بحث

من شمائل الرسول صلى الله عليه مشاورته لأصحابه

من شمائل الرسول صلى الله عليه  مشاورته لأصحابه

بسم الله الرحمن الرحيم

    أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، مشاورته صلى الله عليه وسلم لأصحابه، 

     قال تعالى يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم :  

(وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)  

    فالله سبحانه يأمر النبي أن يشاور أصحابه، مَن هو النبي ؟ سيد الخلق، وحبيب الحق، أوتي الفطنة، سيد ولد آدم، يوحى إليه، معصوم، ومع كل هذه الخصائص، ومع كل هذه الميزات، ومع عصمته، ومع رجاحة عقله، ومع أن الوحي يُصَبُّ على صدره، ومع كل ذلك أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه، قال :   

(وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)  

ما الحكمة التي وراء المشاورة ؟  

    فما الذي يعنينا مِن هذا ؟ في كلام الله عز وجل حِكَمُهُ التي لا تعدُّ ولا تحصى، لماذا أمر الله النبي أن يشاور أصحابه ؟ 

أولاً: لأن في المشاورة تطييباً للنفوس:    

    أي أنك حينما تأمر، وعلى الطرف الآخر أن ينفذ، يشعر أنه أداةٌ بيدك، أما حينما تشاوره تُشْعِرُه أنه شريكك، وهذا من الأساليب التربوية،  ف لا يشعر الآخرون أنهم أدوات، بل هم شركاء .

    فالمشاورة من شأنها أن تطيِّب نفوس الذين تشاورهم، فأنت ترى أن الحكمة أن تفعل كذا في بيتك، لو سألت زوجتك ما قولك يا فلانة في هذا الأمر ؟ فإذا قالت : والله نِعْمَ الرأي، فإذا بدأت أن تفعله فلا تشعر أنها مأمورة بل هي شريكة، ما قولك يا فلان أن نفعل كذا ؟ فإذا أجابك إلى رأيك وفَعَلَه، يفعله عن طيب نفسٍ، فأول حكمةٍ من حكم مشاورته صلى الله عليه وسلم أن يطيِّب نفوس أصحابه .

    الله عز وجل حينما أمر عباده أمرهم وبيَّن لهم حكمة أمره، وأيضاً حينما يأمر الخالق أمراً، يأمر عباده أمراً ويبيِّن لهم حكمته، فإنه يُطيِّب قلوبهم بهذا الأمر، هذه واحدة، 

ثانياً: تعزيزاً للرأي:  

    والشيء الذي يقولـه النبي عليه الصلاة والسلام هو ذاته الذي قاله تعالى، 

     قال مرةً لأبي بكرٍ وعمر :   

(لَوِ اجْتَمَعْتُمَا فِي مَشُورَةٍ مَا خَالَفْتُكُمَا)  

    ما معنى هذا الكلام ؟ أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما يسأل أصحابه، أصحاب الرأي الراجح، أصحاب العقل السديد، يقول : أنا لو استشرت أبا بكرٍ وعمر لا أخالفهما، وهذا دليل أن النبي صلى الله عليه وسلم اختار أصحاباً ليشاورهم من أصحاب العقول الناضجة، وهو بهذا يُعَزِّزُ رأيه برأيهم،

     قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ :   

(مَنْ لَمْ يَشْكُرْ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْكُرْ الْكَثِيرَ وَمَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرْ اللَّهَ التَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ شُكْرٌ وَتَرْكُهَا كُفْرٌ وَالْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ)  

    طبعاً أنت رأيت هذا الرأي، وهو على صواب لا شك، لو سألت إنسانًا آخر وأشار عليك بالرأي نفسه، فأنت بهذا تتقوى على هذا الرأي، أنت رأيت، والحق معك، والحُجَّة قوية، أما إذا جاءك صديق، واستشرته، وأشار عليك بما أنت صانع، تشعر بالأُنس، تشعر أن رأيك سديد، هذا اسمه التقوِّي، ولو كنت على حق، ولو أصبت في رأيك، حينما تسأل من حولك، وتستشيرهم، ويدلون لك بالرأي نفسه، هذا مما يقوِّي رأيك .

    إذاً أول حكمة من حكم المشاورة تطييب نفوس أصحابه، والحكمة الثانية أن النبي صلى الله عليه وسلم يَتَقَوَّى برأيهم .

