قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾ هذه الآية تعالج مسألة الخَلق، وعُولِجت في سبعة مواضع من القرآن الكريم، في سورة البقرة، والأعراف، والحج، والإسراء، والكهف، وطه، وص، ولكن في كل سورة تُعالَج هذه المسألة من زاوية، ولكن يعنينا من هذه القصة أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ من هي الجهة الوحيدة في الكون التي تستحق العبادة؟ إنها الجهة الخبيرة، قال تعالى: ﴿إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ فالإنسان حينما يتوجه إلى الله يكون عاقلاً، أما إذا توجه إلى غير الله يكون غير عاقل، لأنه قد قيل: أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً. إذاً الله عز وجل يخاطبنا ويقول: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ﴾ من معاني هذه الكلمة أنه ينبغي أن تستمعوا إلى بيان الله عز وجل، ينبغي أن تنصاعوا لأمره، ينبغي أن تطبقوا تعليماته، لأنها تعليمات الخبير، تعليمات الخالق، تعليمات الرب، تعليمات الذي يعلم أسباب سلامتنا وسعادتنا. بعضهم يقول: المخلوقات كلها خُلقت في عالم الذر، استناداً لقوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ هذا عالم الذر، النفوس مُجرَّدة من الصور، في عالم الذر بعض من في هذا العالم قبِلَ حمل الأمانة، وبعض من في هذا العالم أشفق من حمل الأمانة، نحن قبلنا حمل الأمانة من هنا يمكن أن أقول: متى تحقق الهدف؟ الجواب إذا صح عملك، ومتى يصح عملك؟ إذا عرفت سبب وجودك في الدنيا، الآن الناس في ضياع، هناك من يتوهم أنه يعيش ليأكل، أو يعيش ليستمتع، أو يأكل ليعيش، أو يعيش ليعرف الله عز وجل، اسأل نفسك هذا السؤال، والسؤال دقيق وخطير، وسؤال فلسفي، لماذا أنت في الدنيا؟ يعني أنت سافرت إلى بلد وسألتنا ماذا أفعل؟ نقول لك: سؤالك عجيب ، لماذا جئت لهذا البلد؟ إن جئت طالب علم الطريق واضح إلى المعاهد والجامعات، إن جئت تاجراً الطريق واضح إلى المعامل والمؤسسات. أي أنه لا تصح حركتك في مكان ما إلا إذا علمت لماذا أنت في هذا المكان بالضبط. حينما تعرف لماذا أنت في الدنيا، أنت في الدنيا من أجل أن تعرف الله، ومن أجل أن تستقيم على أمره، ومن أجل أن تتقرب إليه، ومن أجل أن يكون إعدادك لنفسك تمهيداً وثمناً لدخول الجنة.
المؤمن حينما يُعمِل عقله، ويقرأ كتاب ربه، ويعرف سر وجوده، فيكتشف أنه مخلوق للعبادة. ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ وأن العبادة سر وجوده، وأن الإنسان يرقى إلى أعلى مقام حينما يكون عبداً لله، فلما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى قال تعالى: ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ هذا المقام هو العبودية: إذاً العبودية سر وجودنا، وغاية وجودنا، والعبودية خضوع لله خالص، ومحبة لله خالصة، وحرية خالصة، وطاعة خالصة، وعمل صالح خالص، وتضحية خالصة، فالعبودية علة وجودنا، وغاية وجودنا، قال تعالى ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ هي طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية. هناك جانب معرفي، وهناك جانب سلوكي، وهناك جانب جمالي، تعرفه فتطيعه، فتسعد بقربه في الدنيا والآخرة، وفي الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. لكن الذين يفهمون العبادة فهماً ضيقاً يتوهمونها صلاةً فقط، وصياماً وحجاً وزكاة، العبادة منهج كامل يغطي كل حياتك، وكل أطوار حياتك، وكل شؤون حياتك، وكل اهتماماتك، يبدأ من فراش الزوجية، إلى العلاقات الدولية. فالله عز وجل كلفنا أن نعبده، أو كلفنا حمل الأمانة ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ﴾ كلفنا حمل الأمانة. ما كلفنا الله حمل الأمانة إلا وأعطانا مقوماتها.
