القلب قلبان... قلب الجسم، وقلب النفس.
قلب النفس... له في الإنسان المكان الأول، وعليه في جميع الأمور المعولة، ولا عجب فهو القائد، والجوارح جنود له وخدم، وهو الآمر الناهي، والأعضاء أتباع له، وحشم، وحسبك فيه قول الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ و يقول عز وجل: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ أعظم شيء تصل به يوم نلقى الله عز وجل القلب السليم الذي لا يشتهي شهوة لا ترضي الله، كما أنه لا يصدق خبراً يتناقض مع وحي الله، ثم إنه لا يحكم غير شرع الله، ولا يعبد غير الله، فالإنسان إذا وصل إلى الدار الآخرة بقلب سليم فقد حقق وجوده، وحقق الهدف من خلقه، ووصل إلى أعلى سعادة يصلها بشر، هذا هو قلب النفس. ينبغي أن نعلم أن العبادات في مجموعها وعلى اختلاف ألوانها وأشكالها، تهدف أول ما تهدف إلى تطهير القلب من أمراضه النفسية وتحليته بالكمالات الربانية، كي يسمو الإنسان إلى خالقه، ويسعد بقربه، وينعم بجنته.
قلب النفس... هو الجانب المدرك من الإنسان، بدليل: قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ وقوله عز وجل: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾ هذا قلب النفس، هو المخاطب، هو المطالب، هو المعاتب، هو محل العلم والتقوى، والإخلاص والذكرى، والحب والبغض، والوسواس والخطرات، هو موضع الإيمان والكفر، والإنابة والإصرار، والطمأنينة والاضطراب.
قلب النفس... هو العالم بالله، هو المتقرب إلى الله، هو المقبول عند الله، إذا سلم من غير الله، هو المحجوب عن الله، إذا استغرق لغير الله، هو الذي يسعد بالقرب من الله، ويشقى بالبعد عنه، الإنسان يعتني ببيته، تعتني بغرفة الاستقبال، يعتني بمركبته، يعتني بثيابه، بهندامه، بشكله، بأناقته، كي ينتزع إعجاب الآخرين، فورد في بعض الأوراد القدسية: ((أن عبدي طهرت منظر الخلق سنين أفلا طهرت منظري ساعة)) لأن القلب منظر الرب. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ)) الإنسان قد يكون أنيقًا جداً، لكن قلبه ممتلئ غلاًّ وحقدًا وحسدًا ونيات سيئة للبشر، هذا ساقط من عين الله، ولأن يسقط الإنسان من السماء إلى الأرض أهون من أن يسقط من عين الله. ولا يفلح الإنسان، ولا يطيب له عمر إلا بزكاة قلبه، ولا يشقى إلا ببعد قلبه عن الله عز وجل.
قلب النفس... هو الذي يبغض ويحب، هو مركز النفس، هو منطلق النفس. لكن أنا أقول كلمة بمناسبة الحب: الإنسان الذي لا يشعر بحاجة إلى أن يُحِب، ولا أن يُحَبّ فليس من بني البشر، من خصائص البشر أنه يحب، ويُحِبُ أن يُحَبُّ، ولكن الذي يتمايز به البشر مضمون هذا الحب، فقد تحب الله، وإذا أحببت الله أحبك كل شيء، وإذا أحببت الله ألقى الله حبك في قلوب الخلق، إذا أحببت الله لان لك كل شيء، إذا أحببت الله هابك كل شيء، هذا حب مقدس، وقد تحب الحقيقة، وقد تحب أهلك وأولادك وزوجتك، هذا كله حب مشروع، ولكن المشكلة الكبيرة لا في أن تحب في الله، أن تحب مع الله، الحب مع الله عين الشرك، والحب في الله عين التوحيد، والحب ميل النفس، وقل لي من تحب أقل لك من أنت، الحب يحدد هوية الإنسان.
إن فتشت عن أعجب ما خلق الله في السماء والأرض لم تجد أعجب ولا أروع ولا أدق ولا أجمل من قلب الإنسان، تصلح أوتاره فيفيض رحمة وشفقة، وحباً وحناناً، ومعاني لطافاً، وشعوراً رقيقاً، حتى يتجاوز في سموه الملائكة المقربين. وتفسد أوتاره فينضح قسوة ولؤماً، وسوءًا حتى يهوي إلى أسفل السافلين، حوى على دقته كره العالم، فما أدقه، وما أجلّه، وما أصغره، وما أعظمه، يكبر ولا نرى كبره، فيتضاءل أمامه كل كبير، فيصغر ولا نرى صغره، فيتعاظم عليه كل حقير، اتحد شكل القلب، واختلفت معانيه. قلب الأنبياء ممتلئ رحمة، ممتلئ عدلاً، ممتلئ لطفاً، ممتلئ حناناً، وقلب الطغاة ممتلئ قسوة ولؤماً وحقداً، اتحد شكل القلب واختلفت معانيه، فقلب كالجوهر صفا لونه، وراق ماءه، وقلب كالصخر قوي متين ينفع، ولا يلمع، وقلب هواء خف وزنه، وحال لونه، يموت القلب، ثم يحيا، ويحيا، ثم يموت، ويرتفع إلى الأوج، ويهبط إلى الحضيض، وبينما هو يسامي النجوم رفعة إذا هو يلامس القاع ضعة، أليس أعظم بناة العالم قد امتازوا بكبر القلب، وصدق الشعور، وقوة الإرادة، إما إن من وجد كل شيء وفَقَد قلبه لم يجد شيئاً،إن قلب الجسد أيضاً من أعجب ما خلق الله...