    أخ يسألني سؤالاً، أعرف الجواب، وأعطيه الجواب والدليل، أكون مرة في نزهة لقاء مع إخواننا العلماء، أقول : ما قولكم في هذا الموضوع ؟ يجيبون كما أجبت، أشعر براحة، أتقوَّى، فالإنسان أحياناً يتقوى بأخيه، الإنسان دائماً لا يختَرْ رأيًا ضعيفًا، ولا رأيًا مُفْرَدًا، ولا حُجة ضعيفة، ولا رأيًا شاذًا، عليه أن يكون مع جمهور العلماء، ومع جمهور المسلمين، ومع الأكثرية، 

يَقُولُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:   

(إِنَّ أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ فَإِذَا رَأَيْتُمْ اخْتِلَافًا فَعَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ)  

    لا تجتمع، ويجب أن تعلموا علم اليقين أن النبي صلى الله عليه وسلم معصومٌ بمفرده، بينما أمته معصومةٌ بمجموعها، لا تجتمع على خطأ، فأنت حينما تقرأ التفاسير، يقول لك : قال الجمهور، فكن مع الجمهور، كن مع الأكثرية، طبعاً الأكثرية ليس من عامة الناس، بل المقصود من جماعة المؤمنين، لأن الأكثرية من الناس ربما تكون على ضلال ..

     قال الله تعالى:  

(وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً)  

    إذاً أولاً تطيب نفوسهم، وثانياً تتقوى برأيهم، أنت على حق، لكن سبحان الله السؤال يُعطي أُنسًا، يعطي قوة، يعطي ثقة بالنفس .

ثالثاً: ليشرع أمر المشاورة لأمته من بعده:  

    والأخطر من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما شاور أصحابه تنفيذاً لأمر الله عز وجل، فهو إنما يُشَرِّع لأمته من بعده، أي أنَّه هو معصوم لا يخطئ، والوحي يسدده، والله يؤيده، ورجاحة عقله لا حدود لها، والتوفيق الإلهي يحالفه دائماً، لكن هؤلاء الذين سيأتون من بعده، من أمته من أمراء أو من علماء، ليسوا في مستواه، قد يخطئون، قد يلتبس عليهم الأمر، إذاً هم في أشد الحاجة إلى المشورة، فقد سَنَّ لهم المشورة ليكون قدوةً لهم، إذاً رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم غنيٌ عن آراء أصحابه، لأنّ رجاحة عقله، وعصمته، والوحي الذي يأتيه يغنيه عن مشاورة أصحابه ؛ إلا أنه شاور أصحابه ليكون قدوةً لمن بعده من العلماء والأمراء، هو حينما شاور أصحابه كان مُشَرِّعاً في مشاورة الأصحاب .

    أيضاً عندما شاور النبي أصحابه، طبعاً تطييبًا لخاطرهم، وتقوَّى بهم، ولكنه قطعاً غنيٌ عن رأيهم، وعن توجيههم، وعن خبرتهم لأنه معصوم، ومعه الوحي، وله من رجاحة عقله ما يغنيه عن عقولهم، ومع ذلك شاورهم كمشرِّع ليكون قدوةً لهم .

    تذكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم اقترض من يهوديٍ من أهل الكتاب، وقد يقول إنسان ضيِّق التفكير: أيعقل أن يقترض النبي من يهوديٍ وأصحابه حوله يفدونه بأرواحهم وبمهجهم ؟! الجواب سهل جداً : هو ما اقترض من هذا الكتابي لحاجة، أو لأن أصحابه يقصرِّون في حقه ؛ لكن أراد أن يكون مشرِّعاً، لك أن تتعامل مع أهل الكتاب، أنت الآن لو دخلت لمحل صاحبه غير مسلم، من أهل الكتاب، أيجوز أن تشتري منه؟ نعم يجوز، ولا شيء في ذلك، يجوز أن تشتري منه ويجوز أن تبيعه، لولا أن النبي تعامل مع أهل الكتاب لما جاز لك أن تفعل ذلك، فالنبي مُلزم من قِبَل الله عز وجل أن يكون قدوةً ومشرعاً .

