بحث

خطط قبل أن يخطط لك

خطط قبل أن يخطط لك

بسم الله الرحمن الرحيم

     سأنطلق في هذا اللقاء الطيب من مقولة أنا أراها خطيرة جداً، هذه المقولة: إما أن تخطط وإما أن يخطط لك، إما أن تضع خطة في حياتك، تفحصها من حين لآخر، تعدلها، إما أن ترسم هدفاً وتتخذ له وسائل فأنت في حالة راقية جداً، وأما أن تدع الآخر يخطط لك، إن خططت، إن رسمت الهدف، إن انتقيت الوسائل، كنت رقماً صعباً، أما إذا خُطط لك تكون رقماً سهلاً، أنا أخاطب الشباب خطط لمستقبلك، ماذا تريد أن تكون حينما تضع هدفاً واضحاً؟ هناك مقولة أتأثر بها كثيراً، إن القرار الذي يتخذه الإنسان في شأن مصيره قلّما تنقده الأيام.  ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾  مستحيل أن تبحث عن الحقيقة ولا تصل إليها، مستحيل وألف ألف مستحيل أن تبحث عن هدف نبيل ولا تصل إليه، خطط، حياة يومية، أكلنا، شربنا، عملنا، تعبنا، سهرنا، نمنا، استيقظنا، أنجبنا، زوجنا، ثم تأتي النعوة، هذا شأن معظم البشر، مليارات ممليرة لم يدرِ بها أحد، وقلة قليلة ممن خططوا لمستقبلهم صاروا أعلام الأمة.  

     مرة سألت طلابي من يأتيني باسم تاجر عاش في الشام عام ألف وستمئة وسبعة وتسعين وله علامة تامة، لم يتمكن أي طالب أن يعطيني أي اسم، قلت لهم: وأنا أيضاً لا أعرف، أما سيدنا صلاح الدين الذي خطط، وانتصر على سبعة وعشرين بلداً غربياً، سيدنا الصديق، سيدنا عمر، سيدنا عثمان، سيدنا علي، الإمام الشافعي، أبو حنيفة، أقطاب العلم، أقطاب القيادة، أقطاب الإصلاح، أعلام الأمة، خططوا، هل تظن أن هذه إمكاناتك فقط؟ لا والله، كل إنسان عنده طاقات إذا فجرت كان إنساناً كبيراً، خطط، هذه الحياة تمضي سريعاً، كل واحد منكم وأنا معكم له عمر يسأل نفسه هذا السؤال المحرج، كيف مضت هذه السنوات؟ مضت كلمح البصر، صدق ولا أبالغ سوف تمضي السنوات المتبقية من أعمارنا أيضاً كلمح البصر، فجأة كنت رجلاً فأصبحت خبراً، نعوة، اقرأ هذه النعوات أصحابها كانوا رجالاً، كانوا عمداء، كانوا تجاراً، أصبحوا خبراً على الجدران، أليس كذلك؟ ماذا أعددنا لهذه اللحظة؟ ماذا أعددنا لرحلة الانتقال من بيت إلى قبر؟ هل هناك من حدث في حياة البشر أكثر واقعية من مغادرة الدنيا؟ هل يجرؤ إنسان أن يقول أنا لا أموت؟ أبداً، ماذا خططت لساعة لقاء الله عز وجل؟ ما العمل الصالح الذي تدخره يوم القيامة؟ ما العمل الصالح الذي ينزل معك إلى القبر؟ تزوجت، أكلت، شربت، نمت، استيقظت، سافرت، تنزهت، أشياء طبيعية لا تذكر عند الموت، ما الذي يذكر عند الموت؟ الأعمال الجليلة.  

     سيدنا الصديق، سيدنا عمر، سيدنا عثمان، سيدنا علي، الصحابة الكرام؛ صلاح الدين الأيوبي، الإمام أبو حنيفة، الشافعي، من أنت؟ أنت ليس أقل من أي واحد، الله عادل، ما الذي يمنعك أن تكون شيئاً مذكوراً؟ ما الذي يمنعك أن تكون إنساناً كبيراً عند الله طبعاً؟ خطط، ادرس، احصل على شهادة عليا، التقيت مع شخص قال لي: عمري سبعون سنة اليوم أخذت ليسانس بالأدب العربي، ما هذه الهمة؟ سبعون سنة أراد أن يدرس اللغة العربية. إنسان أرسل ابنه إلى الأزهر ليتعلم، بعد خمس سنوات عاد يحمل الشهادة، وعيّن خطيباً في قريته، فلما ألقى خطبة أمام أبيه الأمي ـ والده أمي، عمره خمسة وخمسون عاماًـ بكى الأب بكاء مراً، كل من حول الأب توهموا أنه بكى فرحاً بابنه، والحقيقة خلاف ذلك، هو بكى أسفاً على نفسه، كيف أمضى حياته في الجهل، ركب دابته هو في صعيد مصر، واتجه نحو القاهرة، وبقي يمشي شهراً إلى أن وصل إلى القاهرة، قال: أين الأزعر؟ لا يحفظ اسمه، قالوا له: ما الأزعر؟ قال: مكان التعلم، قال: اسمه الأزهر، النتيجة أوصلوه إلى الأزهر، وفي الخامسة والخمسين بدأ بتعلم القراءة، والكتابة، وتابع وما مات إلى شيخ الأزهر. أي واحد منكم من أي عائلة، من أي أسرة، من أي مصدر، من أي عرق، أي واحد منكم بإمكانه أن يصل إلى أهدافه كلها، والدليل:  ﴿كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾  إن القرار الذي يتخذه الإنسان في شأن مصيره قلّما تنقده الأيام إذا كان صادراً حقاً عن إرادة وإيمان، كن ابن من شئت غني، فقير، موظف، تاجر، مدني، ريفي، على العين والرأس عند الله، دخل على النبي شخص قال له: " أهلاً بمن خبرني به جبريل، قال له: أو مثلي؟! قال له: نعم يا أخي، خامل في الأرض علم في السماء ". 

     فكر، خطط، رسول عامل سيدنا عمر على أذربيجان ـ هذه في الشمال، بعهد سيدنا عمر أذربيجان دولة تابعة للاتحاد السوفيتي سابقاً كانت ولاية عند سيدنا عمر في المدينة ـ فعامله على أذربيجان أرسل رسولاً، وصل المدينة في الليل، فكره أن يطرق باب أمير المؤمنين، فتوجه إلى المسجد، فسمع رجلاً يبكي ويصلي ويقول: ربي هل قبلت توبتي فأهنئ نفسي أم رددتها فأعزيها؟ سأله: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا عمر، قال: يا أمير المؤمنين ألا تنام الليل؟ قال: أنا إن نمت ليلي أضعت نفسي أمام ربي، وإن نمت نهاري أضعت رعيتي. خطط، سيدنا عمر صار عملاق الإسلام، صار من الخلفاء الراشدين، سيدنا عمر كان يخطب مرة فجاءه خاطر أنه ليس بينك وبين الله أحد، هو أمير المؤمنين، قطع الخطبة وقال: كنت عميراً ترعى غنماً لبني مخزوم على قراريط، كنت راعياً، فسأله أحد الصحابة لمَ قلت هذا؟ ما علاقة هذا الكلام بموضوع الخطبة؟ قال: جاءتني نفسي وأنا أخطب وقالت لي: ليس بينك وبين الله أحد فأردت أن أعرفها قدرها، كنت أرعى غنماً لبني مخزوم على قراريط. خطط، فكر، اطلب أن تكون مؤمناً كبيراً، أدِّ العبادات، اقرأ القرآن الكريم، اطلب العلم، من كانت له بدايةٌ محرقة كانت له نهاية مشرقة. 

