بحث

العمل وكسب الرزق من المنظور الإسلامي

العمل وكسب الرزق من المنظور الإسلامي

بسم الله الرحمن الرحيم

     أي إنسان على وجه الأرض من بين المليارات الثمانية الآن بحاجة إلى الطعام والشراب، لماذا؟ ما علة ذاك؟ ما تفسير ذلك؟ يأكل ويشرب ليبقى حياً، أي يأكل ويشرب حفاظاً على بقائه كفرد، هذه الحاجة الأولى، الطعام والشراب جعل الله له ثمناً، إذاً لا بد من أن يعمل حتى يحصّل ثمن الطعام والشراب، صار هناك عمل، والعمل قيمة راقية جداً،  أمسك النبي عليه الصلاة والسلام بيد ابن مسعود وكانت خشنة من العمل، أمسك يده ورفعها وقال: هذه اليد يحبها الله ورسوله ، وقال أيضاً:  ((إن قَامَتْ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ))  قامت الساعة، وانتهت الحياة، معك فسيلة اغرسها، هل هناك من معنى أدق من هذا المعنى بوجوب العمل؟ والعمل فيه امتحان للإنسان، يصدق أو لا يصدق، يخلص أو لا يخلص، ينصح أو لا ينصح، فالإنسان ممتحن بحرفته، بعمله، بإتقانها، بالإخلاص لها، بالرحمة لمن يحتاجها. فالإتقان جزء من الدين، والدليل أن قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم:  ((إِنَّ اللهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ))  أتقن عملك، أتقن حرفتك، أتقن طريق رزقك، إذا أتقنته سلمت وسعدت.  فالعمل على إطلاقه أساس الرقي عند الله، فمن العمل الصالح العمل الذي تكسب به رزقك أيها المؤمن، إذا بني هذا العمل على الإتقان والنصح وعدم الغش، واهتم صاحبه في تطويره وتحسينه، توصلاً لخدمة الخلق، الذين هو عيال الله، وترفق بالناس بالأجر أو السعر وعاملهم باللين والحكمة، كان هذا العمل نفسه وسيلة لكسب رضوان الله، والفوز بنعيم الجنة الأبدي، قال صلى الله عليه وسلم:  ((إن الله تعالى يحب المؤمن المحترف)).    

     لقد حضنا الله على طلب الرزق، ويسر لنا سُبله فقال تعالى:  ﴿وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً﴾ وقال:  ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ﴾ وفي الحديث الشريف:  ((إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا)) . ولكن دفعاً للقلق من أجل الرزق، ومنعاً من ارتكاب المعاصي، واحترازاً من أن يقف الإنسان موقف مذلة طمأن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم المؤمن بأن رزقه مقسوم ومضمون، وموزون، وأن رزق الله تعالى، لا يجره حرص حريص، ولا ترده كراهة كاره، وأن الله تعالى جعل الروح والفرح في الرضا واليقين، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط، وقال صلى الله عليه وسلم:  ((إن روح القدس نفثت في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها، فاتقوا الله عباد الله تعالى، وأجملوا في الطلب، واستجملوا مهنكم، ولا يحملنكم استبطاء شيء من الرزق على أن تطلبوه بمعصية فإن الله تعالى لا ينال ما عنده بمعصيته)) ولكن ليس كل رزق حلالاً، ولا كل كسب مشروعاً، فالمؤمن يتحرى الحلال في كسبه، لأنه يعلم علم اليقين، أنه من كان كسبه حراماً سقط من عين الله، ولأن يسقط الإنسان من السماء إلى الأرض، أهون من أن يسقط من عين الله، لذلك أمرنا الله عز وجل بصريح الآية المحكمة أن نأكل الحلال الطيب، فقال:  ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالاً طَيِّباً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِين﴾ والحلال ما كان حلالاً في ذاته، وفي طريق كسبه، فهو يحل لكم، ويُبقي على الصلة بينكم وبين ربكم، والطيب ما طابت به أجسامكم ونفوسكم وحياتكم.  وقد يكون الحلال الطيب أقلَّ من الحرام الخبيث من حيث الكم، وفي هذا ابتلاء من الله لعباده المؤمنين، فمن نجح في هذا الامتحان، وآثر القليل من الحلال الطيب على الكثير من الحرام الخبيث، بارك الله له في ماله، فانتفع منه وفي أهله وأولاده فسعد بهم، وحفظ الله له صحته ومكانته، وضمن له سعادته في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى:  ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ ولحكمة بالغة جعل كسب الحلال الطيب أصعب، وأشق من كسب الحرام الخبيث، ليبتلي المؤمن ثانية في مدى حرصه على الحلال الطيب، بل في مدى حرصه على رضوان الله قال النبي صلى الله عليه وسلم:  ((من بات كالاً ـ متعبا ـ في طلب الحلال ، بات مغفوراً له)) . والشرع الحنيف، حينما يأمر المؤمن يتحرى الحلال في كسبه ينهاه أشد النهي عن أن يتحرى الحلال والحرام في كسب الآخرين، فمن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس.  

     وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه من طلب الرزق من طرقه المشروعة، وتقصى الحلال من الكسب، وابتغى كف نفسه عن المسألة، وإغناء أبويه وأهله وأولاده، لقي الله تعالى وهو عنه راض، فقال صلى الله عليه وسلم:  ((من طلب الدنيا حلالاً وتعففاً عن المسألة، وسعياً على عياله، وتعطفاً على جاره لقي الله ووجهه كالقمر ليلة البدر)) وقد كان صلى الله عليه وسلم جالساً مع أصحابه ذات يوم فنظروا إلى شاب ذي جلد وقوة، وقد بكر يسعى فقالوا: ويح هذا، لو كان شبابه وجلده في سبيل الله، فقال صلى الله عليه وسلم:  ((لا تقولوا هذا، فإنه إن كان يسعى على نفسه ليكّفها عن المسألة، ويغنيها عن الناس، فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على أبوين ضعيفين أو ذرية ضعاف ليغنيهم ويكفيهم فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى تفاخراً وتكاثراً فهو في سبيل الشيطان)).  بل ربما كان الذي يكسب رزقه حلالاً باذلاً من أجله جهداً، ووقتاً، وعرقاً، أفضل عند الله تعالى ممن انقطع للعبادة، وهو عالة على غيره يروى أن رجلاً كان يعبد الله فقيل له: ما تصنع؟ قال: أتعبد الله فسئل: فمن يطعمك؟ فقال: أخي، فقيل له: أخوك أعبد منك.. والنبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن المسألة مبيناً أنها تفتح على العبد أبواب الفقر، قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا فَيَسْأَلَهُ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ)).   فلا ينبغي للمؤمن أن يذلَّ نفسه، بل ينبغي أن يطلب الحوائج بعزة الأنفس، فإن الأمور تجري بالمقادير، فاليد المعطاءة العليا خير من اليد الممدودة السفلى.  

     ولقد نهانا الشرع الحنيف عن أكل أموال الناس بالباطل، وجعله من كبائر المحرمات، حيث قال:  ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾  وأشارت كلمة «بينكم» إلى أن المال يجب أن يكون متداولاً بين جميع أفراد الأمة، وأكله بالباطل يجعله متداولاً بين الأغنياء فقط، وفي هذا تضييق على الفقراء، بل عُدْم لهم. والمال قوام الحياة، وأكل أموال الناس بالباطل، عدوان على قوام حياتهم، وهذا يستوجب غضب الله، وعقابه الأليم، فالإضرار بالناس يقترب من الشرك بالله، أما أكل المال بالحق: فهو أن يكون نظير عوض حقيقي، أو خدمة صحيحة، وأن يكون المأكول ماله راضياً أشد الرضا، حتى لو كشف الغطاء، وقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم على حرمة المال الحرام، وجعلها كحرمة الدم والعرض فقال:  ((... وَمَنْ انْتَهَبَ نُهْبَةً فَلَيْسَ مِنَّا)).  ومِن أكلِ أموال الناس بالباطل: الغصب، والنهب، والسلب، والرشوة، والغلول، والسرقة، والميسر، والربا، وهذه الأنواع من أكل أموال الناس بالباطل، بينةٌ حرمتها، واضحةٌ حدودها، وظاهرة نتائجها، ولكن هناك أنواع من أكل أموال الناس بالباطل تخفى على كثير فمن صور من أكل أموال الناس بالباطل: 

     الاحتكار: وهو بالتعريف الدقيق، حبس مالٍ، أو منفعة، أو عمل، والامتناع عن بيعه وبذله حتى يرتفع سعره ارتفاعاً فاحشاً غير معتاد، بسبب قلّته أو انعدام وجوده في مظانِّه، مع شدة الحاجة إليه، والمحتكر من خلال أحاديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ملعون وخاطئ، وقد برئت منه ذمة الله، وقد توعده الله بالنار، فقد قال صلى الله عليه وسلم:  ((لاَ يَحْتَكِرُ إِلاَّ خَاطِئٌ))  وقال: ((الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ))   وقال:  ((من احتكر الطعام أربعين ليلة يريد به الغلاء ، قد برئ من الله وبرئ الله منه))   وقد قال صلى الله عليه وسلم:  ((بئس العبد المحتكر ، إن أرخص الله الأسعار حزن ، وإن أغلاها فرح))  وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على من ترك الاحتكار فقال:  ((من جلب طعاماً فباعه بسعر يومه فكأنما تصدق به)). 

     الغش: وللغشّ أنواع كثيرة وصور شتى، يرجع معظمها إلى المخادعة، بإظهار شيء، وإخفاء خلافه، في باطنه.  ومن ذلك الكذب في التعريف فيعرّف الرديء بأنه جيد، وذو السعر الرخيص بأنه ذو السعر الغالي. ومن الغش دس الرديء في أثناء الجيد، وبيعه جميعاً بقيمة الجيد دون بيان الواقع والحقيقة.  ومن الغش أن يقول البائع: اشتريته بكذا، كذباً، ليخدع المشتري في هامش ربحه، ومن الغش إخفاء العيب والتلاعب بالوزن، والكيل والعدد، والطول والحجم والمساحة. ومن الغش تزوير منشأ البضاعة ومصدرها، أو الكذب في الإخبار عنها، ومن الغش عرضها بطريقة تزيد من مزاياها، وتخفي من عيوبها، ومن الغش توجيه المشتري إلى بضاعة رديئة كاسدة استغلالاً لجهله، ومن الغش استغلال جهل المشتري، ورفع السعر أضعافاً مضاعفة، وهذا المشتري الجهول بنوعية البضاعة وقيمتها سماه الني صلى الله عليه وسلم «المسترسل» فقال:  ((غبن المسترسل حرام)) . وسواء في الإثم أن تغش المسلمين، أو غيرهم، لأن الحق لا يفرّق، ولا يجزأ، فالخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله، قال صلى الله عليه وسلم:  ((من غش فليس منا)).  وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا باعوا لم يطروا، وإذا اشتروا لم يذموا، وإذا كان عليهم لم يمطلوا، وإذا كان لهم لم يعسّروا. 

     الدين منهج، الدين سلوك، الدين تعليمات الصانع.



المصدر: الخطبة : 1163 - الرؤية الصحيحة أصل في صحة العمل - التفريق بين قضاء الله والتقصير.