    وهذا مثل أوضح من ذلك، في نظركم أيهما أشدُّ شجاعة ؛ سيدنا النبي الذي كان يقول أصحابه : (كان إذا حمي الوطيس واحمرَّت الحدق اتَّقينا برسول الله، فلم يكن أحدٌ أقرب إلى العدو منه) ، أي أن شجاعة أصحابه مجتمعين لا تعدل جزءًا من شجاعته صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كيف هاجر النبي ؟ هاجر مُساحلاً، وتخفَّى، ودخل إلى غار ثور، وأمر من يأتيه بالأخبار، ومن يأتيه بالزاد، ومن يمحو الآثار، لماذا فعل النبي هذا ؟ لماذا لم يفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما فعل عمر ؛ هاجر متحدياً المشركين، قال : (من أراد أن تثكله أمه، أو أن ييتم ولده فليحقني بهذا الوداي) ، الإنسان قد يعجب، يا رب أيهما أشد شجاعةً، نبيُّك المُرسل أم هذا الصحابي الجليل ؟ صحابيٌ يتحدى كفار قريش، والنبي يتسلل، ويتخبأ، ويذهب إلى غار ثور، ويقيم فيه أيامًا ثلاثة .

    الجواب: لو أن النبي هاجر كعمر، لعُدَّ اقتحام الأخطار واجباً، ولكان الأخذ الحيطةً حراماً، ولأَهْلكَ أمَّته من بعده، فهو مشرِّع، كل أفعاله تعد تشريعاً، كل شيء يفعله تشريعٌ إلى يوم القيامة، لذلك فالنبي أخذ الحيطة، وأخذ بالأسباب، ولم يتحد قريشاً، ذهب إلى غار ثور، مكث فيه أياماً ثلاثة، كلَّف من يأتيه بالأخبار، من يمحو الآثار، من يأتيه بالزَّاد، استأجر خبيراً غير مسلمٍ، رجَّح الخبرة .

    على كلٍ فالنبي مشرِّع، فعندما استشار أصحابه شرَّع لنا أن نستشير، شرع للأمراء من بعده، وللعلماء من بعده أن يستشيروا، وفي موقف عملي أبلغ من ذلك ـ النبي الكريم في موقعة بدر اختار موقعًا، تقول : يا رب ألم يكن من الممكن أن ترسل له جبريل ليخبره عن الموقع المناسب ؟ هذا ممكن، يا رب لمَ لمْ ترسل له جبريل ؟ ألم يكن من الممكن أن تلهمه الموقع المناسب إلهاماً ؟ نعم ممكن، لمَ لمْ يكن ذلك ؟ اختار موقع، اجتهد النبي واختار موقع، فجاء صحابي في أعلى درجات الأدب، أعلى درجات الغَيْرَة، أعلى درجات الحُب، وسأل النبي سؤالاً يقطر أدباً، قال : (يا رسول الله هذا الموقع وحيٌ أوحاه الله إليك أم هو الرأي والمكيدة ؟) ، الصحابي دقيق جداً، لو أن هذا المكان وحي لما كان له أن ينبس ببنت شفة، قال له : بل هو الرأي والمكيدة، فقال : (يا رسول الله ليس بموقع) ، بكل بساطة، بكل تواضع، بكل عفوية، من دون تشنُّج، من دون أن يرى النبي أن هذا انتقاصاً من قدره، من دون أن يُهمل هذا الذي نصح، من دون أن يحطِّمه، من دون أن يطرده، قال له : أين الموقع المناسب ؟ قال : (هناك) ، فأعطى النبيُّ أمرًا بنقل الجيش إلى ذاك الموقع .  

رابعاً: ترفع قدر من تستشير:  

    أيضاً من حِكَمِ المشاورة أن الذي تشاوره ترفع قدره، وتشعره أن رأيه مقبول، وأن له دوراً في هذه الأسرة، أو في هذه المؤسسة،  أو في هذه المدرسة، أو في هذا المستشفى، إذا كان مديرًا عامًا في مستشفى سأل الأطباء مَن حوله : ما قولكم في كذا وكذا ؟ هذه يسمونها الآن إدارة ديموقراطية، إدارة ناجحة، لكن في قول :

(وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)   

خامساً: تتعرف على قدرات من حولك:  

    وهناك نقطة مهمة غابت عنا، أن القائد إذا استشار، مثلاً مدير مدرسة، مدير مستشفى، مدير مؤسسة، رب أسرة، رب عمل، تاجر، لو استشار من حوله ما الذي يحدث، غير تطييب قلوبهم، وغير التقوِّي برأيهم، وغير أن تعلي مكانهم ؟ في استشارتهم هدف تربوي كبير وهو أنك حينما تستشير مَن حولك تتعرف إلى عقولهم، تتعرف إلى وجهات نظرهم، تعرف صاحب العقل الراجح من صاحب العقل المحدود، تعرف بعيد النظر من قاصر النظر، تعرف المخلص من غير المخلص، أنت حينما تستشير، تمتحن من دون أن يدري هؤلاء أنك تمتحنهم.

يجب أن نقبل النصيحة ونشكر صاحبها:  

    هذه القدوة، كان عليه الصلاة والسلام قدوةً لأمته من بعده، فإذا جاءك إنسان مخلص، غيور، جاءك ناصحاً، بيَّن لك الحجة والدليل، إيَّاك أن تستعلي عليه، إياك أن ترفضه، إياك أن تدير ظهرك له، إياك أنْ تفعل ما يحطِّمه لأنه تجرَّأ ونصحك، بل بالعكس .

    أيها الإخوة ـ دققوا فيما سأقول ـ الذين يمدحونك لا يرفعونك، لكن الذين ينتقدونك هم الذين يرفعونك، كلما انتقدك إنسان بشيء تتلافاه وترقى وتعلو، وكلما مدحك إنسان، تطمئن إلى سلوكك، فلن ترقى عندئذٍ، 

     هذا قول سيدنا عمر لا يغيب عن ذهني إطلاقاً :   

(أحبُّ ما أهدى إلي أصحابي عيوبي)  

    هذا حال الإنسان المؤمن ؛ يقبل النصيحة، ويصغي إليها، ويشكر صاحبها، لا يحتقره، ولا يعنفه، ولا يهجره، ولا يَعدُّ هذا تجرُّؤًا عليه، أبداً، اشكره على نصيحته .

    إذاً كان عليه الصلاة والسلام يشاور أصحابه ليكون عملُه سنةً من بعده، فهو المشرِّع .

    فأنت الآن كتطبيق عملي ؛ لك أسرة، فما مِن مانع للأمور الأساسية أن تستشير زوجتك، وليس في هذا من غضاضة، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم استشار أم سلمة في صُلح الحُديبية، فأشارت عليه، ونفذ مشورتها ، لا مانع أن تستشير الأولاد الكبار عندك، تطيِّب نفوسهم، وتتقوى برأيهم، وتشعرهم أنهم شُركاء، وفوق هذا وذاك تعلمهم أن يتواضعوا في مستقبل حياتهم، وتعلمهم أن يشاوروا، وتعلمهم أن يقبلوا المشورة والنصيحة .

    إخواننا الكرام ؛ الذي يقبل النصيحة التي تُسدى إليه بإخلاص، ليس أقل أجراً من الذي يُسديها، أنت نصحت، فلك أجر، لكن هذا الذي يقبل هذه النصيحة بأدبٍ جَم، ويثني عليك، ليس أقل أجراً منك، يجب أن تعلم أنك إذا نصحت فلك أجر، وإذا قبِلت النصيحة فلك أجر، عوِّد نفسك أنْ تقول لأيِّ ناصحٍ : جزاك الله عني كل خير.

     عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :  

(لما نزلت وشاورهم في الأمر قال عليه الصلاة والسلام : أما إن الله ورسوله لغنيَّان عنها، ولكن جعلها الله تعالى رحمةً لأمتي، فمن استشار منهم لم يعدم رُشداً، ومن تركها لم يعدم غَيًّا)  

الشورى لا تعني الفوضى :  

    لكي لا تنقلب المشاورة إلى فوضى، وإلى تمزُّق، وإلى تعطيل أعمال، وإلى مُهاترات، نحن نستشير، ونأخذ الرأي ؛ ولكن ضرورات القيادة تقتضي في بعض الحالات أخذَ رأي الناس، ولكن افعل الذي تراه صواباً بعد أن تستأنس بآرائهم، فالشورى هل هي مُعْلِمة أم ملزمة ؟ في الإسلام مُعْلِمَة، لأن :

(فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)  

الشورى جزء من حياة المؤمن:  

     عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :   

(ما رأيت أحداً أكثر مشاورةً لأصحابه من النبي صلى الله عليه وسلم)  

    إذاً الاستشارة مهمة، والله عز وجل وصف المؤمنين بأن أمرهم شورى بينهم، 

     فقال تعالى:   

(وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)  

     وقال له :  

(وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)  

    معنى ذلك أن الشورى يجب أن تغدو جزءًا من حياة المؤمن .

    ولا شك أن كل واحدٍ منكم في حياته العملية، أحياناً أسديت له نصيحةٌ ثمينة، واستفاد منها فائدة عظمى، وكان عليه أن يبالغ في الثناء على من أشار عليه بهذه النصيحة، وأنت حينما تتقبَّل هذه النصيحة، وتثني على أصحابها، تشجِّع هذا السلوك القويم الذي جاءت به السنة المطهرة، ونطق به القرآن الكريم .

