بحث

مكانة الإنسان بين الوهم والحقيقة

مكانة الإنسان بين الوهم والحقيقة

بسم الله الرحمن الرحيم

     الإنسان في نظر الماديين، قبضة من تراب هذا الأرض، منها نشأ وعليها يمشي، ومنها يأكل وإليها يعود، هو كتلة من اللحم، والدم، والعظام، والأعصاب، والأجهزة، والخلايا، والعقل، وفي نظر الماديين ما التفكير إلا مادة يفرزها المخُّ كما تفرز الكبد الصفراء أو كما تفرز الكلية البول، وهو هو كائن في نظر الماديين ليس له أهمية، ولا امتياز على غيره، إنه أحد الأحياء الكثيرة المتنوعة، بل هو من جنس هذه الهوام والحشرات والزواحف والقرود، غاية أمره أنه تطور بمرور الزمن فأصبح هذا الإنسان،  هذا الإنسان في نظر الماديين، فأين هي مكانته في نظر المؤمنين؟  

     إنه المخلوق الأول، المخلوق المكرم، خلقه الله في أحسن تقويم، كرمه أحسن تكريم، صوره فأحسن صوره، خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، أسجد له ملائكته، ميزه بالعلم والإرادة، وجعله خليفته في الأرض، وجعله محور النشاط في الكون، سخرَّ له ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه، أسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، فكل ما في الكون له ولخدمته، أما الإنسان فهو لله تعالى. ورد في بعض الآثار القدسية:  ((ابن آدم، خلقت كل ما في الكون فلا تتعب، وخلقتك من أجلي فلا تلعب، فبحقي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك عما افترضته عليك، ابن آدم اطلبني تجدني، فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء))  هذه مكانة الإنسان في نظر المؤمنين. قال تعالى:   ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ . 

     مكانة الإنسان من الله عز وجل، القرآن الكريم في آيات كثيرة بيّن قرب الإنسان من الله، أقرب المخلوقات إليه، وبيّن قرب الله من الإنسان. هذا القرب حطم كل أسطورة من أساطير الوسطاء والسماسرة والمرتزقين بالأديان، الذي جعلوا أنفسهم حجاباً على أبواب رحمة الله الواسعة، قال تعالى:  ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾   ليس بينك وبين الله حجاب، النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ قَالَ:  ((إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا وَإِذَا أَتَانِي مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً )) . 

     أما مكانته في الملأ الأعلى، فقد قال تعالى:  ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ 

     أما مكانة الإنسان في العالم المادي فالإنسان مركز هذا العالم، مركز السيد المتصرف، لقد سخر الله له كل ما في هذا العالم لنفعه ولإصلاح أمره، الآيات:  ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِير﴾  آية أخرى:   ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾   النفخة التي في الإنسان، والتي هي من روح الله جعلته مستعداً للخلافة في الأرض، مستعداً لحمل الأمانة الكبرى، مستعداً لحمل أمانة التكليف، قال تعالى:  ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾. 

     وجعله مختاراً، جعله عالماً قال تعالى:  ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾   إن فجرت تعلم أنها فجرت، وإن اتقت تعلم أنها اتقت. أيضا أعطاه حرية الاختيار، قال تعالى:  ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾. 

     الإسلام سما بالإنسان، فاعترف به كلاً، جسماً وروحاً، عقلاً وقلباً، إرادةً ووجداناً، غرائز هابطة، وأشواق صاعدة، لم يضع في عنقه غلاً، ولا في رجله قيداً، ولم يحرم عليه طيباً، ولم يغلق في وجهه باب خير، ولم يدعه للمتاجرين بالدين يتلاعبون به. ماذا يقول العلماء الكبار عن مكانة الإنسان عند الله عز وجل؟  

     يقول أبو بكر العربي:  ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، ذلك بأن الله سبحانه وتعالى خلقه حياً، وعالماً، وقادراً، ومتكلماً، وسميعاً، وبصيراً، ومدبراً حكيماً  

     قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى:  قرب العبد من ربه سببه تحليه بالصفات التي أمره أن يتخلق بها، من هنا قيل: تخلقوا بأخلاق الله، أمره بالعلم، أمره بالبر، أمره بالإحسان، أمره باللطف، أمره بإفاضة الخير، أمره بالرحمة بالخلق، أمره بالنصيحة لهم، وإرشادهم إلى الحق، ومنعهم من الباطل، هذا بعض الخلافة في الأرض. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  (( إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ)) 

     وأما ابن القيم فيقول:  اعلم أن الله تعالى اختص نوع الإنسان من بين خلقه، بأن كرمه، وفضله، وشرفه، وخلقه لنفسه، وخلق له كل شيء، وخصه بمعرفته، ومحبته، والقرب منه، وإكرامه بما لم يعط غيره، وسخر له سمواته وأرضه، وما بينهما، حتى الملائكة استخدمهم له، وجعلهم حفظة له، في منامه وفي يقظته، وظعنه وإقامته، وأنزل إليه وعليه كتبه، وأرسله وأرسل إليه، وخاطبه وكلمه، فللإنسان شأن عند الله ليس كشأن بقية المخلوقات  

     لذلك لا عجب إن رأينا أعرابياً من البداة الجفاة كربعي بن عامر حينما باشرت قلبه عقيدة الإسلام، وأضاءت فكره آيات القرآن، يقف أمام رستم، قائد قواد الفرس، وهو في أبهته وسلطانه غير مكترث له، ولا عابئ به، ولا بمن حوله من خدم وحشم، ولا ما يتوهج من جواره من ذهب وفضة، حتى إذا سأله رستم من أنتم؟ أجابه هذا الأعرابي إجابةً خلدها التاريخ، قال:  نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام  

     الخلاصة أن الإنسان من خلال القرآن الكريم وهو كتاب المسلمين الأول، الإنسان لم يُخلق عبثاً، ولم يُترك سدى، إنما خُلق لغاية وحكمة، لم يُخلق لنفسه، ولم يُخلق ليكون عبداً لعنصر من عناصر الكون، ولم يُخلق ليتمتع كما تتمتع الأنعام، لم يخلق ليعيش هذه السنين التي تطول أو تقصر ثم يبتلعه التراب ويأكله الدود ويطويه العدد. إن اعتقاد الإنسان بكرامته على الله، ومكانته في الملأ الأعلى، ومركزه القيادي في الكون يجعله يشعر بذاته، ويغالي بقيمة نفسه؛ لأنه يعتز بانتسابه إلى الله، وارتباطه بكل ما في الوجود، فيحيا عزيز النفس، هذه بعض آثار الإيمان في النفس.. الإنسان المؤمن يشعر أن وجوده لا ينتهي بالموت، الموت محطة على خط سيره، وداره لا تنتهي بالقبر، إنه خلق للخلود وللأبد الذي لا ينقطع ولا يزول، بينما غير المؤمن يشعر أنه مجرد حيوان ناطق، أو حيوان مفكر، من فصيلة راقية، ليس له قبل موته جذور، وليس له بعد موته امتداد، وليس له في حياته صلة بالوجود الكبير أكثر من صلة القرود به 

     شتان بين من يعتقد أن الإنسان هو المخلوق الأول، وأنه المخلوق المكرم، وأنه المخلوق المكلف، وأن الله سبحانه وتعالى أنعم عليه بنعمة الإيجاد، ونعمة الهدى والرشاد، أنعم عليه بنعمة الإمداد، خلقه لنفسه، وخلق الكون كله من أجله، أي شعور يشعر به الإنسان حينما يعرف قيمته عند الواحد الديان، أي شعور يجعله ينطلق من قوقعته، ينطلق إلى رحابة الكون ليحقق وجوده، ليكون خادماً للحق، ليكون سبباً بهدى الناس.. من عرف نفسه عرف ربه. 



المصدر: الخطبة : 0592 - آثار الإيمان في حياة الفرد.