بحث

رجاحة عقله الشريف صلَّى الله عليه وسلَّم

رجاحة عقله الشريف صلَّى الله عليه وسلَّم

بسم الله الرحمن الرحيم

     أيها الإخوة الكرام؛ مع شمائل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وموضوع أرجحيَّة عقله الشريف صلَّى الله عليه وسلَّم على سائر العقول. بادئ ذي بدء ما من نعمةٍ أعظم ولا أجل ينعم الله بها على عبده كنعمة العقل، بل هي أعظم نعمة على الإطلاق، وبالمناسبة الإنسان أعقد كائن في الكون، وأرقى مخلوق، وهو المخلوق الأول، والمخلوق المكرَّم، والمخلوق المكلَّف، وأعقد ما فيه عقله، فمن نعمة الله العُظمى أن يمنح الله العبد عقلاً راجحاً..  ((أرجحكم عقلاً أشدُّكم لله حبَّاً)) هذا العقل الراجح من لوازمه أن يعرف الله، ومن لوازمه أن يحب الله. وهنالك فرَّق بين العقل والذكاء، فالذكاء متعلِّق بالجُزئيات، وأما العقل فمتعلِّق بالكُليات، فالذي يعرف الله سبحانه وتعالى، ويعرف سر الحياة، ويعرف رسالة الإنسان في الحياة هو العاقل، أما الذي يختص باختصاص ضيِّق، ويبدع فيه، ويتفوَّق فهذا ذكي، فالذكاء صفةٌ متعلِّقةٌ بالجزئيات، فلانٌ ذكيٌ فيما هو فيه، ذكيٌ في اختصاصه، وقد يكون بعض المجرمين في أعلى درجات الذكاء، لأنهم يخطِّطون بشكلٍ عجيب، فهل هم عقلاء؟ لا، إطلاقاً ، البطولة أن تأتي إلى الدنيا، وأن تستغل هذا العمر المحدود إلى أعلى درجة، فهناك أذكياء جمعوا أموالاً طائلة، وسكنوا بيوتاً فارهة، ثم جاء الأجل، وانتهت حياتهم، وكأنهم لم يكسبوا شيئاً، هل هم عقلاء؟ لا والله، كانوا أذكياء ولم يكونوا عقلاء، أما هؤلاء الذين جاؤوا وغادروا، وعرفوا قيمة العمر، وعرفوا ربهم، ووضعوا كل طاقاتهم في خدمة هذا الهدف السامي، فلما دنا أجلهم كانوا من أسعد الناس. عقلك كل عقلك يظهر ساعة اللقاء مع الله، لذلك الناس لا يدخلون هذه الساعة الحرجة الخطيرة في حساباتهم أبداً، فإذا جاءت أين عقله؟

     وأجمل ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام عندما أسلم سيدنا خالد بن الوليد، خالد بن الوليد الذي انتزع منه راية النصر في أحد، من العمالقة، ومن القادة الكبار دخل عليه وقال: " السلام عليك يا رسول الله "، فقال عليه الصلاة والسلام: " تعالَ أقْبِل " فأقبل، فقال عليه الصلاة والسلام:  ((الحمد الله الذي هداك، فقد كنتُ أرى لك عقلاً، ورجوت ألا يسلمك إلا إلى الخير))     هذه إشارة من رسول الله إلى أن هذا الدين ينبغي أن يُقبل عليه العُقلاء، ومن لوازم العقل أن تقبل على هذا الدين، ومن لوازم الحُمق أن تبتعد عنه، فكان النبي يعجب من سيدنا خالد، إنه رجل عاقل، وأريب، وفَطِن ومع ذلك لماذا تأخَّر إسلامه؟      فالعقل من خصائص المؤمن..  وسوف ترون معي بعد قليل أنه ما من مخلوقٍ على وجه الأرض أعقل من رسول الله، لأن العقل هداه إلى الله، ولأن العقل هداه إلى أن يحبَّه، وإلى أن يُخلص له، وإلى أن يجعل حياته كلها في مرضاته، لذلك استحقَّ هذا المقام المحمود.  

 