     إن كنت مع الله كان الله معك، إن أقبلت عليه أقبل عليك، إن توددت إليه تودد إليك، إن أتيته مشياً أتاك هرولة،  ((إِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعاً، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعاً، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً))  لو يعلم المعرضون انتظاري لهم، وشوقي إلى ترك معاصيهم، لتقطعت أوصالهم من حبي، ولماتوا شوقاً إليّ، هذه إرادتي بالمعرضين، فكيف بالمقبلين؟ فكر، السكينة أين وجدها رسول الله؟ في الغار:  "يا رسول الله لقد رأونا، قال له: ما ظنك باثنين اللَّه ثالثهما" ، وجدها إبراهيم في النار:  ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾  وجدها يونس في بطن الحوت:  ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ*فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾  وجدها أهل الكهف في الكهف كانوا في القصور فوجدوها في الكهف:  ﴿فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا﴾  بمعرفة الله، أنت في جنة، وفي الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، والدليل:  ﴿وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾ ذاقوا طعمها في الدنيا. 

     الأمر بيدك لا يحتاج إلى مال، جنة الله في أرضه لا تحتاج إلى مال، لا تحتاج إلى سمعة، ولا إلى منصب، ولا إلى مكانة، ولا أنا ابن فلان، أي إنسان كائناً من كان إذا أقبل على الواحد الديان كان في جنة، إما أن تخطط وإما أن يخطط لك، خطط. انتبه لا تكن رقماً سهلاً، كن رقماً صعباً، سأقول لك كلمة دقيقة: لو أنت طبيب مثلاً وفحصت إنساناً ميتاً بسمٍّ، فإذا قلت: موته طبيعي نجا الذين سمموه، أنت طبيب قناعتك أنه مات بسمٍّ، طبعاً ترك الميت مئة مليون، قدموا لك خمسة ملايين، أنا أقول كلمة: لو قبضت المئة مليون، وكتبت وفاة طبيعية، انتهيت عند الله، المؤمن رقم صعب لا يكتب خلاف قناعته، لا تحت سياط الجلادين اللاسعة، ولا أمام سبائك الذهب اللامعة، المؤمن لا يباع ولا يشترى، هذه عظمة الإيمان:  ((والله يا عم! لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه))  هذا الإيمان، فالمؤمن مرتبة أخلاقية، لا يوجد مؤمن يكذب، ولا يغش، ولا يحتال، ولا يتآمر، ولا يحقد، ولا يخدع مستحيل:  ((يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ))  الإيمان مرتبة أخلاقية، والإيمان مرتبة علمية، هذا المؤمن عرف الله، عرف الحقيقة المطلقة، الذي عرف الله، أصل الكمال والجمال والنوال. إن عرفت الله عرفت كل شيء، وإن فاتتك معرفة الله فاتك كل شيء، والله أحب إليك من كل شيء، ابن آدم اطلبني تجدني، فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء. لا يوجد إلا الله أي إذا كنت معه كان معك:  ﴿إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمْ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾  إني معكم، دعك من المجموع، الدين الإسلامي دين جماعي، ودين فردي، دعك من الناس، إن لم يطبقوا الدين طبقه وحدك، تقطف كل ثماره وحدك، لا يوجد إلا الله، خلق لك الجنة، خلقك لجنة عرضها السماوات والأرض، أنا أتمنى أن تخطط، أن تضع خطة، أن تدقق في صلواتك الخمس، بتفكرك بخلق السماوات والأرض، دعك من كل الأفلام، هذه لا تقدم ولا تؤخر، دعك من الشاشة كلها، كلما اتسعت الصحون على السطوح ضاقت صحون المائدة، كلما رخص لحم النساء غلى لحم الضأن، وكلما قلّ ماء الحياء قلّ ماء السماء. لا يوجد إلا الله وأنت مخلوق للجنة، وعندما تتقرب من الله تجد دخلت في عالم آخر، ليس على وجه الأرض من هو أسعد مني إلا أن يكون أتقى مني 



المصدر: موضوعات إسلامية - متفرقة : 098 - خطط قبل أن يخطط لك .