النبي عليه الصلاة والسلام حثَّ أصحابه على الاستشارة:  

    وبعدُ ؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام حثَّ أصحابه على الاستشارة، فكان عليه الصلاة والسلام يحثُّ على الاستشارة، ويرغِّب فيها، 

     قال عليه الصلاة والسلام :   

(المستشير مُعان، والمستشار مؤتمن، فإذا استشير أحدكم فليشر بما هو صانع لنفسه)  

    بعض تُجَّار الأقمشة يكون لديه لون كاسد، أو نوع من القماش كاسد، فهذا التاجر يخيِّط بنطالاً لنفسه من هذا القماش، وكلما سأله زبون : هل هذا النوع جيِّد ؟ يقول له : تفضل انظر فأنا ألبس منه، يكون هو لابس منه لكي يخدع الناس، هذه خيانة، مَن استشار فليُشِرْ بما هو صانع لنفسه حقيقةٌ، وليس استعراضاً، أو خبثاً، أو مكراً، لا، بل حقيقةً .

    العلماء قالوا : المشورة أن تستخلص حلاوةَ الرأي وخالصَهُ من خبايا الصدور، كما يشور العسل جانيه، كأنك تأخذ العسل من الخلية، أنت حينما تستشير مؤمناً صادقاً خبيراً، كأنما تأخذ العسل من صدره، تأخذ الرأي السديد .

    منذ يومين أخ كريم قال لي : لقد اشتريتُ أرضًا، وبعد ما تملكتها جاء من يدَّعي أن بعضاً منها ملكه، ونازعني، وأنا رجعت للبائع، وقدم لي وثائق غير كاملة، أقيمت دعوى ربحتها، والأرض كلها بحوزتي، لكنني لست مرتاحاً، إلا أن بعضاً منها لا يملكه الذي باعني إيَّاها، مع أنني ربحت الدعوى، لكنّي قلقٌ منذ ثلاث سنوات، ثم قال : ثم توفِّي الذي باعني، فماذا أفعل ؟ 

    قلت له : القضية سهلة، القسم الذي شككت فيه، بعه، وتصدق بثمنه، فإن كانت الأرض لك كُتبت لك هذه الصدقة في صحيفتك يوم القيامة، وإن كانت لغيرك كتبت لك في صحيفته، وأنت بهذا نجوت من القلق، طبعاً لأن البائع مات، ولو كان حيًّا لأعطيتَه إياها، ويتصرف فيها، ولقد تأثر السائل تأثراً لا حدود له، فهذا الحل كان غائبًا عنه، فهو يعاني من القلق طيلةَ ثلاث سنوات، لأنه يظنّ أنه آكل مالاً حرامًا، فحكم المعتدي على أرض، لو اغتصب شبراً منها، فالمغتصِب شبرًا في جهنم فكيف بدنمين ؟ كان قلقًا مضطربًا، هذا الحل مريح، تصدق بهذا المبلغ، وانتهى الأمر، فلا شيء إلاّ وله حل، وإذا بحثتَ عن الحل وجدتَه .

من تستشير؟  

    وفي بعض الآثار : " نقِّحوا عقولكم بالمذاكرة واستعينوا على أموركم بالمشاورة " ، أي أن أجمل جلسة هي مذاكرة العلم، عليك قضية، خذ رأي الآخرين، اسألهم عن دليلهم، عن حجَّتهم، وازن بين رأيك ورأيهم، نقَّحت عقلك بالمذاكرة، واستعينوا على أموركم بالمشاورة، لكن ليس لك حق أن تستشير أي إنسان، فاعرف مَنْ تستشير

     قال الله تعالى:  

(وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً)  

