بحث

الإنسان والمعصية والمصائب

الإنسان والمعصية والمصائب

بسم الله الرحمن الرحيم

     إن الإنسان حينما يتحرك في الحياة حركة بدافع من شهواته بخلاف منهج الله ما الذي يكون؟ أول حقيقة أن الله سبحانه وتعالى رب العالمين، معنى رب العالمين أي يربّينا، يربّي أجسامنا، ويربّي نفوسنا. من أجل أن تتضح هذه الحقيقة لا بد من مثل: مدير مؤسسة عيّن موظفًا تحت التجريب لستة أشهر، مهمة هذا المدير أن يحصي على هذا الموظف أخطاءه، فإذا بلغت حداً لا يحتمل صرفه، لأن مهمته إحصاء أخطائه، فلو أن هذا الموظف هو ابن صاحب المؤسسة فهل تكون القضيةُ قضيةَ إحصاء؟ إنها قضية تربية، عند كل خطأ ينبهه، بدافع من رحمة الأب، وحرصه على نجاح ابنه في هذه الوظيفة. بشكل مبسط واضح: لماذا صنعت السيارة؟ الجواب: من أجل أن تسير، بتعبير منطقي علة صنعها هي السير، ولماذا وضع فيها المكبح؟ المكبح في فلسفته يتناقض مع علة صنع السيارة، السيارة صنعت من أجل أن تسير، والمكبح يوقفها، هناك تناقض بين علة صنع السيارة وحقيقة المكبح، المكبح يوقفها، وهي صنعت من أجل أن تسير، ألا ترى معي أن أخطر جهاز في المركبة هو المكبح، لأنه ضمان لسلامتها. تأكد ولا أبالغ أن كل أنواع المصائب في الدنيا هي ضمان لسلامة المؤمن. إذاً: كما أن المكبح من أخطر الأجهزة في المركبة لأنه ضمان لسلامتها، كذلك المصائب مع أنها مؤلمة، مزعجة، بل إن الله سبحانه وتعالى سما في كتابه الكريم المصائب نعم باطنة ﴿وَأَسْبَغ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ لذلك الله عز وجل رب العالمين، خلقنا ليرحمنا، ﴿مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾ وفي الحديث القدسي:  ((يا عِبادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وآخِرَكُمْ، وَإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كانُوا في صَعيدٍ وَاحدٍ، فَسألُونِي، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسانٍ مِنْهُمْ ما سألَ لَمْ يَنْقُصْ ذلكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئاً إِلاَّ كما يَنْقُصُ البَحْرُ أنْ يُغْمَسَ المِخْيَطُ فِيه غَمْسةً وَاحدَةً، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ))  إنسان تحرك بدافع من شهواته بخلاف منهج الله، إما في كسب ماله، أو في علاقته بالنساء، ما الذي يحصل؟  كيف يعامل من شرد عن منهج الله؟

 

     1. الدعوة البيانية:

     أول إجراء بحقه الدعوة البيانية، وأنت صحيح معافىً، في بيتك، بين أهلك، بين أولادك، في عملك ما مِن مشكلة، ولا ضغط، هناك من ينصحك، هناك من يبين لك، وأرقى إجراء إلهي لهذا الذي شرد عن منهج الله الدعوة البيانية، وأكمل موقف يقفه الإنسان من خلال هذا البيان الذي ساقه الله إليك أن تستجيب ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾  دعوة إلى الهدى، نصيحة إلهية.  ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا﴾.  

 

     2. التأديب التربوي:

     إن لم يستجب الإنسان للدعوة البيانية فهناك تأديب تربوي، هنا دخلنا في مرحلة أصعب.   
أحياناً يقول الطبيب للمريض: معك قرحة في المعدة، أو معك التهاب حاد في المعدة، هناك طريقان؛ إما أن تتبع حمية قاسية جداً لا تحتاج معها إلى عمل جراحي، حمية قاسية جداً شهرا بكامله، وإن آثرت أن تأكل ما تشتهي فلا بد من عمل جراحي، القضية بيدك. لذلك الآية الكريمة:  ﴿لِلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ،  ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ﴾  من أمراض، الله عز وجل رب رحيم،  ﴿يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ﴾ اختر أيها المؤمن،  ﴿فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء﴾ بالتوبة والاستقامة والاستجابة،  ﴿وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء﴾ بالتأديب التربوي. يوم القيامة حينما تكشف الحقائق الإنسان يذوب محبة لله عز وجل على ما ساقه له من شدائد، فربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك، وإذا كشف لك الحكمة في المنع عاد المنع عين العطاء. التأديب التربوي أهم شيء فيه التوبة إلى الله، فقد دعاك دعوة بيانية ينبغي أن تستجيب، الآن أخضعك للتأديب التربوي ينبغي أن تتوب، فإن جاء التأديب التربوي ولم تتب فهناك حل ثالث.  