قلب الجسد... القلب حقيقة الإنسان، ومن العجب أن الله سبحانه وتعالى جعل قلب الجسد أساسياً في حياة الجسد، كيف أن القلب في النفس هو أساسي في سعادتها، كذلك قلب الجسد أساسي في سلامته، وانتظام عمل أعضائه وأجهزته. بل إن الله سبحانه وتعالى جعل بسلامة قلب النفس سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، وجعل بسلامة قلب الجسد سلامته من كل الأمراض الوبيلة. يَقُولُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((... أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ)) كأنني أشعر أن هذا الحديث يتوجّه إلى قلب الجسد، ذلك لأن العناية بالقلب عناية بالحياة، هناك أعضاء في الإنسان لو أن عطباً أصابها تبقى حياة الإنسان مستمرة، ولكن القلب إذا أصابه عطب تنتهي حياته، ذلك لأن القلب هو المضخّة، فالعناية بها عناية بنشطات الإنسان، وكما تعلمون أن صحة الإنسان أعظم نعمة بعد نعمة الإيمان. الإمام علي كرم الله وجهه جعل نعمة الصحة تأتي بعد نعمة الإيمان، وتأتي الكفاية بعد نعمة الصحة، ثلاث نعم ترتَّب على هذا الشكل، نعمة الإيمان ـ ونعمة الصحة ـ ونعمة الكفاية. وقد أشار النبي عليه الصلاة والسلام إلى هذا المعنى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا))
قلب الجسد... يبدأ العمل في اليوم العاشر بعد الشهر الرابع بالضبط، في اليوم العاشر بعد الشهر الرابع ينبض القلب، وحتى يحين الحين، لا يغفل ولا ينسى، ولا يسهو، ولا يقعد، ولا يغفو، ولا يمل ولا يشكو، بل يعمل دون راحة، ولا مراجعة، ولا صيانة، ولا توجيه. الإنسان بجبروته يؤذيه، وبنار الحقد يكويه، وبالأحزان يبليه، هو أساس حياة الإنسان، وشمس عالمه، عليه يعتمد في كل أعماله وأحواله، ومنه تنبع كل قواه، وحركاته، وهو آية خارقة لا يعرف التعب إليه سبيلا، تزداد قدرتها أضعاف كثيرة لتواجه الجهد الطارئ، إنها عضلة من أعقد العضلات بناء وعملاً وأداءً، وهي من أمتنها وأقواها، تنقبض وتنبسط ثماني مرة في الدقيقة، ويصل النبض في الجهد الطارئ إلى مئة وثمانين، ويضخ القلب 8000 لتر في اليوم الواحد، أي ما يعادل ثمانية أمتار مكعبة من الدم، ويضخ القلب من الدم في طول عمر الإنسان ما يكفي لملء إحدى أكبر ناطحات السحاب في العالم، وهذه المضخة يمكن أن تملأ في عمر متوسط أكبر ناطحة سحاب في العالم. ينفرد القلب في استقلاله عن الجهاز العصبي، فتأتمر ضرابته، وتنتظم بإشارة كهربائية من مركز توليد ذاتي هي أساس تخطيطه، وتتغذى عضلة القلب بطريقة فريدة، ومن أعجب ما فيه دساماته المحكمة الني تسمح للدم بالمرور باتجاه واحد، وهو مبدأ ثابت في المضخات، إن القلب إذا سكن خلّف وراءه جثة هامدة، وقد حدث النبي صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق عن القلب فقال: ((... أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ)).
بالمناسبة أمراض الجسد مهما تكن وبيلة تنتهي عند الموت، فالموت ينهي كل مرض، بل إن الموت ينهي صحة الصحيح، وسقم السقيم، ينهي قوة القوي وضعف الضعيف، ينهي غنى الغني وفقر الفقير، ينهي وسامة الوسيم ودمامة الدميم، ينهي ينهي كل شيء، أمراض الجسد المتعلقة بالقلب بضعف قلبه بأزمة في قلبه، بضعف في عضلة القلب، باحتشاء في القلب، بسكتة قلبية، أمراض القلب الجسد كلها تنتهي عند الموت، ولكن المشكلة الكبيرة أن أمراض قلب النفس تبدأ بعد الموت، وتشقي صاحبها إلى أبد الآبدين، فأفضل ألف مرة أن يكون قلب الجسد معطوباً من أن يكون قلب النفس ملوثاً بشهوات الدنيا.