    يجب أن تستشير المؤمنين، العلماء قالوا : المستشار يجب أن يكون أميناً محترماً، ناصحاً، ثابت الجأش، غير معجبٍ بنفسه، ولا متلِّونٍ برأيه ـ ولا كاذبٍ في مقالِهِ، ولا محباً لهذا الأمر الذي يستشار فيه ـ كأن يكون هو مأخوذ بالحدائق، وسألته : هذه الحديقة لي، ولجاري ماذا أفعل ؟ يقول لك : خذها، مادام مغرماً بالحدائق، فينبغي ألا تستشير إنساناً غارقاً في حب هذا الشيء الذي تستشيره به ـ لأنه يغلبه الهوى، ولا متجرداً عن الدنيا ـ شخص بعيد عن الدنيا، ساكن بصومعة، قلت له : هذا المحل التجاري في خلاف بيني وبين صاحبه. فيقول لك : أعطه له، وأنت عندك أولاد، فإذا كان لك يجب أن يبقى لك، وإذا كان الإنسان بعيدًا عن موضوع الاستشارة، بعيدًا بُعدًا شديدًا، فهذا صعب أن يعطيك رأيًا صحيحًا، وإذا كان غارقًا في حُب الشيء صَعُب عليه أن يعطيك رأيًا صحيحًا، الأول بُعدُه الشديد يُعمِّي عليه الحقيقة، والثاني قُربُه الشديد يعمِّي عليه الحقيقة ـ ولا تستشِر بخيلاً بقضايا مالية ـ يقول لك : " ضب قرشك ولا ترد عليه"، البخيل لا يستشار، إياك أن تستشير بخيلاً أو مغرماً في موضوع الاستشارة، أو بعيداً عن موضوع الاستشارة ـ يجب أن تستشير الأمين، المحترم، الناصح، ثابت الجأش غير المعجب بنفسه، وغير المتلون برأيه، ولا الكاذب في مقاله .

     قال النبي صلى الله عليه وسلم:   

(المستشار مؤتمن، وهو بالخيار، إن شاء تكلَّم، وإن شاء سكت، فإن تكلم فليجتهد رأيه)  

    أي أنك بإمكانك، أن تعتذر عن إبداء الرأي، ولعل السكوت جواب، أنت مؤتمن، فإذا نشأت فتنة كبيرة من إبداء الرأي، يجب أن تعتذر عن قبول الاستشارة، أما أن تفتي، أو أن تشير بما لست قانعاً به، أو أن تفتي أو أن تشير بخلاف ما تعلم، فهذه معصيةٌ كبيرة ؛ فاحذَرْ أن تشير بخلاف ما تعلم .

     قال النبي صلى الله عليه وسلم:  

(ما خاب من استخار ولا ندم من استشار)  

    الاستخارة لله عز وجل، والاستشارة ـ الآن دققوا ـ لأولِي الخبرة من المؤمنين . لا يكفي أنْ يكون مؤمنًا، ولا يكفي أنْ يكون خبيرًا، لأولي الخبرة من المؤمنين، إذا كان الخبير غير مؤمن فلن ينصحك، قد يتعارض نصحه لك مع مصلحته فلا ينصحك، والمؤمن غير الخبير يفتي لك بشيء وهو جاهل، فالاستخارة لله عز وجل، والاستشارة لأولي الخبرة من المؤمنين .

في الاستشارة استعاره للعقول والخبرات:  

    " من استشار الرجال استعار عقولهم "، تستعين بعقل تراكمت فيه خبرات خمسين سنة، تشتريه كله بكلمة لطيفة : ما قولك في هذا الموضوع يا سيدي ؟ من استشار الرجال استعار عقولهم .

    أنت ممكن أن تقتبس خبرة خمسين سنة بسؤال ؟ طبعاً ممكن أن تقتبس خبرة خمسين سنة بسؤال أديب لرجل خبير في عمله، عالم بالتجارة، بالصناعة، قبل أن تُقبل على المشروع، خذ رأي أهل الرأي من المؤمنين الصادقين، استشرهم .

الإستبداد:  

    يقول بعضهم في هذا المجال كلامًا طيبًا : إن الاستبداد في الرأي يجعل العقلاء كالمفقودين، والمختارين كالمكْرَهين، إذا استبدَّ إنسان برأيه وحوله عقلاء، يلغي عقلهم بهذه الطريقة، فالطريقة المستبدة تلغي عقل العقلاء واختيار المختارين، المختار ينقلب إلى مُضطر، والعاقل ينقلب إلى غبي حينما تستبد برأيك .

    فأرجو الله سبحانه وتعالى أن يترجم هذا الكلام عملياً في حياتنا اليومية، عوِّد نفسك أنْ تستشير، عوِّد نفسك أنْ تسأل، تأخذ رأي من حولك، تأخذ رأي الخبراء، الأتقياء، المؤمنين ؛ في تجارة، في سفر، إياك أن تستبد بالرأي . 



المصدر: السيرة - شمائل الرسول 1995 - الدرس (23-32) : مشاورته لأصحابه