كان عليه الصلاة والسلام قد جمع في نشأته خير ما في طبقات الناس من ميزات، وكان طرازاً رفيعاً من الفكر الصائب، والنظر السديد، ونال حظاً وافراً من حسن الفطنة، وأصالة الفكرة، وسداد الوسيلة والهدف وكان يستعين بصمته الطويل. والفكر الصائب، والنظر السديد هدية الله للمؤمن، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ﴾ ونال حظاً وافراً من حسن الفطنة، وأصالة الفكرة، وسداد الوسيلة والهدف كيف؟
- قبل البعثة وعندما كانت قريش تعيد ترميم الكعبة كادت القبائل تقتتل في أرض الحرم، كادت الدماء تسيل، فلما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضع مكانه الحجر الأسود، من ينال شرف أن يمسكه، وأن يحمله، وأن يضعه في مكانه، واستمر النزاع أربع ليالٍ أو خمساً، واشتد حتى كاد يتحول إلى حرب ضروس في أرض الحرم. إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومي عرض أن يحكموا فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجد، فارتضوا، وشاء الله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتها، كان محمد بن عبد الله هو أول داخل، فلما رأوه هتفوا، وقالوا: هذا الأمين، النبي عليه الصلاة والسلام ما عبد صنماً، ولا شرب خمراً، ولا أكل مالاً، ولا انتهك عرضاً، ولا سفك دماً، هذا الأمين رضيناه، هذا محمد، فلما انتهى إليهم، وأخبروه الخبر طلب رداء، فوضع الحجر وسطه، وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعاً بأطراف الرداء وأمرهم أن يرفعوه حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده فوضعه في مكانه، وهذا حل حصيف رضي به القوم. إذاً: نال حظاً وافراً من حسن الفطنة، وأصالة الفكرة، وسداد الوسيلة، وكان يستعين بصمته الطويل على طول التأمل، وإدمان الفكرة، وطالع بعقله الخصب، وفطرته الصافية صحائف الحياة، وشؤون الناس، وأحوال الجماعات، فعافى ما سواها من خرافة، ونأى عنها، ثم عاشر الناس على بصيرة، من أمره وأمرهم فما وجد حسناً منهم فشاركهم فيه، وإلا عاد إلى عزلته العتيدة، فكان عليه الصلاة والسلام لا يشرب الخمر، ولا يأكل مما ذُبح على النصب، ولا يحضر للأوثان عيداً ولا احتفالا، بل كان من أول نشأته نافراً من هذه المعبودات الباطلة حتى لم يكن شيء أبغض إليه منها، وحتى كان لا يصبر على سماع الحلف باللاة والعزة. فقبل أن تأتيه البعثة، فطرته سليمة، فطرته تأبى أن يعبد صنماً، أو أن يُحلف بإله، أو أن يشرب خمراً.
- بعد الهجرة. إنسان ثارت حوله مشكلة، وهو النبي الكريم، جاءه زعيم الأنصار، وقال: يا رسول الله، إن قومي وجدوا عليك في أنفسهم، من هذا الفيء الذي منعته من الأنصار فقال: يا سعد، أين أنت من قومك؟ فقال سعد: ما أنا إلا من قومي، فقال: اجمع لي قومك، الآن هناك مشكلة، دققوا في حكمة النبي قال: (( يا معشر الأنصار، بلغتني عنكم وجدة وجدتموها علي في أنفسكم من أجل لعاعة تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم )) . الآن دققوا: النبي عليه الصلاة والسلام بعد فتح مكة، وقد دانت له الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها، كيف عاملهم؟ كان بإمكانه كما يفعل الأقوياء، أن ينهي وجودهم، وكان بإمكانه أن يهدر كرامتهم، وكان بإمكانه أن يهملهم، وكان بإمكانه أن يعاتبهم، قال: (( أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصُدِّقتم به، أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فأغنيناك )). فذكرهم بفضلهم عليه، هو قوي جداً، دانت له الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها، قال: ألم تكونوا أعداء فألف بين قلوبكم، ألم تكونوا فقراء فأغناكم الله ... أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون بالنبي إلى رحالكم ... لو سلك الناس واديا، وسلك الأنصار شعبا، لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار. فبكوا حتى سال الدمع من لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظا.