أيها الإخوة الكرام... مع شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، حلمه صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ و قال تعالى: ﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ . عليه الصلاة والسلام يقول: ((لا تغضب كاد الحليم أن يكون نبياً)). كان صلى الله عليه وسلم عظيم الحلم، لا يقابل السيِّئة بالسيئة، بل يعفو ويغفر، وما انتقم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمةٌ لله فينتقم لله تعالى، والحقيقة أن الأقوياء يملكون الرقاب، لكن الأنبياء يملكون القلوب، عن السيدة عائشة قالت: ((.....وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا)). لقد اتسع حلمه لجميع خلق الله تعالى...
- لأعدائه الذين آذوه، في غزوة أحد، كسرت رباعيَّته، وجرحت شفته السُفلى، وشُجَّ في جبهته، حتى سال منه الدم، ولقد شق ذلك على أصحابه فقالوا: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً)) كسرت رباعيته، وجرحت شفته، وشج جبينه، فلما قيل له: ادع عليهم قال: ((اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون)).
- عن زيد بن سعنة أنه قال: لم يبق من علامات النبوة إلا وقد عرفته في وجه محمدٍ صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه، إلا اثنتين لم أخبرهما فيه هما: أنه يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً، قال زيد بن سعنة: فكنت أتلطَّف له أي بمحمد صلى الله عليه وسلم لأن أخالطه، فأعرف حلمه وجهله، فابتعت منه تمراً ـ اشتريت منه تمراً ـ إلى أجلٍ، فأعطيته الثمن، فأعطاه. أي أن هذا زيد اشترى من رسول الله صلى الله عليه وسلم تمراً، أعطاه الثمن ولم يقبض البضاعة، طبعاً إلى أجل هكذا الشرط ـ فلما كان قبل مجيء الأجل بيومين أو ثلاثة أتيت محمداً صلى الله عليه وسلم، فأخذت بمجامع قميصه، ورداؤه على عنقه، ونظرت إليه بوجهٍ غليظٍ ثم قلت: ألا تقضين يا محمد حقي، فوالله إنكم يا بني عبد المطلب مطلٌ ". كان سيدنا عمر موجود، وهذا يهودي، قال له: " أي عدو الله تقول هذا لرسول الله، فوالله لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك "، ماذا كان يحاذر سيدنا عمر؟ كان هناك اتفاق مع اليهود، فلو ضربه لانتهِك هذا الاتفاق، كان عليه الصلاة والسلام ينظر إلى عمر بتؤدةٍ وسكونٍ وتبسم، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (( أنا وهو ـ أي أنا وزيد ـ كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرني بحسن الأداء، وأن تأمره بحسن المقاضاة "، ثم قال: " اذهب يا عمر فاقضه حقه وزده عشرين صاعاً، مكان ما رعته ـ أي خوفته ـ أي مقابل فزعه)) ففعل ذلك عمر. قال زيد: فقلت: يا عمر كل علامات النبوة قد عرفتها في وجه رسول الله حين نظرت إليه، إلا اثنتين لم أخبرهما هما: أنه يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً ـ يبدو أن هذه الصفات وردت في التوراة ـ فقد اختبرته بهما، فاشهد يا عمر أني قد رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً. وأسلم زيدٌ وأسلم أهل بيته كلهم .
- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ((كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِسُ مَعَنَا فِي الْمَجْلِسِ يُحَدِّثُنَا فَإِذَا قَامَ قُمْنَا قِيَامًا حَتَّى نَرَاهُ قَدْ دَخَلَ بَعْضَ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِ فَحَدَّثَنَا يَوْمًا فَقُمْنَا حِينَ قَامَ فَنَظَرْنَا إِلَى أَعْرَابِيٍّ قَدْ أَدْرَكَهُ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ فَحَمَّرَ رَقَبَتَهُ - أي صار فيها حمرةٌ من أثر الجبذة - قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَكَانَ رِدَاءً خَشِنًا فَالْتَفَتَ فَقَالَ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ احْمِلْ لِي عَلَى بَعِيرَيَّ هَذَيْنِ فَإِنَّكَ لَا تَحْمِلُ لِي مِنْ مَالِكَ وَلَا مِنْ مَالِ أَبِيكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المال مال الله وأنا عبده، وأستغفر الله لا أحملك حتى تُقيِدَني، لَا أَحْمِلُ لَكَ حَتَّى تُقِيدَنِي مِنْ جَبْذَتِكَ الَّتِي جَبَذْتَنِي فَكُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ وَاللَّهِ لَا أُقِيدُكَهَا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ ثُمَّ دَعَا رَجُلًا فَقَالَ لَهُ احْمِلْ لَهُ عَلَى بَعِيرَيْهِ هَذَيْنِ عَلَى بَعِيرٍ شَعِيرًا وَعَلَى الْآخَرِ تَمْرًا ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا فَقَالَ انْصَرِفُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ تَعَالَى))
كان عليه الصلاة والسلام يغضب لله تعالى ويرضى لرضاه، لم يكن تغضبه الدنيا ولا ما كان لها، ولم يكن يغضب لنفسه، بل كان يغضب لربه تعالى. لما شغله اليهود عن الصلاة يوم الخندق، لم يعف عنهم بل قال: ((مَلأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا)) وقال صحابي يصف النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها، فإذا تُعُرِّضَ للحق لم يعرفه أحد، ولن يُقَم لغضبه شيء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها". مرةً غضب حينما رأى في البيت قِرَاماً فيه الصور عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: ((دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْبَيْتِ قِرَامٌ فِيهِ صُوَرٌ فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ ثُمَّ تَنَاوَلَ السِّتْرَ فَهَتَكَهُ وَقَالَتْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُصَوِّرُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ)) فقد كان حديث عهد بالأصنام، هؤلاء الذين كانوا يصنعون الأصنام ويصورونها، هؤلاء يعيشون في مجتمع الشرك، لذلك كان عليه الصلاة والسلام يغضب أشد الغضب من هؤلاء الذين يصورون هذه التصاوير، طبعاً خوفاً من أن تعبد من دون الله. مِن هذا غضبه صلى الله عليه وسلم، مِن العمل الذي ينفِّر المؤمن، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: ((وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا ـ أي يطيل الصلاة بنا ـ فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ ثُمَّ قَالَ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ فَإِنَّ فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ)).
كان عليه الصلاة والسلام إذا غضب ملك زمام نفسه، والإنسان القوي الإرادة يكون كما قال عليه الصلاة والسلام: ((لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ)) وقال صلى الله عليه وسلم: ((عَلِّمُوا وَيَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا وَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ)). هناك شيء دقيق جداً قَالَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: ((كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيدُ حِفْظَهُ فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ وَقَالُوا أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا فَأَمْسَكْتُ عَنْ الْكِتَابِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ فَقَالَ اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ)) إذاً فالنبي كان يغضب، ولكن كان يغضب لله، وإذا غضب لله فلا يخرجه غضبه عن الحق، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم جامع لكل المعاني التي سبقت: ((أمرني ربي بتسع؛ خشية الله في السر والعلانية، كلمة العدل في الغضب والرضا، القصد في الفقر والغنى، وأن أصل من قطعني، وأن أعفو عمن ظلمني، وأن أعطي من حرمني، وأن يكون صمتي فكراً ونطقي ذكراً، ونظري عبرةً)) .