هناك غيـب استأثر الله به، لا يُطْلع عليه أحداً من خلقه كائناً من كان: حتى ولا الأنبياء، من هذا قيام الساعة الكبرى، أي قيام القيامة، ومن هذا الغيب الذي استأثر الله به قيام الساعة الصغرى، الساعة الصغرى موت الإنسان، الإنسان له ساعة صغرى يموت فيها، وساعة كبرى يبعث و يحاسب فيها، يوم القيامة ساعة كبرى، قال تعالى: ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ وهذه الساعة الكبرى، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ لو بحثنا عن حكمة إخفاء ساعة الموت لوجدنا خيراً كثيراً، فلو أن الله سبحانه وتعالى أطلع إنساناً على ساعة موته، فمثلاً أنت أيها الإنسان تعيش ستاً وسبعين سنة وستة أشهر وسبعة أيام وخمس ساعات وثلاث دقائق وثلاث ثوان، فماذا يكون من هذا الإنسان؟ يتوقف نشاطه وسعيه وهذه مشكلة كبيرة، لو أن الإنسان عرف أجله لانتهى العمل كله، لأنّ من المستحيل أن يتحرك الإنسان حركة وهو يعلم نتائجها. إذاً فالموت لا تعلم موعده، فيجب أن تكون جاهزاً لاستقباله، جاهزاً بالتوبة، والصلح مع الله، وأداء الحقوق، وأداء كل ما عليك من التزامات، حتى إذا جاء ملك الموت تكون جاهزاً للذهاب معه.
الغيب الثاني فغيب يعلمه الله ويُعلمه لرسوله: هذا شيء آخر تأييداً للأنبياء وتصديقاً لما جاؤوا به، لا بد من أن يأتي بشيء لا يستطيع أن يفعله أحد، فإن فعله الرسول كان مؤيداً من الله، ولذلك من لوازم الرسول أن تكون معه معجزة، فمن معجزات الرسل أنهم يعلمون الغيب الذي سمح الله لهم به أن يعلموه فقط، يؤخذ هذا من قوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً﴾ فهذا الغيب أنواع ثلاثة، غيب الماضي، وغيب المستقبل؛ بعدان زمانيان، وغيب الحاضر بعد مكاني، فمن غيب الماضي مثلاً قال تعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ من أين جئت بهذه الأخبار؟ لولا أنك رسول يوحى إليك لما جئت بهذه الأخبار، هذا غيب الماضي، أما غيب المستقبل فقد قال تعالى: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ فعلاً بعد سبع سنوات انتصر الروم على الفرس، هذا من غيب المستقبل، وهناك آيات كثيرة جداً، وهناك أحاديث كثيرة جداً، والحديث عن علامات الساعة الكبرى من هذا القبيل، غيب أطلع الله نبيه عليه، تأييداً له، ودعماً له في صدق دعوته، قال تعالى: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ الطائرة دخلت في مفهوم الآية، والمركبة الفضائية دخلت في الآية، والمركبة والقطار دخلا كذلك، أما غيب الحاضر فبعد مكاني، قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ . إنسان كتب إلى قريش أنّ محمداً سيغزوكم فخذوا حذركم، الله عز وجل أطلع النبي عليه، إنسان آخر قال لصفوان بن أمية: يا صفوان والله لولا ديون ركبتني ما أطيق سدادها، ولولا أولاد صغار أخشى عليهم العنت من بعدي، لذهبت وقتلت محمداً وأرحتكم منه، قال له صفوان: يا عمير أما ديونك فهي عليّ، بلغت ما بلغت، وأما أولادك فهم أولادي ما امتد بهم العمر، فامضِ لما أردت، وصل عمير إلى المدينة، رآه عمر رضي الله عنه وعلى عاتقه سيف، قيده بحمالة سيفه وساقه إلى النبي، قال: يا رسول الله هذا عمير عدو الله جاء يريد شراً، فقال له النبي: أطلقه يا عمر و ابتعد عنه فأطلقه، و ابتعد عنه، أُدنُ مني يا عمير، ما الذي جاء بك يا عمير؟ قال: جئت لأفك ابني من الأسر، قال: وهذا السيف الذي على عاتقك؟ قال: قاتلها الله من سيوف وهل نفعتنا يوم بدر؟ فقال له: ألم تقل لصفوان لولا ديون ركبتني ما أطيق سدادها، ولولا أولاد صغار أخشى عليهم العنت من بعدي، لقتلت محمداً وأرحتكم منه، فقال لك صفوان كذا وكذا..، وقف وقال: أشهد أنك رسول الله، لأن هذا الذي جرى بيني وبين صفوان لا يعلمه أحد إلا الله. هناك غيب الحاضر وغيب الماضي وغيب المستقبل.
يوجد عندنا غيب آخر يسمى غيباً مجازاً، أي في السماء الآن تهب رياح، تستمع في النشرة الجوية إلى أن هناك موجة حر آتية من المنطقة الشمالية، ترتفع الحرارة فوق معدلها وتهب رياح حارة، وفي الشتاء رياح باردة، وغداً مثلاً تكون الحرارة دون معدلها، فكيف علموا الغيب؟ كذلك الجنين في بطن الأم، يُعرف الجنين أهو ذكر أم أنثى، فهذا الذي يتوهمه البعض غيباً ليس غيباً، إنما هو غيب الواقع، والله سمح به، كل شيء سمح الله به لم يعد غيباً.
شيء آخر يجب أن نعلمه جميعاً، ما يشيع بين البعض من أَنَّ الجن يعلمون الغيب، الجن لا يعلمون الغيب إطلاقاً، والدليل قال تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾ سيدنا سليمان كلف الجن بعمل شاق ومات، وما دلهم على موته إلا حينما انكسرت عصاه التي كان متكئاً عليها فوقع.
كذلك كل ما يفعله الناس ولو كان لعباً، أن غداً سيكون كذا عن طريق البرج، عن طريق الكُهّان، عن طريق السحرة، نقرأ في فنجان القهوة، هذا كله كذب ودجل لا أصل له، ومن يفعله يأثم. قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)).