أيها الإخوة الكرام ... مع شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، كراهيته صلى الله عليه وسلم إطلاق بعض الكلمات مخافة إيهامِها .
قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي، وَلَكِنْ لِيَقُلْ : لَقِسَتْ نَفْسِي)
فإذا شعر باضطرابات في أمعائه فلا يقولنّ أحدكم : خبثت نفسي، ولكن ليقل : لقست نفسي، أي إن النبي عليه الصلاة والسلام كره أن يوصف المؤمن بالخبث، فالإنسان كلما ارتقى إيمانه ارتقى مستوى تعبيره، وأحسن اختيار كلماته، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي...) ، فإذا شعرت باضطرابات في الهضم والأمعاء، فهو ليس خبيثاً، والمرض ليس خبثاً، كان يبدو في عهد النبي عليه الصلاة والسلام إذا شعر الإنسان بآلام في معدته، أو باضطراب، أو بتُخمة يقول : خبثت نفسي، فالنبي ما أراد أن يوصف المؤمن بالخبث قال : (لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي وَلَكِنْ لِيَقُلْ لَقِسَتْ نَفْسِي)
وإذا أردنا أن نستنبط من هذا الحديث الشريف قاعدةً فإنها : حسن اختيار الكلمات جزءٌ من دينك، وكلما ارتقى إيمانك اخترت الكلمة التي لا تخدُش، ولا توهم بشيء،
وسيدنا عمر تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقومٍ يشعلون ناراً فقال :
(السلام عليكم يا أهل الضوء)
ولم يقل : السلام عليكم يا أهل النار، و أيضاً هذا من حسن اختيار المؤمن للكلمات، فليس غريباً أن تعيش مع مؤمنٍ سنواتٍ طويلة، ثلاثين عاماً، لا تسمع منه كلمة نابية، ولا كلمةً تجرح الحياء، ولا كلمة توهم بخلاف ما أردت،
كان عليه الصلاة والسلام يقول :
(تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إلا هَالِكٌ)
كان عليه الصلاة والسلام لا يريد أن يتوهم متوهمٌ شيئاً ليس واقعاً،
(فَعَنْ عَلِيِّ بِنُ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزُورُهُ فِي اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهَا يَقْلِبُهَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرَّ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ فَقَالَا سُبْحَان اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنْ الْإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا)
تعَوَّدْ أن تبيِّن، فإنّ البيان يطرد الشيطان، وقِسْ على هذا الحديث آلاف الحالات، وضِّحْ أين كنت، ولماذا أتيت في هذا الوقت، وما قصدك من هذه الكلمة، وما قصدك من هذه الزيارة، ولماذا أعطيت، ولماذا منعت، لا تكن مُبهمًا، هناك شخصيات مبهمة، لا تعرف، وقد يسئ الناس بها الظن،
وسيدنا علي يقول :
(من وضع نفسه موضع التهمة، فلا يلومنَّ الناس إذا اتهموه)
خبثت نفسي، كيف خبثت ؟ هل ارتكبت المعاصي ؟ لا، لا معي اضطراب في الأمعاء، ففي هذه لا تقل : خبثت نفسي، قل : لقست نفسي، أعاني من اضطرابات هضمية.
قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ جَاشَتْ نَفْسِي وَلَكِنْ لِيَقُلْ لَقِسَتْ نَفْسِي)
وبعضهم يستخدم كلمات سوقية، أو كلمات ليست مستعملة في المجتمع الراقي، فإذا قال واحد : دخل الحمام، والله كلمة لطيفة، وهناك كلمات أخرى تخدش الحياء، إنسان قضى حاجة، فقل : دخل الحمام، والقرآن علمنا الكنايات اللطيفة ..
قال تعالى :
(أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً)
وقال أيضا :
(فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً)
تغشاها، لامستم النساء .
وقال عزوجل :
(فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ)
فيجب أن تعد كلامك جزءًا من عملك، والإنسان كيف يتجمَّل، يلبس، ويتعطر، ويرتب بيته، فكما تعتني ببيتك، وبأثاث بيتك، وبهندامك، وبمركبتك، فعليك أن تعتني بألفاظك .
أحدهم رأى شابًا يرتدي أجمل الثياب، ويتكلم أقبح الكلمات، فقال له : إما أن ترتدي ثياباً تشبه كلامك، وإما أن تتكلم كلاماً يشبه ثيابك، ففي سيرته تناقضٌ .
قال العلماء : معنى لقست وجاشت أي غثيت، وهو الشعور بالغثيان، وإنما كره النبي صلى الله عليه وسلم كلمة خبُثت لأنه ما أحب أن يوصف المؤمن بالخبث .
