بحث

حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله

حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله

بسم الله الرحمن الرحيم

مهامك:  

      أيها الأخوة الأكارم،   

      لو أنَّ إنساناً يتيه في صحراءَ موحشةٍ، أو في غابة فيها وحوشٌ مفترسة، أو في أرضٍ وَعرةٍ فيها مخاطرُ ثابتةٌ، وأنت رأيته في هذه الحالة الخطيرة التي تدعو إلى الشَّفقة، مهمتك الأولى أن تدعُوَه إلى مكانٍ آمنٍ، إلى حصنٍ حصينٍ، إلى بستانٍ مَحاطٍ، إلى قصرٍ مُنيفٍ، فإذا رضي واستجاب لك، ودخل هذا البستان الآمن أو إلى هذا القصر المنيف، فقد أصبح لك مهمَّةٌ ثانيةٌ، وهي أن تعرِّفَه مداخل هذا القصر ومخارجه، وأماكن النوم، وأماكن الرَّاحة، وأماكن الطَّعام فلمّا كان خارج القصر كانت له طريقة في التوجيه، فإذا دخل إلى القصر فله طريقة أخرى.  

      فحينما تدعو إلى الله عز وجل ورأيتَ إنساناً شارداً تائهاً عاصيًا مقيماً على معصية، عقيدته زائغة، تصَوُراته غير صحيحة، هذا الإنسان عليك أن تدعوَه إلى الله، عليك أن تقنعه بأحقِّية هذا الدِّين، عليك أن ترشده إلى طريق الحق، فإذا استجاب وسلك هذا الطريق عليك أن تبيِّن له الجزئيات، الأمرَ الإلهي، النَّهي الإلهي، حقيقة الدُّنيا، فمهمة الدَّاعية إلى الله عز وجل تجاه الإنسان الشَّارد لها طبيعة، وبعد أن يستجيب هذا الإنسان فللدعوة طبيعة أخرى، فحينما نخاطب أخوةً كراماً مؤمنين آمنوا بالله عز وجل، آمنوا بوجوده، آمنوا بكمالاته ووحدانيته، وآمنوا  برسوله و بكتابه، هؤلاء الأخوة الأكارم الذين استجابوا لله، يجب أن نبصِّرهم بدقائق الأفعالِ، وبدقائق السُّنة، وبدقائق الأحكام الفقهية، وبطبيعة المنهج الدَّقيق الذي ينبغي أن يسيروا عليه، هذه مهمة ثانية.   

      لذلك طلب العلم لا ينقطع بل يستمر ما دام المسلم حيًّا، لكن في كل طوْرٍ هناك موضوعاتٌ ينبغي أنْ نُعْنى بها،   

      هذا ما حصل تماماً في عهد الصحابة الكِرام، ففي المرحلة الأولى كانت الدعوة إلى الله والإيمان به، والإيمان باليوم الآخر والرسُل والملائكة والقدر خيره وشَرِّه، وكانت دعوة إلى التفكُّر في الكون، وإلى إقام الصلاة، ودعْوةٌ إلى ضبْط الشهوات والالْتِزام، والتضْحِيَة، والهِجْرة.   

      فلما اسْتجاب أصحاب النبي لله وللرسول فيما دعاهم إليه وهاجَروا معه واسْتَقَروا في المدينة، جاءَتْ آياتُ التشريع، آية الدَّيْن وأحكام الطلاق، والزواج، وأحْكام البيْع،   

      فَنَحْنُ في مسيرتنا في هذه الحياة، نَطْلُب العلم دائِماً ولكن في كلِّ مرحلةٍ، ونحْتاج إلى موضوعات خاصَّةٍ بها، نحن آمنا بالله ورسوله وكتابه، ثم نريد أنْ نقْتَدِيَ بأصْحاب النبي صلى الله عليه وسلَّم، بهؤلاء الذين خصَّهم الله بالنبيِّ عليه الصَّلاة و السَّلام، بهؤلاء الذين رضي الله عنهم، بهؤلاء الذين اختارهم الله لصُحبة نبيه عليه الصَّلاة والسَّلام، بهؤلاء الأبطال الذين وصفهم النبي عليه الصَّلاة والسَّلام، فقال:  "علماء حكماء كادوا بفقههم أن يكونوا أنبياء "  

      هؤلاء الذين كانوا قادة ألوية النبي عليه الصَّلاة والصلاة والسَّلام، وكانوا رسلَه إلى بقية الأمم والشُّعوب.  