 

     3. الإكرام الاستدراجي:

     الحل الثالث عدد الناجين فيه قليل، يخضعك إلى ما يسمى بالإكرام الاستدراجي، يعطيك الدنيا، بمالها، بمكانتها بمباهجها، بشهواتها، لعلك تستحي، لعلك تتوب، لعلك تشكر، الموقف الكامل فيه الشكر، الشكر ثم التوبة.  

 

     4. القصم والإهلاك:

     فإن بيّن لك ولم تستجب، وأدبك ولم تتوب، وأكرمك ولم تشكر، نعوذ بالله من المرحلة الرابعة، يأتي القصم.  ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ﴾.  إن أخطر شيء في حياة الإنسان أن يصل مع الله إلى طريق مسدود، كيف؟ أن تبالغ في إيقاع الأذى بالناس، عندئذٍ يأتي القصم، يأتي الانتقام، فدَع للصلح مكاناً، حاسب نفسك قبل أن تحاسب، اسأل نفسك: هل عملي يرضي الله؟ هل هناك ظلم أقترفه؟ هل أبني مجدي على أقاض الآخرين؟ هل أبني حياتي على موتهم؟ هل أبني عزي على ذلهم؟ هل أبني غناي على فقرهم، ماذا أفعل؟ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم.  

     فسنة الله مع خلقه تبدأ من الدعوة البيانية، إلى التأديب التربوي، إلى الإكرام الاستدراجي، إلى القصم، فالبطولة أن تبقى في أول مرحلة، تستمع، وتستجيب، وهذا أكمل شيء في الإنسان، والإنسان كلما ارتفع مكانه تعلم بالنص، ولم يتعلم بالواقع. أوضح مثل: إنسان ركب مركبته ليسافر إلى مدينة بعيده، في أيام الشتاء، خرج من مدينته فرأى لوحة كتب عليها: الطريق إلى المدينة وجهته مغلقة بسبب تراكم الثلوج في منطقه في وسط المسافة بين المدينتين، مقصده المدينة البعيدة، وله مبلغ كبير جداً فيها، الطريق مغلق تقريبا في المنتصف بينهما، هو الآن في مدينته بطريقه للسفر، ماذا يفعل؟ يعود، ما الذي حكَمه؟ اللوحة، أربع كلمات أعطته قرارًا بالعودة، لو أن دابة تمشي أين تقف؟ عند الثلج، ما الذي حكم الدابة؟ الواقع، حكم العاقل النص، وحكم الدابة الواقع. اسأل نفسك سؤالا محرجا، ما الذي يحكمك؟ نصوص القرآن والسنة، أم الواقع؟ الذي يخاف بعقله إنسان راقٍ جداً، والذي يخاف بأحاسيسه إنسان غبي جداً، فكلما ارتقى مقامك تخاف بعقلك، تخاف من النص، تخاف من تحذير الله لك، تخاف من وعيد الله، وكلما هبط مستوى الإنسان، وجاءه قضاء الله، جاءته المصيبة عندئذٍ يقول:  ﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ﴾ هناك نقطة مهمة جداً، خيارك مع الإيمان خيار وقت، مع مليون موضوع أنت مخير خيار قبول أو رفض، عرضوا عليك بيتاً لم يعجبك، فرفضته، إلا مع الإيمان فخيارك خيار وقت، الدليل فرعون أكفر كفار الأرض، الذي قال :﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ والذي قال:  ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ هذا الإنسان الذي ادعى الإلوهية حينما أدركه الغرق قال : ﴿ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ﴾ إذاً: آمن، لأن الإنسان أيّ إنسان لا بد من أن يؤمن عند الموت.  ﴿فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ هذا الإيمان لا قيمة له إطلاقاً، إذاً: خيارك مع الإيمان خيار وقت لا خيار قبول أو رفض.  



المصدر: العقيدة والإعجاز - مقومات التكليف - الدرس : 18 - الشهوة -4- تفسيرات المصائب - البقرة مصنع كامل وصامت