هل هناك آيةٌ في القرآن الكريم تشير إلى هذا المعنى، أن يختار الإنسان أجمل الكلمات وأحسنها ؟
قال ربنا عزوجل :
(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)
أي اختر أحسن الكلمات، فلو اعتدى عليك إنسان، وقسا عليك بالكلمات، رُدَّ عليه بأحسن الكلمات، مثلاً : من ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم أن يقول العبد لسيده : يا ربي، ربك هو الله، فهذا سيّدك، ومعلمك، وليس ربك،
قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ أَطْعِمْ رَبَّكَ وَضِّئْ رَبَّكَ اسْقِ رَبَّكَ وَلْيَقُلْ سَيِّدِي مَوْلَايَ وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ عَبْدِي أَمَتِي وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلَامِي)
كلمة عبدي فيها استعلاء، وكلمة ربي فيها تذلل، فالنبي عليه الصلاة والسلام نهى أن يقول العبد لسيِّده ربي، بل يقول : سيدي ومولاي، ونهى أن يقول السيد لغلامه : عبدي أو أمتي، وليقل : غلامي وجاريتي، وفتاي وفتاتي، إذاً فالكلمات لها أثر في إهانة المخاطب، أو في تأليه المخاطب، فلا تؤلِّه مَن هو فوقك، ولا تستعبد من هو دونك .
قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللَّهِ وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إِمَاءُ اللَّهِ وَلَكِن لِيَقُلْ غُلَامِي وَجَارِيَتِي وَفَتَايَ وَفَتَاتِي)
لمخلوقٍ إياك أن تقول له : ربي، ولو قلت له : سيدي، وأنت تراه رباً لك، فأيضاً هذا خطأ، والآن دعنا من الألفاظ، إذا رأيت أن فلاناً الكبير بإمكانه أن ينفعك أو أن يضرك، أو أن يقربك أو أن يبعدك، ولو قلت له يا سيدي، فقد ارتكبت إثمًا أكبر، لأنك ألَّهته بالمعنى، وأنت لا تدري،
ولذلك عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ :
(أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِأَسِيرٍ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَتُوبُ إِلَيْكَ وَلَا أَتُوبُ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفَ الْحَقَّ لِأَهْلِهِ)
الحكمة أنه منع السادة أن يتألَّهوا، ويتجبروا، ومنع الصغار أن يُستعبَدوا ويهانوا .
ومن ذلك أيضاً تحذيره صلى الله عليه وسلم أن يقول : هلك الناس، الناس لا يوجد فيهم خير، الناس كلهم فسقوا، الناس كلهم فسدوا، لا يوجد غيرنا، من السذاجة أن تظن ذلك،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ)
أي هو أشدهم هلاكاً، من قال هلك الناس، الدنيا بخير، وهناك أُناسٌ طيِّبون، وفي كل بلدةٍ أناس طيبون، فهذا الذي ينظر إلى الدنيا بمنظار أسود، ويلقي على نفسه كل فضيلة، وينزعها من كل إنسانٍ آخر، هذا إنسان غير سوي، يحتاج إلى معالجة، ولذلك نهى فعليه الصلاة والسلام وحذر أن يقول الرجل هلك الناس، وهو يريد بذلك انتقاصهم واحتقارهم، و تنزيه نفسه وتفضيلها عليهم، لا تقل : هلك الناس .
فسبحان الله هناك أشخاص لا يرون الكمال إلا فيهم، ومهما رأوا من كمال في غيرهم يرونه نقصاً، فهذا إنسان يحتاج إلى طبيب نفسي، لأنه هو مريض، ويرى الكمال في نفسه وحدها، وما سواه كلهم في نقصٍ شديد .
وسبحان الله هذا الذي يكَفِّر الناس ويفسِّقهم يقع في شر عمله، ربما فُضِحَ في عقر داره،
صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ :
(يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ)
وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى الْكَعْبَةِ (فَقَالَ مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ)
ودائماً يوزع تهمًا على الناس، ويقيِّمهم تقيماً سيِّئاً، ويسئ الظن بالآخرين، ويحسن الظن بذاته، وربما وقع هذا الإنسان في شر عمله، وزلت قدمه فوقع في حماقةٍ يترفَّع عنها معظم الناس الذين اتهمهم بالسفه .