      حديثنا عن سيِّدنا حمزة بن عبد المطَّلب، عم النبي عليه الصَّلاة والسلام،   

واقعية حمزة بن عبد المطلب واعتداله:  

      كان سيدنا حمزة مرَّةً في فناء الكعبة، حيثُ سادة قريشٌ يتحادثون، فجلس معهم ليسمع ما يقولون، وكانوا يتحدَّثون عن محمد صلى الله عليه وسلم، ولأوَّل مرَّةٍ رآهم يقلقون على مصيرهم من هذه الدعوة الجديدة، ويُعبِّرون عن حقدهم وغيظهم وعن مرارة قلوبهم، كان هو متفائلاً معتدلاً واقعيًّا، فلم يبالغ هذه المبالغة، ولم ينطوِ على هذا الحقد، وهو ليس على دين محمد، ولكن لا ينطوي على حقد على ابن أخيه، ولا على كُرهٍ للحق، هذا الذي أريده، هؤلاء الذين لم يقاتلوكم في الدين، قال الله عز وجل: ( لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)  

 انصاف سيدنا حمزة:  

      هناك اسْتِنباط من هذه القِصَّة، فأكثر الأشْخاص عامِلُ السِنِّ حِجابٌ بينهم وبين الله، مثلاً إذا كان أكبر من هذا الذي يدْعو إلى الله سِناًّ، لا يسْتمع إليه، لذلك دائِماً عقدة الآباء مع أبنائِهم، فالأب يقول: هذا ابني، أنَّى له أن يسْبِقَني، وقد يسْبِقُ الابن أباهُ، قال تعالى: ( يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً )

      فَسَيِّدُنا حمزة مع أنه كان عمَّ النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك عرف قَدْرهُ وصِدْقَهُ، وعرف أمانته وإخْلاصه وقيمته عند الله عز وجل، فالسُّعداء أيها الأخوة، لا يمْنعهم فارق السِّنِّ من أن يسْتمعوا وأن يتَّبِعوا.  

      أحْياناً يكون الشخْصُ مدير ثانويَّة لا يُمْكن أنْ يسْتجيب لِمُعَلِّمٍ عنده، كذلك طبيبٌ كبير لا يسْتجيب لِمُمَرِّض، مديرٌ عام لا يسْتجيب لِمُوَظَّف صغيرٍ عنده، ففارق المرتبة الاجتِماعِيَّة والسِّن  أو فارق المستوى الاقتِصادي، هذا حِجابٌ بين العبد والحقّ، فَسَيِّدُنا حمزة وهو عمُّ النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك عرف قَدْره، بل إن العباس رضي الله عنه لشدَّة أدبه مع رسول الله، سُئِلَ مرَّةً:   

      أيُّكُما أكبر أنت أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو أكبر مني، وأنا وُلِدْتُ قبله،   

      أحْيانًا أنت تحمل شهادة، ويُلْقي الله في قلب إنسان أقلَّ منك عِلمًا، وتكون أنت من ذوي الشهادات العاليَة، يُنْطِقُهُ بالحِكمة، ويُلقي في قلبه السكينة، فلا يكون فارق السنِّ، ولا فارق الشهادة، ولا فارق المرتبة الاجتِماعِيَّة حِجاباً بينك وبين الحقّ،   

      قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ مِنْهُمْ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ  

      فالرجل قد يبْدو بليغاً، طليق اللِّسان، ووسيمَ المنظر، لا شأنَ له عند الله، وقد تجد إنساناً في مقاييس البشر في الدرجة الدنيا، وله عند الله شأنٌ عظيم،  كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ  

      لذلك هذا الأخلاقي الذي لا يُصلي أنت ترتاحُ له، ولكن لا ترْضى عن سُلوكه هذا الإنسان بالذات، لا بد أنْ يأتِيَ يومٌ يسْتجيب فيه لله عز وجل، أخْلاقِيَّتُهُ ونظافَتُهُ ومُروءَتُهُ هذه تُعينه على طلب الحقّ،   

