البعيدة، لذلك والذي ينبغي أن يقال في هذا المقام وقبل أن تسمع أذن الدنيا عن حقوق الإنسان لاثني عشر قرناً أو تزيد، ويوم كان العالم كله لا ينظر إلى الإنسان إلا من جهة ما عليه من واجبات يُطالب بأدائها، وإلا كان عليه من العقاب ما يستحق، جاء الإسلام ليقرر جهرة أن للإنسان حقوقاً ينبغي أن تُرعى، كما أن عليه واجبات يجب أن تؤدى، وكما أنه يُسأل عما عليه يجب أن يعطى ما له، فكل واجب يقابله حق، كما أن كل حق يقابله واجب. من هذه الحقوق التي أعلنها الإسلام حق الحياة، وحق الكرامة الإنسانية، وحق التفكير، وحق التدين، وحق الاعتقاد، وحق التعبير، وحق التعلم، وحق التملك، وحق الكفاية، وحق الأمن من الخوف:
1. حق الحياة:
لقد قدس الإسلام حق الحياة، وحماه بالتربية، والتوجيه، والتشريع، والقضاء، وبكل المؤيدات النفسية، والفكرية، والاجتماعية، وعدّ الحياة هبة من الله تعالى لا يجوز لأحد كائناً من كان أن يسلبها منه، فالإنسان بنيان الله، وملعون من هدم بنيان الله. وقد أنكر الإسلام على أهل الجاهلية قتلهم أولادهم سفهاً بغير علم، قال تعالى: ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ ولم يفرق الإسلام في حق الحياة بين أبيض وأسود، ولا بين شريف ومشروف، ولا بين حر وعبد، ولا بين رجل وامرأة، ولا وبين كبير وصغير، حتى الجنين في بطن أمه له حرمة لا يجوز المساس بها، ومن هنا جاء تحريم الإجهاض، حتى الجنين الذي ينشأ من طريق حرام، لا يجوز لأمه ولا لغيرها أن تسقطه، لأنه نفس بريئة، لا يحل لاعتداء عليها، فلا تزر وازرة وزر أخرى. لقد شُرع القصاص صوناً لحياة كل الأطراف، وشرعت الدية والكفارة في القتل الخطأ، وقد حمى الإسلام حياة الحيوان أيضاً، إن لم يكن منه أذىً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دخلت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت فدخلت فيها النار؛ لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)).
2. حق الكرامة:
هذا عن حق الحياة فماذا عن حق الكرامة؟ هي بالمصطلح الإسلامي حماية العرض، فقد أكد الإسلام حرمة العرض والكرامة للإنسان مع حرمة الدماء والأموال، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أعلن ذلك في حجة الوداع أمام الجموع المحتشدة في البلد الحرام والشهر الحرام، واليوم الحرام فقال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله حرم عليكم دماءكم وأعراضكم وأموالكم)) فلا يجوز أن يُؤذى إنسان في حضرته، ولا أن يهان في غيبته، سواء أكان هذا الإيذاء للجسم بالفعل أم للنفس بالقول، فربما كان جرح القلب بالكلام أشد من جرح الأبدان بالسياط. لقد حرم الإسلام أشد التحريم أن يُضرب إنسان بغير حق، وأن يُجلد ظهره بغير حد، وأنذر باللعنة من ضرب إنساناً ظلماً، ومن شهده يضرب ولم يدفع عنه، كما حرم الإسلام الإيذاء الأدبي للإنسان، حرم الهمز، وحرم اللمز والتنابز بالألقاب، والسخرية، والغيبة، وسوء الظن بالناس، وكفل الإسلام صون كرامة الإنسان بعد مماته، ومن هنا جاء الأمر بغسل الميت، وتكفينه، ودفنه، والنهي عن كسر عظمه، أو الاعتداء عليه، أو على جثته، وقد جاء في الحديث النبوي: ((كسر عظم المَيْت ككسره حياً)) وكما حمى الإسلام جسم المَيْت بعد الموت حمى عرضه وسمعته لئلا تلوكها الأفواه، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا تذكروا موتاكم إلا بخير))
3. حق الكفاية:
فمن حق كل إنسان أن تُهيأ له كفايته التامة من العيش، حيث تتوافر له الحاجات الأساسية للمعيشة، من مأكل، وملبس، ومسكن، وعلاج، والأصل أن يكون للإنسان دخل كاف يحقق كفايته منه عن طريق مشروع من زراعة، أو تجارة، أو صناعة، أو وظيفة، أو حرفة، فإن لم يكن للإنسان دخل يكفيه كان على أقاربه الموسرين أن يحملوه لأنه جزء منهم، قال تعالى: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فإن لم يكن له أقارب موسرون يستطيعون حمله وجبت كفايته من الزكاة التي فرضها الله على المسلمين، تؤخذ من أغنيائهم، وترد على فقرائهم، والزكاة فرضت لتحقيق تمام الكفاية، وذكر الفقهاء أن الزواج لمن لا زوجة له من تمام الكفاية، وأن آلات الحرفة من تمام الكفاية، وأن كتب العلم وأقساط الجامعات من تمام الكفاية، وهذه الكفاية التامة تجب للإنسان الفقير تجب له، ولأسرته مدة عام بأكمله على مذهب، ومدة العمر كله على مذهب آخر، حيث يغدو آخذ الزكاة دافعاً للزكاة، يقول عمر رضي الله عنه ـ: إذا أعطيتم فأغنوا . ومن ثمرات الإنسانية في الإسلام:
1. مبدأ الإخاء البشري:
الذي نادى به الإسلام، وأساس هذا المبدأ أن البشر جميعاً أبناء رجل واحد وامرأة واحدة، ضمتهم هذه البنوة الواحدة المشتركة، والرحم الواصلة، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عليم﴾ وربما فهمت كلمة الأرحام في هذه الآية بالمعنى الإنساني الواسع لتتسق مع بداية الخطاب، رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في دعائه: ((... اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة))
2. مبدأ المساواة الإنسانية:
أساس هذا المبدأ أن الإسلام يحترم الإنسان، ويكرمه من حيث هو إنسان، الإنسان من أية سلالة، ومن أي لون، من غير تفرقة بين عنصر وعنصر، وبين قوم وقوم، وبين لون ولون، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾. لمجرد أن تتوهم أن لك ما ليس لغيرك، أو أن على غيرك ما ليس عليك، فأنت عنصري، هذا يبدأ من تصرف الزوج مع زوجته، وينتهي بحق الفيتو في مجلس الأمن، حينما تتوهم أن لك حقوقاً ليست لغيرك، وأن عليهم واجبات ليس عليك فالإنسان عندئذ عنصري، وما دامت العنصرية سائدة في المجتمع الدولي فالعنف لا يقف، لذلك لا يصلح للناس إلا العدل الذي يقابل العنصرية الموقف الإنساني.