بحث

قيمة الأخلاق

قيمة الأخلاق

بسم الله الرحمن الرحيم

الخُلق كسبي 

      أيها الإخوة الكرام، من لوازم المؤمن أنه ذو أخلاق،  

      ذلك أن الأخلاق في تعريفها الدقيق : هي ضبط للسلوك،  

      فالله عز وجل أودع في الإنسان الشهوات، وسمح له أن يتحرك بها من دون قيد أو شرط، لكن التشريع الحكيم ألزمه بحيز ينبغي ألا يتعداه، الإنسان يستطيع أن يمارس أية شهوة أودعها الله فيه بشكل كامل، إلا أن الشريعة الغراء سمحت له في علاقته بالمرأة بالزواج فقط، وفي كسبه للمال بكسب المال الحلال، وفي أية شهوة أودعت في الإنسان سمح له أن يمارسها ضمن قناة نظيفة، هي التشريع الإلهي، فكل إنسان أوقع حركته وفق النطاق الذي سمح الله به فهو ذو خُلق. 

      لذلك الأخلاق كسبية تقوم باختيار، ثم بإرادة، ثم بفعل. 

الله مدح النبي بحسن خُلقه  

      الآن النبي عليه الصلاة والسلام  مع أنه كان قمةً في كل شيء  

      قال الله له في القرآن الكريم: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى )

      القرآن يتلى عليه مرةً فيحفظه، كان أفصح العرب، كان جميل الصورة، فكل خصائصه التي تعينه على أداء الرسالة منحه الله إياها، إنها وسائل الدعوة، إلا أن الله حينما أثنى عليه أثنى على خُلقه فقط . 

      الأمر يتّضح تماماً كما لو أن ابناً طلب من أبيه قصراً، وأبوه ملك، فمنحه القصر، طلب طائرة خاصة فمنحه طائرة خاصة، طلب يختاً فمنحه اليخت، لكن لا يعقل أن يكرم هذا الابن حينما يمنح يختاً أو طائرةً، أما حينما يتفوق في دراسته، وهي من كسبه يكرم، لذلك كل أدوات الدعوة من فصاحة إلى ذاكرة قوية، إلى حكمة إلى ... هذه كلها من خصائص الدعوة، وقد تفضل الله على النبي عليه الصلاة والسلام، لكن حينما يمدح النبي صلى الله عليه وسلم  يمدح بشيء من كسبه، ألا وهو الخلق، فالخصائص قد تكون وهبية، بينما الخلق هو كسبي، 

      قال تعالى في القرآن الكريم: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ )

      السيدة عائشة سئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت :  كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ 

      لو قرأت القرآن الكريم  كله، أثنى الله على الصادقين وكان صادقاً، أثنى على المتصدقين وكان متصدقاً، أثنى الله على الصابرين وكان صابراً، فما من صفة وردت في القرآن الكريم  فاضلة إلا والنبي صلى الله عليه وسلم تمثلها قلباً وقالباً، إذاً كانت أخلاقه القرآن . 

      وقال بعضهم : الكون قرآن صامت، والقرآن كون ناطق، والنبي عليه الصلاة والسلام قرآن يمشي. 

وقد جمعت مكارم الأخلاق في آية  

      قال الله تعالى في القرآن الكريم: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) 

      كلمة ( خذ ) تعني شيئاً ثميناً، أنت حينما تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك فأنت قد أخذت العفو، عفوت عنه حينما قطعك فوصلته، وعفوت عنه حينما حرمك فأعطيته، وعفوت عنه حينما ظلمك فأنصفته. 

      قال رسول الله صلى الله عليه وسلم 

      أَمَرَنِي رَبِّي بِتِسْعٍ ؛ خَشْيَةِ اللهِ فَي السِّرِّ وَالْعَلاَنَيَّةِ، وَالْعَدْلِ فَِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَالْقَصْدِ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَنْ أَصِلَ مَنْ قَطَعَنِي، وَأَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَنِي، وَأُعْطِيَ مَنْ حَرَمَنِي، وَأنْ يَكُونَ صَمْتِي فِكْراً، وَنُطْقِي ذِكْراً، وَنَظَرِي عِبْرَةً  

      خذ العفو، الآن الأوامر : (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ )

      العرف ما تعرفه الفطر السليمة بداهةً، لك فطرة سليمة أيها الإنسان، إنك في أصل تركيبك، وفي أصل جبلتك، وفي أصل فطرتك تحب الصدق، تحب الإنصاف، تحب الرحمة، الله عز وجل  أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يأخذ العفو، ويأمر بالعرف، يجب أن تأمر أيها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالقيم الأخلاقية التي فطر الإنسان عليها،  

      (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ )

      والناس يستجيبون أو لا يستجيبون، يمدحون أو يذمون، الإنسان المتفلت لا تعجبه مكارم الأخلاق، يحب أن يأخذ ما ليس له، يحب أن يعتدي على أعراض الآخرين،  (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ )

أثمن شيء في الدين على الإطلاق حُسن الخُلق 

      وثمة أحاديث نبوية كثيرة تبين أن أثمن شيء في الدين على الإطلاق حسن الخلق،  

      عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ  

      فَقَالَ :  الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ 

      مِن أوسع الكلمات دلالةً على مكارم الخلاق البر حسْن الخلق،  

      وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ مِنْ أَكْمَلِ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنَهُمْ خُلُقًا 

      عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا 

      وعَنْ عَائِشَةَ رَحِمَهَا اللَّهُ قَالَتْ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ 

      الإنسان صائم في النهار، قائم في الليل، يأتي الذي له أخلاق حسنة فيسبقه بهذه الأخلاق . 

      وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ 

      المراء المشاحنة،  

      وإن سألتني : هل يمكن أن يضغط الدين كله بعد صحة الاعتقاد ؟ الجواب : حسن الخلق،  

      هذا الأمر دعا بعض كبار العلماء أن يقول : الإيمان هو الخلق، ومن زاد عليك في الإيمان زاد عليك في الخلق . 

      وعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ، وَالْمُتَشَدِّقُونَ، وَالْمُتَفَيْهِقُونَ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ ؟ قَالَ : الْمُتَكَبِّرُونَ  

      وعَنْ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ قَالَ :  

      كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزْهَرَ اللَّوْنِ، كَأَنَّ عَرَقَهُ اللُّؤْلُؤُ، إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ، وَلَا مَسِسْتُ دِيبَاجَةً وَلَا حَرِيرَةً أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا شَمِمْتُ مِسْكَةً وَلَا عَنْبَرَةً أَطْيَبَ مِنْ رَائِحَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ، وَاللَّهِ مَا قَالَ لِي أُفًّا قَطُّ، وَلَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا ؟ وَهَلَّا فَعَلْتَ كَذَا 

حُسن الخلق سبب لدخول الجنة 

      ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء،  

      عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ :  سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ ؟ قَالَ : التَّقْوَى، وَحُسْنُ الْخُلُقِ، وَسُئِلَ : مَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّارَ ؟ قَالَ : الْأَجْوَفَانِ، الْفَمُ وَالْفَرْجُ 

       يعني شهوتا الطعام والجنس . 

الُخلق الحسن يقع بين خُلقين ذميمين 

      أيها الإخوة الكرام، شيء دقيق، هو أن كل خلق محمود مكتنف بخلقين ذميمين، كل خلق محمود قبله خُلق مذموم، وبعده خلق مذموم، والفضيلة وسط بين طرفين، الجود خلق محمود، أما الإسراف فخلق مذموم، البخل خلق مذموم، يوجد إنفاق عشوائي طائش، يوجد تبذير، يوجد إسراف، و يوجد تقتير، والجود بينهما، التهور خلق مذموم، الجبن خلق مذموم، بينهما الشجاعة، ما من خلق محمود إلا وقبله وبعده خلقان مذمومان، فالفضيلة وسط بين طرفين، الطيش خلق مذموم، التهيب خلق مذموم، الحلم بينهما، الأناة فضيلة، عدم الحركة إطلاقاً رذيلة، لا يتحرك إلى شيء من شدة حذره وخوفه وقلقه، يلغي عمله كله، والتسرع خلق مذموم، لو ذهبت إلى بنود الأخلاق كلها لا تجد خلقاً فاضلاً إلا ويكتنفه خلقان مذمومان، لذلك قالوا : "  الفضيلة بين طرفين ". 

أخلاق أساسها إيمان وأخلاق أساسها مصلحة 

      أيها الإخوة الكرام، صاحب الأخلاق الفضلى يسبق الصائم القائم، وقد يصل إلى أعلى درجات الجنة، طبعاً أقول : الأخلاق الفاضلة التي بنيت على إيمان، أما هناك أخلاق تبنى على الذكاء، هذه أخلاق أهل الدنيا، تقتضي مصلحته أن يكون صادقاً، تقتضي مصلحته أن يكون منصفاً . 

      قلت مرة : إن الأخلاق التي تلفت النظر عند بعض المجتمعات هي أخلاق أساسها الذكاء، لأنهم يعبدون المال من دون الله فكانوا بهذه الأخلاق، وإذا تضررت مصالحهم يصبحون وحوشاً، أليس كذلك؟ كان الامتحان صعباً، وسقطوا، مادامت الأمور كلها لصالحهم فهم صادقون، منصفون، يعرفون قيمة الإنسان، تقتضي مصلحتهم ذلك، أما إذا مست مصالحهم ينقلبون إلى وحوش كاسرة، لذلك يجب أن نفرق بين أخلاق الأذكياء وأخلاق العباد المؤمنين . 

      المؤمن خلقه أصيل، لا يتأثر لا بإقبال الدنيا، ولا بإدبارها، لا بتحقيق مصالحه، ولا بتعطل مصالحه، لا بالغنى ولا بالفقر، الخلق الإيماني خلق ثابت، خلق أصيل، بينما الخلق الشيطاني خلق مبني على الذكاء، ومبني على تحقيق المصالح، فإذا مست المصالح يصبح هذا الأخلاقي وحشاً كاسراً . 



المصدر: أحاديث رمضان 1425 هـ - ومضات ولقطات إيمانية - الدرس (20-64) : الأخلاق