سيدنا حمزة يعلن إسلامه:  

      فَسَيِّدنا حمزة خرج من داره مُتَوَشِّحاً قوسه، ومُيَمِّماً وجْههُ شطر الفلاة لِيُمارِس هِوايَةً يُحِبُّها، إنها الصَّيْد، وكان صاحِبَ مهارَةٍ فائِقَة فيها، قضى هناك بعض يومه، ولما عاد من صَيْده ذهب كَعَادتِهِ إلى الكعبة لِيَطوفَ بها قبل أنْ يقْفِلَ راجِعاً إلى داره، ماذا نسْتنبط من هذا؟ الإنسانُ مُتَدَيِّن بالفِطْرة.  

      الآن اذْهب إلى أيِّ مكانٍ في العالم، اِذْهب إلى شرق آسيا تجد مُثَقَّفين يدخُلون معْبد بوذا، ويُمارِسون طقوساً مُعَيَّنَة أمام صَنَمٍ كبير، وأمام هذا الصَّنم فواكه كثيرة توضَع لِيَأكلها ليلاً، والذين يأكُلونها هم الرُّهبان، وحتى الإنسان الذي له مرتبة اجْتِماعِيَّة وسِياسِيَّة يقْصد كاهِناً أو عرافاً لِيَسْتَنْبِئه الغيب،   

      وهذه كُلُّها إشارات إلى أنَّ الإنسان مُتَدّيِّنٌ بِالفِطْرة، فإما أنْ يتعلَّق بِالخُرافات والأباطيل والأكاذيب، وإما أنْ يتعلَّق بالحقّ فلا بد أنْ تكون عبْداً، إما أنْ تكون عبْداً لِخُرافَةٍ، أو لِفِكْرةٍ تافِهَة مغْلوطة، أو أنْ تكون عبْداً لله عز وجل، حتى على مُستوى عامَّة الناس تجده يُقيمُ على كلَّ المعاصي، لكنَّهُ لا بد أنْ يتبرَّك بِهذا الولِيِّ، ولا بد أن يذْبح خروفاً على روح فلان، فهؤلاء العُصاة والمُنْحَرِفون لهم سُلوكٌ ديني - غير صحيح طبْعاً- فالتَدَيُّن بِالفِطرة، فهؤلاء الذين ينْدَفِعون للكَهَنَة من العُصاة، إنما ينْدفِعون بِفِطْرتهم، لماذا ينْدفعون لهذا؟ لأنّ الإنسان ضعيف يُحِبُّ أنْ يلْجأ إلى قَوِيّ، وكل الخُرافات الدِّينِيَّة منْبعُها هذه الحاجة الفِطْرِيَّة إلى التدَيُّن.  

      قريباً من الكَعْبة لَقِيَهُ خادِمٌ لِعَبْد الله، ولم تكد تبصرُه حتى قال له: يا أبا عُمارة - وهي كنية سيدنا حمزة- لو رأيتَ ما لقيَ ابن أخيك محمدٌ آنفًا من أبي الحكم بن هشام، فآذاه وسبَّه، وبلغ منه ما يكره، فسيدنا حمزة بكل مروءته وشهامته وغيرته، وبكل إنصافه توَشَّح سيفه، واتَّجه ليقتصَّ من أبي الحكم بن هشام، بحث عنه فإذا هو في جوار الكعبة، تقدَّم نحوه، واستلَّ قوسه، وهوى به على رأسه فشجَّه وأدماه، وقبل أن يفيق الجالسون من الدهشة صاح حمزة بهم وصاح في أبي جهل: أَتَشْتُمُ محمَّداً وأنا على دينه، أقول ما يقول؟ أسلم سيِّدنا حمزة، ولكن بِمَوْقفٍ ارْتِجالي، وموقف دفعته إليه حَمِيَّتُهُ لابن أخيه، وإنْصافُهُ وغَيْرَتُهُ، أسْلم وتحَدى المُشْرِكين.  