مقومات حمل الأمانة
1.الـكـون:
أعطاك الكون، الدليل: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ تسخير تعريف وتكريم، الكون مسخر للإنسان، تسخير التعريف يقتضي أن تؤمن به، وتسخير التكريم يقتضي أن تشكره، فإذا آمنت به وشكرته حققت الهدف من وجودك، قال تعالى: ﴿ مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ﴾ يعني أنتم إذا شكرتم وآمنتم، أو آمنتم وشكرتم فقد حققتم علة وجودكم، وحققتم الغاية من وجودكم، وأنت أيها الإنسان علمت أو لم تعلم أكرم المخلوقات على الله، أنت المخلوق الأول رتبة، لأنك قبلت حمل الأمانة.
2. العقــل:
أعطاك عقلاً، العقل ميزان ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ هذا العقل إذا أعملته أعطاك النتائج، تماماً: عندك بيت ثمنه خمسون مليونًا، ودُفع لك ثمنه، وفي الجيب الأيمن جهاز إلكتروني يكشف العملة المزورة، وفي الجيب الأيسر أرقام أوراق العملة المزورة، وأنت قبضت ثمن هذا البيت، لم تستخدم الجهاز الأول الإلكتروني، ولم تدقق في أوراق العملة التي بجيبك، وكان المبلغ كله عملة مزورة، من هو الخاسر؟ أنت، أنت السبب، معك عقل باليمين، ومعك منهج قرآني باليسار، فلا استخدمت عقلك، ولا استخدمت القرآن الكريم، فشقي الإنسان. فلذلك الشقاء بسبب جهل الإنسان، وعدم استخدام العقل والنقل معاً، والعقل والنقل متطابقان والحمد لله.
3.الـفـطـرة:
أعطاك فطرة، لو أنك لم تعمل عقلك كما أنه لم تقرأ كتابك، أعطاك بنية نفسية جِبلّة، فطرة تكشف لك الخطأ ذاتياً. ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ .
4.الشـهـوة:
أعطاك شهوة هي ثمن الجنة، ما أودع الله في الإنسان الشهوات إلا ليرقى بها مرتين، مرة صابراً، ومرة شاكراً إلى رب الأرض والسماوات، هذا الميل نحو المال، نحو المرأة، نحو العلو في الأرض، نحو الطعام، أودع فيك الشهوات، قال تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ أعطاك الشهوات لترقى بها، وهي حيادية، وما من شهوة أودعها الله فيك إلا وجعل لها قناة نظيفة تسري خلالها، فلا حرمان بالإسلام. لكن المحرمات ليست قيوداً لحريتك، بل هي ضمان لسلامتك، المحرمات تماماً كلوحة كتب عليها: حقل ألغام ممنوع التجاوز، لا تشعر بحقد أبداً على من وضع اللوحة، بل تشكره من أعماق أعماقك، لأنه ضمن لك بهذه اللوحة سلامتك، كما لو وُضعت لوحة أمام تيار توتر عالٍ: " ممنوع الاقتراب خطر الموت "، هذه اللوحة رحيمة، اللوحة فيها علم، فيها حكمة، فيها رحمة، فيها قيادة حكيمة للمواطنين.
5. حــرية الاختيار:
أعطاك حرية، أنت حر. ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ ما لم تكن حراً لا يُثمّن عملك، ما لم تكن حراً فلا يمكن أن ترقى إلى الله عز وجل، أنت حر فيما كُلفت به، لكن الذي لست حراً فيه ما إذا كنت ذكراً أو أنثى، ومن أبوك وأمك، وفي أي مكان ولدت، وفي أي زمان ولدت، هذه لمصلحتك، ومحض خير لك، وليس في إمكانك أبدع مما أعطاك.
6. المنهج:
وفضلاً عن كل ذلك أعطاك منهجاً، لو أن الأمور التبست عليك، هناك منهج، هناك كتاب، هناك سنة، والشريعة عدل كلها، والشريعة رحمة كلها، والشريعة حكمة كلها، والشريعة مصلحة كلها، فأية قضية خرجت من المصلحة إلى المفسدة، ومن العدل إلى الجور، ومن الحكمة إلى خلافها، ليست من الشريعة.