وبالمناسبة اللهم صلِّ عليه هو أعظم إنسان، هو البطل الذي جمع كل نواحي العظمة، ومع ذلك ما غفل أبداً عن بطولة أصحابه، أعطى كل صحابيٍ حقه، فإذا كنت في عمل ولك زميل، وأنت مهندس وثمة مهندس غيرك، أو كنت مدرسًا وثمة مدرس غيرك، ووجدت من صديقك أو زميلك تفوقاً، فما الذي يمنعك أن تذكر هذا التفوق، وألاّ تحسده، عوِّد نفسك أن تعترف للآخرين بالفضل، وتُثني على أعمالهم، وألاّ تكون ذا أثرة، وأن تكون موضوعياً، فأنت مهندس وقدم لك مهندس مشروعًا رائعًا فقل له : والله هذا شيء رائع، بارك الله بك، إنه شيء يرفع الرأس، هنيئاً لك على هذه الملكات، عود نفسك أن تقدِّر عمل الآخرين، أما مَن كان أفقه ضيقًا، والحسد يأكل قلبه فلا يستطيع أبداً أن يقدِّر الآخرين، بل ينتقصهم، ويبحث عن زلاتهم، وأحياناً يوجد إنسان يقرأ كتابًا لا لشيء إلا ليبحث عن نقاط ضعفه، ليس هذا مثقفاً، أما المتعلم الحقيقي فيقرأ الكتاب ليستفيد منه، وقد يغُضُّ الطرف عن بعض زلات المؤلف، ويقول لك : العصمة لله، وما منا إلا من رَدَّ ورُدّ عليه، فخذ ما يعجبك ودع ما لا يعجبك، وخذ ما تستفيد منه ودع ما لا تستفيد منه، وخذ الأشياء المشرقة، ودع الأقل إشراقًا.
أما الحقيقة فهناك أناس كثيرون إذا أمسك أحدهم كتابًا فقط ليبحث عن العلل، والأخطاء، والثغرات، فهذا إنسان مريض، يتعامى عن إيجابيات الكتاب، ويتعامى عن فكره العميق، وعن أسلوبه الرفيع، لكنه وجد خطأً، كأنه فاز بشيء، فالنقد جيد، ولكنه النقد المعتدل، والنقد البنَّاء، والذي فيه ثناء .
أنا كنت أذكر لكم ذلك الذي دخل إلى المسجد، وأحدث جلبة وضجيجًا، وشوش على المصلين، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال له : (زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلا تَعُدْ)
وإذا كنت مدير دائرة، أو مدير ثانوية، أو مدير مستشفى، بمنصب قيادي، ووجدت إنسانًا أخطأ معك، فأساء، أو تأخَّر، فحاوِلْ أنْ تقدَّم له شيئًا من ميزاته، وإيجابيَّاته، لكي يطمئن، وتجبر قلبه، وبعد ذلك اذكر بعض عيوبه، ولا تذكر العيب إلا بعد أن تذكر الحسن، ولذلك في أدق تعاريف النقد الحديث ذكر الحسنات والسيئات، وذكر الإيجابيَّات والسلبيات، وذكر المنائح والمثالب، أما أن تكتفي بالمثالب وبنقاط الضعف فهذا بعيد عن الاستقامة .
قضية يسمونها سمة بالإنسان، إنسان دخل بيته فوجده نظيفًا، والطبخ جاهز، وغرف النوم نظيفة، والأولاد منتظمون، وجد غلطة واحدة، فتعامى عن كل الإنجازات، ونظر إلى هذا الخطأ وكبَّره، فهذا إنسان شقيٌ في حياته، ويَشقي مَن معه، كن إيجابيًا، وخذ النواحي الإيجابية وكبَّرها، كان يحسِّن الحسن عليه الصلاة والسلام، ولذلك فأنجح الأزواج هؤلاء الذين يثنون على زوجاتهم بما هُو فيهن، أما ويبتعدون عن النقص، والغلط.
وهناك شخص جبار في البيت، ووجوده فيه مخيف، إذا خرج من البيت تنفس أهله الصعداء ؛ ويقولون : ارتحنا منه، وإذا مرض وجاء الطبيب وقال لهم : حالة بسيطة عرضية، انزعجوا كثيراً، ما هذه العرضية، ظنناها القاضية، فلم تكن القاضية، فشتان بين من يتمنى الناس بقاءه وحياته، وبين من يتمنى الناس موته، اجهد أن يتمنى الناس بقاءك، وأن يتمنى الناس حياتك .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أشد من ذلك العُجب العُجْب)
فهناك إنسان معجب بنفسه، وبشخصيته، وببيته، وبأولاده، يرى الناس كلهم أمامه لا شيء، فهذا إنسان مريض، فمن ظن أن الناس أغبياء فهو أغباهم، فالناس أذكياء، ويعرفون الغث من الثمين، ويعرفون الصالح من الطالح، والخير من الشر، والمتواضع من المتكبِّر، ويعرفون الوقائع، أما إذا أردت أن تكون أنت في برجٍ عاجي بمعزل عن المؤمنين الطيِّبين، وظننت أنهم لا يفقهون ولا يعرفون، فمن ظن أن الناس أغبياء فهو أغباهم، "وليحذر المسلم أن يزكي نفسه وأن يحتقر غيره " .