حالتا الشك واليقين التي مر بهما حمزة أثناء إسلامه:  

      أيها الأخوة، أدَعُكُم معه لِيُعبِّر عن حالةٍ نفْسِيَّة ألمَّتْ به، يقول سيِّدنا حمزة:   

       أدْركني النَّدَم على فِراقي دين آبائي وقَوْمي، وبِتُّ في شكٍّ من أمرٍ عظيم، لا أكْتَحِلُ بِنَوْم، ثمّ أتَيْتُ الكعبة وتضرَّعْتُ إلى الله أنْ يشرح صدْري،   

      مفْهوم الإله مفْهومٌ عامٌ في كلِّ مكان وزمانٍ، وفي كلِّ مِصر.  

       فاستجاب الله لي، وملأ قلبي يقيناً، وغدوتُ إلى النبي عليه الصلاة والسلام فأخبرتُه بما كان من أمري، فدعا الله أن يثبِّتَ قلبي على دينه،   

      كذلك هنا استنباط، أنتَ لك علاقة مع الله مباشرة، لك ابتهالات، لك سؤال إلى الله، لا شكَّ أنَّ في حياتنا أشياءَ مُحَيِّرةً، أحياناً يلجأ إلى الله، يا رب أنت تعلم وأنا لا أعلم، دُلَّني بك عليك، دُلَّني على رجلٍ يُحِبُّك، إنْ كان هذا يُحِبُّك وتُحِبُّه فألْقِ حبي فيه، إنْ كان هذا على الحق فاجْعَلْني أميل إليه، فاجْعل بينك وبين الله سُؤالاً وعلاقة، كما فعل سيِّدُنا الحمزة.  

حديث وحشي كيف خطط لقتل سيدنا حمزة؟  

      في معْركة بدْرٍ قُتِل أبو جَهْل، وعُتْبَة بن ربيعة عبد، وشيْبَة بن ربيعة، وأُمَيَّة بن خلف، وعُقْبَة بن أبي مُعيط، والأسود بن الأسد المخْزومي، والوليد بن عُتبة، والنَّضر بن الحارث، والعاص بن سعيد، وطعْمَة بن عدِيّ، وعشَرات من زُعَماء قريش، ومن أعلى مُستوى من مُسْتَوَياتهم.  

      فغزوَةُ أُحد كانت أخْذًا بالثَّأر لِهؤلاء القتْلى، فهذا وَحْشي الذي قتل سيِّدَنا حمزة -طبْعاً أسْلم- وبعد أنْ أسْلم يرْوي كيف قتله؟ يقول وَحْشي:   

      كنتُ عَبْداً لِجُبَيْر بن مُطعم، وكان عمُّ جُبَيْر قد لَقِيَ مصْرَعَهُ يوم بدْرٍ، فقال له جُبَيْر: اُخْرج مع الناس، وإنْ أنت قتَلْتَ حمزة فأنت عتيق، ثمَّ أحالوه إلى هند بنت عُتبة زوجة أبي سُفْيان لِتَزيدهُ تحْريضاً ودفْعاً إلى الهدف، وكانت هند قد فَقَدَت في معركة بدْرٍ أباها وعَمَّها وأخاها وابنها، وقيل لها: إنَّ حمزة هو الذي قتل بعض هؤلاء، وأجْهَزَ على البعض الآخر، من أجل ذلك كانت هند بنت عتبة زوجة أبي سُفيان أكثر القُرَشِيات تَحْريضاً للخُروج للحرب، لا لِشَيْءٍ إلاّ لتظفر بِرَأسِ حمزة مهما يكُن الثمن، ولقد لَبِثَت أياماً قبل الخُروج وليس لها عمل إلا إفْراغُ كُلِّ حِقْدِها في صدْر وَحْشي، ورسْم الدَّوْر الذي يقومُ به، كُلُّ قلائِدِها وكُلُّ أساوِرِها وأقْراطِها وخلاخِلِها وزينتها هِبَةٌ لِهذا الوَحْشي إذا قتل حَمْزة.   

