أيها الأخوة المؤمنون؛ مع شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، مشاورته صلى الله عليه وسلم لأصحابه، قال تعالى يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر﴾ فالله سبحانه يأمر النبي أن يشاور أصحابه، مَن هو النبي؟ سيد الخلق، وحبيب الحق، أوتي الفطنة، سيد ولد آدم، يوحى إليه، معصوم، ومع كل هذه الخصائص، ومع كل هذه الميزات، ومع عصمته، ومع رجاحة عقله، ومع أن الوحي يُصَبُّ على صدره، ومع كل ذلك أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه، قال: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾. فما الذي يعنينا مِن هذا؟ ما الحكمة التي وراء المشاورة؟ في كلام الله عز وجل حِكَمُهُ التي لا تعدُّ ولا تحصى، لماذا أمر الله النبي أن يشاور أصحابه؟
- أولاً لأن في مشاورة أصحابه تطييباً لنفوسهم، أي أنك حينما تأمر، وعلى الطرف الآخر أن ينفذ، يشعر أنه أداةٌ بيدك، أما حينما تشاوره فتُشْعِرُه أنه شريكك، وهذا من الأساليب التربوية، كان عليه الصلاة والسلام يستشير أصحابه في الغزوات، معنى ذلك أن الصحابة الكرام حينما يشيرون عليه أن يخرج للقاء العدو، ويخرجون معه، لا يشعرون أنهم أدوات، هم شركاء.
- النبي صلى الله عليه وسلم اختار أصحاباً ليشاورهم من أصحاب العقول الناضجة، وهو بهذا يُعَزِّزُ رأيه برأيهم، قال مرةً لأبي بكرٍ وعمر: ((لَوِ اجْتَمَعْتُمَا فِي مَشُورَةٍ مَا خَالَفْتُكُمَا)) قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ فَإِذَا رَأَيْتُمْ اخْتِلَافًا فَعَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ)) لا تجتمع، ويجب أن تعلموا علم اليقين أن النبي صلى الله عليه وسلم معصومٌ بمفرده، بينما أمته معصومةٌ بمجموعها، لا تجتمع على خطأ.
- النبي صلى الله عليه وسلم حينما شاور أصحابه تنفيذاً لأمر الله عز وجل، فهو إنما يُشَرِّع لأمته من بعده، أي أنَّه هو معصوم لا يخطئ، والوحي يسدده، والله يؤيده، ورجاحة عقله لا حدود لها، والتوفيق الإلهي يحالفه دائماً، لكن هؤلاء الذين سيأتون من بعده، من أمته من أمراء أو من علماء، ليسوا في مستواه، قد يخطئون، قد يلتبس عليهم الأمر، إذاً هم في أشد الحاجة إلى المشورة، فقد سَنَّ لهم المشورة ليكون قدوةً لهم، هو حينما شاور أصحابه كان مُشَرِّعاً في مشاورة الأصحاب. النبي صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظهر يومًا ركعتين، ركعتين فقط، فقيل له: ((أَقَصُرَتِ الصَّلاةُ أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ النَّاسُ نَعَمْ - أي صليت ركعتين فقط - فسأل النبي أصحابه، طلبًا للتواتر ، فتبيَّن فعلاً أنّه صلى ركعتين، قال: إنما نُسِّيتُ كَي أَسُن)) فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم في كل أيام بعثته ما نسي ولا مرة، كيف يَسُنُّ لنا سجود السهو؟ ليس إذًا من طريق إلى ذلك، لهذا قال الله عز وجل: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى *إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ إلا ما شاء الله لحكمةٍ تشريعية. النبي صلى الله عليه وسلم اقترض من يهوديٍ من أهل الكتاب، وقد يقول إنسان ضيِّق التفكير: أيعقل أن يقترض النبي من يهوديٍ وأصحابه حوله يفدونه بأرواحهم وبمهجهم؟! الجواب سهل جداً: هو ما اقترض من هذا الكتابي لحاجة، أو لأن أصحابه يقصرِّون في حقه؛ لكن أراد أن يكون مشرِّعاً، لك أن تتعامل مع أهل الكتاب. فالنبي مشرِّع، فعندما استشار أصحابه شرَّع لنا أن نستشير، شرع للأمراء من بعده، وللعلماء من بعده أن يستشيروا، ففي موقعة بدر اختار موقعاً، تقول: يا رب ألم يكن من الممكن أن ترسل له جبريل ليخبره عن الموقع المناسب؟ هذا ممكن، يا رب لمَ لمْ ترسل له جبريل؟ ألم يكن من الممكن أن تلهمه الموقع المناسب إلهاماً؟ نعم ممكن، لمَ لمْ يكن ذلك؟ اختار موقعاً، اجتهد النبي واختار موقعاً، فجاء صحابي في أعلى درجات الأدب، أعلى درجات الغَيْرَة، أعلى درجات الحُب، وسأل النبي سؤالاً يقطر أدباً، قال: يا رسول الله هذا الموقع وحيٌ أوحاه الله إليك أم هو الرأي والمكيدة؟ الصحابي دقيق جداً، لو أن هذا المكان وحي لما كان له أن ينبس ببنت شفة، قال له: بل هو الرأي والمكيدة ، فقال: يا رسول الله ليس بموقع، بكل بساطة، بكل تواضع، بكل عفوية، من دون تشنُّج، من دون أن يرى النبي أن هذا انتقاصاً من قدره، من دون أن يُهمل هذا الذي نصح، من دون أن يحطِّمه، من دون أن يطرده، قال له: أين الموقع المناسب؟ قال: هناك، فأعطى النبيُّ أمرًا بنقل الجيش إلى ذاك الموقع.
- أيضاً من حِكَمِ المشاورة أن الذي تشاوره ترفع قدره، وتشعره أن رأيه مقبول، وأن له دوراً في هذه الأسرة، أو في هذه المؤسسة، يسمونها الآن إدارة ناجحة، لكن في قول الله: ﴿شَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ لكيلا تنقلب المشاورة إلى فوضى، وإلى تعطيل أعمال، افعل الذي تراه صواباً بعد أن تستأنس بآرائهم، فالشورى هل هي مُعْلِمة أم ملزمة؟ في الإسلام مُعْلِمَة، إلا إذا كان المستشير ليس متمرِّساً يصبح رأي المستشار مُلزماً. قال أحد الصحابة: "ما رأيت أحداً أكثر مشاورةً لأصحابه من النبي صلى الله عليه وسلم".
- حينما تستشير مَن حولك تتعرف إلى عقولهم، تتعرف إلى وجهات نظرهم، إذاً الاستشارة مهمة، والله عز وجل وصف المؤمنين بأن أمرهم شورى بينهم، فقال تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ معنى ذلك أن الشورى يجب أن تغدو جزءًا من حياة المؤمن.
فالنبي عليه الصلاة والسلام حثَّ أصحابه على الاستشارة، فكان عليه الصلاة والسلام يحثُّ على الاستشارة، ويرغِّب فيها، قال عليه الصلاة والسلام: ((المستشير مُعان، والمستشار مؤتمن، فإذا استشير أحدكم فليشر بما هو صانع لنفسه)) قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما خاب من استخار ولا ندم من استشار)). الاستخارة لله عز وجل، والاستشارة لأولِي الخبرة من المؤمنين. لا يكفي أنْ يكون مؤمنًا، ولا يكفي أنْ يكون خبيرًا، لأولي الخبرة من المؤمنين.