فيا أيها الأخ اتهم نفسك بالتقصير دائماً وأبداً، وأحسن الظن بأخيك المؤمن، فهذا أكمل خُلُق، والمعاكس دائماً تحسن الظن بنفسك ؛ ولا ترى الأخطاء الكبيرة في شخصيتك، وتبحث عن أخطاء صغيرة في الآخرين، وهذا موقف مرضي، ومثل هذا الإنسان يحتاج إلى معالجة نفسية، ولذلك فإنّ النبي عليه الصلاة والسلام علَّمنا إذا رأى الرجلُ أخاه وقع في ذنب ماذا يفعل ؟
قال في الحديث الشريف :
(الذنب شؤم على غير فاعله، إن عيّره ابتلي، وإن اغتابه أثم، وإن رضي به شاركه)
يجب ألا تعيِّر، وألا تذكر، وألا تقره على عمله، ويجب أن تقول : الحمد لله الذي عافاني، وأرجو الله أن يهديه، فقط من دون أن تسمعه ذلك، إذا قلت : الحمد وهذا هو الموقف الصحيح،
ورد في الأثر عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ كَانَ يَقُولُ:
(لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ فَإِنَّ الْقَلْبَ الْقَاسِيَ بَعِيدٌ مِنْ اللَّهِ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ وَلَا تَنْظُرُوا فِي ذُنُوبِ النَّاسِ كَأَنَّكُمْ أَرْبَابٌ وَانْظُرُوا فِي ذُنُوبِكُمْ كَأَنَّكُمْ عَبِيدٌ فَإِنَّمَا النَّاسُ مُبْتَلًى وَمُعَافًى فَارْحَمُوا أَهْلَ الْبَلَاءِ وَاحْمَدُوا اللَّهَ عَلَى الْعَافِيَةِ)
فهل أنت وصي عليهم ؟ نحن دعاةٌ، ولسنا قضاةً، أنت لست قاضيًا، سبحان الله هناك كثير ممن يُنصِّب نفسه وصيًّا على الناس، فيوزِّع التُهم، ويقيِّم الناس، وهو لا يعرف قدر نفسه،
إلا أن المؤمن لو رأى عاصياً فلا يحتقره، إنها معصية، ولكن ليقل : أرجو الله أن يتوب منها، وربما تاب العاصي وسبق الذي انتقده، الصُلْحَة بلمحة، فأنا لفت نظري سحرة فرعون، هؤلاء أعوان فرعون، وأعوان الظلمة، كادوا لسيدنا موسى، وأرادوا أن يطفئوا نور الله، وأنْ يردوا الحق، فلما رأوا العَصَا انقلبت إلى ثعبانٍ مبين.. ماذا حصل ؟
قال الله تعالى:
(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)
فلو رأى مؤمن قبل دقيقة سحرةَ فرعون يصنعون الحبال، ويهيئون الكيد لسيدنا موسى، ويعاونون فرعون لقال : هؤلاء كفار، ولكن بعد دقيقة صاروا صدِّيقين، وهذا الكلام أقوله لكم، فهل ترى إنساناً أسوأ من سحرة فرعون ؟ إنهم سحرة، ومن سحر فقد كفر، والساحر عون للظالم، يريد أن يكيد لهذا النبي الكريم، ولكن عندما أجرى محاكمة دقيقة جداً، ورأى أن هذا الذي جاء بهذه المعجزة هو رسول الله، انتهى الأمر، وآمنوا به خلال دقائق .
ولذلك قلت لإخواننا اليوم : العبرة لا لمن سبق بل لمن صدق، وهناك شيء في الإسلام اسمه حرق المراحل، في نظام التعليم لا بدَّ أن تمضي أربع سنوات كي تأخذ الإجازة في فرع معين، وفي بعض الدول ثلاث سنوات للأذكياء والمتفوقين، لكن يمكن عند الله عزَّ وجل أن تأخذ هذه الإجازة في ساعة، لأنّ المراحل تُضْغَط، فكلَّما ازداد الصدق قصُر الزمن، فسحرة فرعون في زمنٍ قياسيٍ وصلوا إلى ما وصلوا إليه في أعلى درجة، هذا الكلام الذي ذكرته الآن لا تحتقر حتى العاصي، فلعلَّه يتوب ويتفوق عليك، واسأل الله السلامة، فالعبد شأنه التواضع لا التكبُّر .
(وَلَا تَنْظُرُوا فِي ذُنُوبِ النَّاسِ كَأَنَّكُمْ أَرْبَابٌ وَانْظُرُوا فِي ذُنُوبِكُمْ كَأَنَّكُمْ عَبِيدٌ فَإِنَّمَا النَّاسُ مُبْتَلًى وَمُعَافًى فَارْحَمُوا أَهْلَ الْبَلَاءِ وَاحْمَدُوا اللَّهَ عَلَى الْعَافِيَةِ)