      يقول وَحْشي:   

      كُنتُ رجُلاً وحْشِياً حَبَشِياً، أقذِفُ بالحَرْبة قذْف الحَبَشَة، فقَلَّما أُخْطِئُ بها شيئاً، ولما الْتَقى الناس خَرَجْتُ أنظر حمزة وأتَبَصَّرُهُ، حتى رأَيْتُهُ في عَرْض الناس مثل الجمل الأورق، يَهُدُّ الناس بِسَيْفِه هداً، ما يقِفُ أمامه شيءٌ، فو الله بينما كنتُ أتَهَيَّأُ له أريدهُ وأسْتَتِرُ منه بِشَجَرَةٍ لِأتَقَحَّمَهُ، أو يَدْنُوَ مني إذْ تَقَدَّمني سُباعُ بن عبد العُزَّى فلما رآهُ حمزة صاح به قائِلاً: هلمَّ إليّ، ثمّ ضربه ضربةً فما أخْطأ رأسه، قال وحشي: عندئذٍ هَزَزْتُ حَرْبتي حتى إذا رضيتُ منها دَفَعْتُها حتى وقَعَتْ في ثُنَّتِهِ، أيْ تحت سُرَّتِه، حتى خرجت من بين رِجْلَيْه، ونهض نحوي ثم غلب على أمْره فمات، وأتَيْتُهُ فأَخَذْتُ حَرْبَتي، ثمَّ رَجَعْتُ إلى المُعَسْكر، فَقَعَدْتُ فيه، إذْ لم يكن لي فيه حاجةٌ، فقد قَتَلْتُهُ لأُعتَقَ.  

      ثم قال: لقد أمـرتْ هندُ بنت عُتبة وَحْشِياً أنْ يأتِيَها بِكَبِد حمزة، واسْتجاب الحَبَشِيُّ لِهذه الرغبة المذعورة، وعندما عاد بها إلى هند، كان يُناوِلُها الكبد بِيُمْناه، ويتلقى قِرْطها وقلائِدها بِيُسْراه، مُكافَأةً له على إنْجاز هذه المُهِمَّة.  

 

المصيبة التي فجع لها النبي والمسلمين:  

       النبي عليه الصلاة والسلام حينما رأى سيّدنا حمزة قد قُتِل ومُثِّل به، قال:  لن أُصابَ بِمِثْلِك أبداً  

      أيْ هذه أكبرُ مصيبةٍ في حياتي، هكذا كان وفاءُ النبي وحُبُّهُ صلى الله عليه وسلَّم،  وما وَقَفْتُ مَوْقِفاً قطُّ أغيَظ من مَوْقِفي هذا  

      تَرْوي بعضُ الكُتُب أنَّ أصْحابه تَمَنَّوا أنْ يُمَثِّل بقتلى قُرَيْش، فقال عليه الصلاة والسلام كما في حديث بُرَيْدَةَ، قَالَ:   

       كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، فَقَالَ: اغْزُوا بِسْمِ اللَّهِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا  

      وَكَرِهَ أَهْلُ الْعِلْمِ الْمُثْلَةَ.  

على مثلك أبو عمارة تبكي البواكي:  

      حينما انْصَرَفَ النبي من مَوْقِعة أُحد مرَّ على نِساءٍ من بني عبد الأشْهل يبْكينَ شُهَداءَهنّ، فقال عليه الصلاة والسلام من فَرْط حنانه وحُبِّه: لكنَّ حمزة نام وما بُكِيَ له، فَهِم أصْحابه أنه لا بد من أن تأتي النِّساء لِتَبْكي حَمْزة، فلما سمع النبي البُكاء، قال: ما إلى هذا قَصَدْتُ، اِرْجِعْنَ يرْحَمْكُنَّ الله، فلا بُكاء بعد اليَوْم،   

      كالنواح، وضرب الوجه، وتمْزيق الثياب.  

