أيها الأخوة، مع شمائل النبي صلى الله عليه وسلم وخصاله الحميدة، مباسطته صلى الله عليه وسلم لجلسائه واتساعه لهم، فقد كان عليه الصلاة والسلام ينبسط لجلسائه انبساط الانطلاق الشرعي المباح. فالنبي عليه الصلاة والسلام فيما أثر عنه أنه ما من صحابيٍ عامله إلا شعر بأنه أقرب الناس إليه. لذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا جلس مع أصحابه يبسط إليهم رداءه، ويطلق لهم وجهه دون أن يشعرهم أنه نبيٌ عظيم، وأن بينه وبينهم مسافاتٍ شاسعة، هذا الشعور لم يكن عند أصحاب رسول الله مهما بالغوا في أدبهم معه، إلا أنهم يشعرون أنهم قريبون منه، وقريبٌ منهم، هذا كلام عام، لكن لو أردنا التفاصيل كيف؟
كان عليه الصلاة والسلام إذا جلس مع أصحابه وتحدثوا في حديثٍ مباحٍ من أمر الدنيا، شاركهم في الحديث تأليفاً لقلوبهم، وتطييباً لخواطرهم، وإيناساً لهم. دخل على زيد بن ثابت رضي الله عنه نفراً فقالوا: ((حَدِّثْنَا عَنْ بَعْضِ أَخْلاَقِ النبي -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: كُنْتُ جَارَهُ فَكَانَ إِذَا نَزَلَ الوحي بَعَثَ إِلَىَّ فَأَتَيْتُهُ فَأَكْتُبُ الوحي ـ سيدنا زيد كان من كُتَّاب الوحي ـ وَكُنَّا إِذَا ذَكَرْنَا الدُّنْيَا ذَكَرَهَا مَعَنَا، وَإِذَا ذَكَرْنَا الآخِرَةَ ذَكَرَهَا مَعَنَا، وَإِذَا ذَكَرْنَا الطَّعَامَ ذَكَرَهُ مَعَنَا )) وسُئل أحد الصحابة الكرام (( أَكُنْتَ تُجَالِسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَكَانَ طَوِيلَ الصَّمْتِ قَلِيلَ الضَّحِكِ وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَذْكُرُونَ عِنْدَهُ الشِّعْرَ وَأَشْيَاءَ مِنْ أُمُورِهِمْ فَيَضْحَكُونَ وَرُبَّمَا تَبَسَّمَ )).
كان عليه الصلاة والسلام يمزح لإدخال السرور على قلوب أصحابه، لو أنه ترك الطلاقة في وجهه، والانبساط في خلقه، ولزم العبوس والانقباض، لألزم أصحابه بهذا الخُلق، وكذلك التابعون، فأصبح هذا الدين دين انقباضٍ، ودين اكتئابٍ، ودين عبوسٍ، وديناً ينفر منه الناس.
تحببه النبي للأطفال عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: (( إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُخَالِطُنَا حَتَّى يَقُولَ لِأَخٍ لِي صَغِيرٍ يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ )) طفل صغير أعطاه النبي عليه الصلاة والسلام كُنية، يا أبا عمير، كان معه عصفور صغير اسمه النغير، قال: ((... يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ )) تصور إنساناً يتربَّع على قمة المجتمع، نبوة على ملك، على عظمة، على علم، على وقار، على هيبة، مع الوحي والإعجاز، ومع ذلك يتحبب لطفلٍ صغير، سماه أبا عمير، يقول له: ((... يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ ))
رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهراً، كان عليه الصلاة والسلام يحبه، وكان زاهرٌ رجلاً دميماً، وكان عليه الصلاة والسلام دائماً ينظر إلى الحقائق، إلى الجوهر، الرجل لا يقيّم بشكله، فكان يحبه، ويداعبه، ويمازحه، ويهديه، أتاه النبي عليه الصلاة والسلام يوماً وهو يبيع متاعه في السوق. (( أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرًا كَانَ يُهْدِي لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْهَدِيَّةَ مِنْ الْبَادِيَةِ فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّهُ وَكَانَ رَجُلًا دَمِيمًا فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَهُوَ لَا يُبْصِرُهُ - إلى هذه الدرجة المداعبة، كان اللهم صلِّ عليه طبيعياً، احتضنه من خلفه وهو لا يبصره - فَقَالَ الرَّجُلُ أَرْسِلْنِي مَنْ هَذَا فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ لَا يَأْلُو مَا أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ عَرَفَهُ وَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا وَاللَّهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا - لا أحد يشتريني - فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ أَنْتَ غَالٍ )) هذه العلاقة العفوية الطبيعية أساسها الحب، أساسها المداعبة، أساسها تبادل الهدايا.
ومن جملة ما ورد في مزاحه صلى الله عليه وسلم، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (( يَا رَسُولَ اللَّهِ احْمِلْنِي -أي يطلب أن يحمله على دابة - قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ قَالَ وَمَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَلْ تَلِدُ الْإِبِلَ إِلَّا النُّوقُ )) القصد أن النبي صلى الله عليه وسلم يؤنس أصحابه، يطيب نفوسهم، يدخل على قلوبهم السرور والمِزاح هذه وظيفته في الحياة، إدخال الفرح على قلب جليسك الذي تحادثه ويحادثك.
مزاحه صلى الله عليه وسلم مع أهل بيته " قالت السيدة عائشة له: أتحبني؟ قال: نعم كعقدة الحبل عقدة لا تفك، فكانت هذه الزوجة الطاهرة السيدة عائشة تسأل النبي عليه الصلاة والسلام من حينٍ إلى آخر تقول: " كيف العقدة؟ يقول: على حالها ".
صحابي جليل مزح مع النبي فعَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: (( أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ ـ في خيمة صغيرةٍ - فَسَلَّمْتُ فَرَدَّ وَقَالَ ادْخُلْ فَقُلْتُ أَكُلِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ ـ رآها خيمة صغير جداً لعله يداعب النبي - قَالَ كُلُّكَ فَدَخَلْتُ )) مزاح لطيف، مهذب، أديب.
لكن بالمقابل قال عليه الصلاة والسلام: (( لست من ددٍ ولا الدُد مني...)) دد أي لست محباً للضحك والمزاح واللهو والعبث، طبعاً النبي كان يمزح، وكان طليق الوجه، وكان منبسط الأسارير، ولكن لا يعني هذا أنه كان مغرماً بالضحك، لا يعني هذا أنه كان يسرف لإضحاك أصحابه، لا فهو جادٌ ويحمل هموم أمته، ويحمل رسالة كبيرة، إلا أنه ُيدخل على قلوب أصحابه السرور بهذا المزاح اللطيف. ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (( لست من الباطل ولا الباطل مني )). والنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن المزاح يسبب صدمة للشخص هذا مزاح محرَّم. (( لَا يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ أَخِيهِ لَاعِبًا وَلَا جَادًّا، وَمَنْ أَخَذَ عَصَا أَخِيهِ فَلْيَرُدَّهَا )) وقال عليه الصلاة والسلام: (( لا تروعوا المسلم فإن روعة المسلم ظلمٌ عظيم )).