بحث

عظيم حيائه صلى الله عليه وسلم

عظيم حيائه صلى الله عليه وسلم

بسم الله الرحمن الرحيم

     النبي عليه الصلاة والسلام كما تعلمون سيد الخلق وحبيب الحق، وهو صفوة الله من خلقه، وهو سيد الأنبياء والمرسلين، وهو سيد ولد آدم بنصوص قطعية الدلالة والثبوت، فلما أراد ربنا سبحانه وتعالى أن يثني عليه، فلو أنه وصفه بخطابته التي لا تعلو عليها خطابة، ولو وصفه بعلمه، ولو وصفه بقيادته، لو وصفه باجتهاده، لو وصفه باستنباطه، لو وصفه بقضائه، لكانت هذه الأوصاف صحيحة، وهي صفات فذّة، لكن الله جل جلاله حينما أراد أن يثني على نبيه الكريم ما أثنى عليه إلا بحسن خلقه، وهذه هي الصفة العظمى، قال تعالى:  ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾  هذه قضية يجب أن تكون ماثلةً نصب أعيننا، فإذا أردت أن تكون قريباً من الله عز وجل فكن ذا خلق حسن. 

     كان عليه الصلاة والسلام أعظم الناس حياءً، لأنه أعظمهم إيماناً، وقيل في وصفه صلى الله عليه وسلم:  ((كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا)) وقيل أيضا: ((وَإِذَا كَرِهَ شَيْئًا عُرِفَ فِي وَجْهِهِ))  وثمَّةَ علاقةً طردية مترابطةً بين الحياء والإيمان، فالحياء والإيمان قُرِنا معاً، فإذا زال أحدهما زال الآخر، الحياء والإيمان قُرِنا جميعاً، فالذي لا يستحيي لا خير فيه، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  ((الْحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ وَالإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ وَالْبَذَاءُ مِنَ الْجَفَاءِ وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ)). 

     الحياء أيها الإخوة خلق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  ((اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ وَلَكِنَّ الاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى وَلْتَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ)).  معنى ذلك أن الحياء يحملك على فعل الخيرات، وفعل الكمال، وفعل الجميل، وأن الحياء يمنعك من فعل السيئات، وفعل القبائح، وفعل المنكرات، فالحياء والإيمان واحد، الحياء والإيمان قُرِنا جميعًا، فإذا رُفِع أحدهما رُفِع الآخر، إذًا هناك مؤشران للحياء والإيمان؛ هذان المؤشران يتحركان معاً.  لكن أريد أن أنبه أيها الإخوة أن الحياء شيء، والخجل شيء آخر، الخجل أن تستحيي أن تطلب حقك، أن تستحي أن تُدليَ بالحق، أن تذكِّر بأمر الله، أن تأمر بالمعروف، أن تنهى عن المنكر، تستحيي أن تقول للمخطئ إنك مخطئ، هذا ليس حياءً، فالحياء فضيلة، لكن الخجل نقيصة. الخجل أُدْرِج في علم النفس مع الأمراض النفسية، لكن الحياء أدرج مع الفضائل، الحياء فضيلة، لكن الخجل رذيلة، عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  (( الْحَيَاءُ لا يَأْتِي إِلا بِخَيْرٍ فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ إِنَّ مِنَ الْحَيَاءِ وَقَارًا وَإِنَّ مِنَ الْحَيَاءِ سَكِينَةً فَقَالَ لَهُ عِمْرَانُ أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُحَدِّثُنِي عَنْ صَحِيفَتِكَ)).

     وقد بلغ من حيائه صلى الله عليه وسلم أنه لم يواجه أحداً بما يكره، بل يعرِّض بذلك فكان عليه الصلاة والسلام يقول:  ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا ، ويكون واحد هو الذي ارتكب الغلطة، وهو عندما قال أقوام حتى لا تتجه الأنظار إلى المخالف، أو يأمر يأمر أصحابه أن يوجهوا صحابياً إلى خطئه، لأن النبي مقامه كريم، فإذا هو نصحه أمامه يصغر، ويقع في إشكال، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ  ((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى عَلَى رَجُلٍ صُفْرَةً فَكَرِهَهَا قَالَ لَوْ أَمَرْتُمْ هَذَا أَنْ يَغْسِلَ هَذِهِ الصُّفْرَةَ قَالَ وَكَانَ لَا يَكَادُ يُوَاجِهُ أَحَدًا فِي وَجْهِهِ بِشَيْءٍ يَكْرَهُهُ)).  كان النبي عليه الصلاة والسلام مع أصحابه في دعوة غذاء، وقد تناولوا لحم الجزور، يبدو أنه ظهرت رائحة تؤكد أن أحد الحاضرين انتقض وضوءه، فلما أذن العصر فكل الصحابة متوضؤون، فمَن الذي سوف يتوضأ؟ هذا الذي انتقض وضوءه، فالنبي عليه الصلاة والسلام لعظيم كماله، وعظيم حيائه قال:  ((من أكل لحم جزور فليتوضأ))  قالوا : كلنا أكلنا، قال: كلكم توضؤوا.   من أجل أن يستر حال هذا الذي انتقض وضوءه، هذه أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام. 

     ومن ذلك حياؤه صلى الله عليه وسلم من القوم الذين أطالوا الجلوس عنده بعد الأكل، فاستحيا النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم انصرفوا...   صحابي جليل قدَّم هديةً لرسول الله طعام فأمره أنْ يدعوَ قومًا ليأكلوا معه؛  ((... قَالَ فَفَعَلْتُ الَّذِي أَمَرَنِي فَرَجَعْتُ فَإِذَا الْبَيْتُ غَاصٌّ بِأَهْلِهِ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى تِلْكَ الْحَيْسَةِ وَتَكَلَّمَ بِهَا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ جَعَلَ يَدْعُو عَشَرَةً عَشَرَةً يَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَقُولُ لَهُمُ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَلْيَأْكُلْ كُلُّ رَجُلٍ مِمَّا يَلِيهِ قَالَ حَتَّى تَصَدَّعُوا كُلُّهُمْ عَنْهَا فَخَرَجَ مِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ وَبَقِيَ نَفَرٌ يَتَحَدَّثُونَ قَالَ وَجَعَلْتُ أَغْتَمُّ ثُمَّ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ الْحُجُرَاتِ وَخَرَجْتُ فِي إِثْرِهِ فَقُلْتُ إِنَّهُمْ قَدْ ذَهَبُوا فَرَجَعَ فَدَخَلَ الْبَيْتَ وَأَرْخَى السِّتْرَ... ))    النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن دعاهم، وبعد أنْ أطعمهم رآهم استمروا في جلوسهم، فتضايق واستحيا منهم، عندئذٍ أنزل تعالى:  ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَق﴾.  

     حياء الحشمة، فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي قُرَادٍ قَالَ:  ((خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْخَلاءِ وَكَانَ إِذَا أَرَادَ الْحَاجَةَ أَبْعَدَ))   عَنْ أَنَسٍ قَالَ:  ((كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ الْحَاجَةَ لَمْ يَرْفَعْ ثَوْبَهُ حَتَّى يَدْنُوَ مِنَ الأرْضِ)) . ((وكان عليه الصلاة والسلام يغتسل من وراء الحجرات وما رأى أحد عورته قط)).   



المصدر: الشمائل المحمدية إصدار 1995 - الدرس : 17 - حياء الرسول