       أذكر أنني كُنتُ في جنازة فَخَرَجَتْ زوْجَةُ ذاك الشخْص المُتوفَّى إلى الطريق تُوَلْوِل حاسرة متكشفة، هكذا بلا شيءٍ، كل هذا من فِعْل الجاهِلِيَّة، أمّا مَوْتُهُ واسْتِشْهادُه كُلُّ هذا قضاءٌ وقدَر، والإنسانُ كلما ارْتقى إيمانه انضبطتْ أحْزانه، يبْكي ويتألَّم،   

       فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ:   

       دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ، وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ: يَا ابْنَ عَوْفٍ، إِنَّهَا رَحْمَةٌ ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ  

كلمة قالها النبي عند قبر حمزة تهتز لها القلوب:   

      على هامِش هذه القِصّة عبرةٌ تَعْرِفونها جميعاً، فالنبي عليه الصلاة والسلام حينما وقف على قَبْره قال هذه الكَلِمة:  رَحْمَةُ الله عليك، فإنَّك كُنتَ كما عَلِمْتُ وَصولاً للرحِم، فَعولاً للخَيْرات  

      اُنظر أيها المؤمن إلى الأدب مع الله، المؤمن لا يُزَكي على الله أحداً.  

موقف النبي الكريم من وحشي قاتل عمه:  

      يقول وحشي:   

      لما قَدِمْتُ مكَّة أُعْتِقْتُ حسب الوَعْد، ثمَّ أقَمْتُ بها حتى دخلها النبي عليه الصلاة والسلام يوم الفتح، فهَرَبْتُ منها إلى الطائِف، فلما خرج وفْدُ الطائف إلى النبي عليه الصلاة والسلام لِيُسْلم ضاقَتْ عَلَيَّ المذاهب، وقُلْتُ: ألْحُق بالشام أو اليمن أو سِواهما، فو الله لأني في ذلك من هَمِّي وحُزْني إذْ قال لي رَجُلٌ: وَيْحَكَ إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم لا يقْتُلُ أحداً من الناس يدْخُلُ في دينه، فَخَرَجْتُ حتى قَدِمْتُ على النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة فلم يرني إلا قائِماً أمامه أشْهَدُ شهادة الحقِّ، أشْهد أنْ لا إله إلا الله، وأشْهد أنَّ محمَّداً رسول الله، فلما رآني النبي، قال: أَوَحْشِيٌّ أنت؟! قلتُ نعم، يا رسول الله! فقال: حَدِّثْني كيف قَتَلْتَ حمزة؟ فَحَدَّثْتُهُ فلما فَرَغْتُ من حديثي، قال: وَيْحك! غَيِّبْ عني وَجْهَك، اللهم هذا قَسْمي فيما أمْلك، فأنا أملكُ أنْ أعْفُوَ عنه، ولكن لا أمْلكُ أنْ أراه! قتَلَ أحبَّ الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فَكُنْتُ أتنكَّبُ طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيثُ كان، أيْ لا أُواجِهُهُ حتى لا يراني حتى قبضه الله إليه قال: فلما خرجَ المُسلمون إلى مُسَيْلَمة الكَذاب -هذه بِتِلْك- صاحِبِ اليمامة خَرَجْتُ معهم وأخذْتُ حَرْبتي التي قَتَلْتُ بها حمزة فلما الْتقى الناسُ رأيـْتُ مُسَيْلمة الكذاب قائِماً في يده السَّيْف وتهيَّأتُ له وهَزَزْتُ حَرْبتي حتى إذا رَضيتُ منها دَفَعْتُها عليه فَوَقَعَتْ فيه، فإنْ كُنْتُ قد قتلْتُ خير الناس بحربتي هذه، وهو حَمْزة، فإني لأرْجو اللهَ أنْ يغفر لي إذْ قَتَلْتُ بها شرَّ الناس مُسيْلَمَة  

      أنا قرأتُ بعض التاريخ الذي يتحدَّثُ عن فتْح القُدْس في عهْد الصَلِيبيين، فالصَلِيبِيُّون قتلوا في القدس سبْعين ألف مُسلمٍ في يومٍ واحد، ذبحوهم ذَبْحاً، فلما فتح القُدْس سيّدنا صلاح الدِّين عفا عنهم جميعاً وكان أرحم بهم من أنفسهم، هذا هو المؤمن، فهناك أخْلاقٌ شَرَعَها الله لنا.   



المصدر: السيرة - رجال حول الرسول - الدرس (08-50) : سيدنا حمزة بن عبد المطلب