حواره صلى الله عليه وسلم مع كافر   

     حصينًا والد عمران الذي يعبد سبعة أصنامٍ في الأرض، ويرى أنها آلهة، كان معظَّماً في قريش، فجاؤوا إليه وقالوا له: كلِّم لنا هذا الرجل ـ أي محمداً صلى الله عليه وسلَّم ـ فإنه يذكر آلهتنا ويسبُّهم "، وجاؤوا معه حتى جلسوا قريباً من باب النبي، فقال عليه الصلاة والسلام ـ إنسان يعبد سبعة أصنام جاؤوا به إلى النبي ـ فقال عليه الصلاة والسلام: " أوسعوا للشيخ " وهو حصين نفسه، فقال حصين: ما هذا الذي بلغنا عنك أنك تشتم آلهتنا وتذكرهم؟ فقال عليه الصلاة والسلام مؤنساً: " يا حصين كم تعبد من إلهٍ ؟، قال: " سبعاً في الأرض وواحداً في السماء"،   أي ثمانية، فقال عليه الصلاة والسلام: " فإذا مسَّك الضر من تدعو ؟"، فقال حصين: "أدعو الذي في السماء" ، قال: " فإذا هلك المال من تدعو ؟" قال: "أدعو الذي في السماء"  قال عليه الصلاة والسلام: " فيستجيب لك وحده وتشركهم معه ؟ هذا الكلام معقول؟ أرضيته في الشكر أم تخاف أن يغلب عليك ؟ فقال حصين:  " لا واحدة من هاتين " ، فقال عليه الصلاة والسلام: " يا حصين أسلم تسلم " فقال: إني لي قوماً وعشيرةً ماذا أقول؟ هذه مشكلته رؤساء الأديان، ماذا أفعل بحالي؟ هذه مشكلتهم، فقال: قل اللهمَّ أستهديك لأرشد أمري، وزدني علماً ينفعني فقالها حصين، فلم يقم حتى أسلم.  فقام إليه عمران ابنه فقبَّل رأسه ويديه ورجليه أمام النبي، فلما رأى النبي هذا بكى وقال:" بكيت من صنيع عمران، دخل حصين أبوه وهو كافر فلم يقم إليه عمران، ولم يلتفت ناحيته، فلما أسلم قضى حقَّه فدخلني من ذلك الرفعة  ".  

 

حواره صلى الله عليه وسلم مع من يريد المعصية:   

     قال له إنسان: " ائذن لي بالزنا والصحابة قاموا إليه، الآن انظر إلى المنطق، وإلى الحجَّة، أنت عندما تخاطب عقل الإنسان بهدوء، وتعطيه الحجَّة القويَّة وتحاصره فتفلح معه، فالقضيَّة ليست بالصياح، ولا بالضجيج، ولا بارتفاع الصوت، إنَّ الحجَّة تقارع الحجَّة، فالصحابة ضجوا وقاموا إليه، فقال عليه الصلاة والسلام: لا قال: يا عبد الله أترضى أن يزني الناس بأمك ؟ ". تصور والدته، فقال: " لا ". قال: كذلك الناس يكرهون ، قال:  أترضى أن يزني الناس بابنتك؟ قال: لا " فقال:" كذلك الناس يكرهون ". فقال: " يا رسول الله أُشْهِدُكَ أني تبت من الزنا ".   

 

حل الخلاف الذي نشب بين القبائل عند إعادة بناء الكعبة:  

     اختلفت القبائل على من يمسك الحجر الأسود عند بناء الكعبة، وكادت أن تنشب فتنة كبيرة، فماذا فعل النبي؟ جاء برداء ووضع الحجر بيده الشريفة في الرداء، وأمر كل رأس قبيلة يحمل طرف من الرداء.  

 

تحليله للمعلومات:  

     إنّ تقصي المعلومات في الحرب عمل مهم، فكان في بعض المعارك، عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:  ((لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَصَبْنَا مِنْ ثِمَارِهَا فَاجْتَوَيْنَاهَا وَأَصَابَنَا بِهَا وَعْكٌ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَبَّرُ عَنْ بَدْرٍ فَلَمَّا بَلَغَنَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَقْبَلُوا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَدْرٍ وَبَدْرٌ بِئْرٌ فَسَبَقَنَا الْمُشْرِكُونَ إِلَيْهَا فَوَجَدْنَا فِيهَا رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ وَمَوْلًى لِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ فَأَمَّا الْقُرَشِيُّ فَانْفَلَتَ وَأَمَّا مَوْلَى عُقْبَةَ فَأَخَذْنَاهُ فَجَعَلْنَا نَقُولُ لَهُ كَمْ الْقَوْمُ فَيَقُولُ هُمْ وَاللَّهِ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ شَدِيدٌ بَأْسُهُمْ فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ إِذْ قَالَ ذَلِكَ ضَرَبُوهُ حَتَّى انْتَهَوْا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ كَمْ الْقَوْمُ قَالَ هُمْ وَاللَّهِ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ شَدِيدٌ بَأْسُهُمْ فَجَهَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخْبِرَهُ كَمْ هُمْ فَأَبَى ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ كَمْ يَنْحَرُونَ مِنْ الْجُزُرِ فَقَالَ عَشْرًا كُلَّ يَوْمٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَوْمُ أَلْفٌ كُلُّ جَزُورٍ لِمِائَةٍ.    وكان الأمر كذلك )) .     

 

حنكته القيادية:  

1. أمره بتعلم بعض الصحابة للغات متعددة:  

 

     لقد كان في أعلى درجات الحنكة القياديَّة، فأمر بعض أصحابه أنْ يتعلَّم السريانيَّة، وأمر بعض أصحابه أن يتعلَّم العبرانيَّة حتى يأمن مكر هؤلاء، فما كان يقبل من مترجم غير مسلم يترجم له، فأمر أصحابه يتعلَّموا هذه اللغات حتى إذا جاءه كتاب بالسريانية أو بالعبرية كان يكلِّف الصحابي يترجمه له، لئلا يحتال عليه هؤلاء الأعداء.  

 

2. تقصي المعلومات في الحرب:  

     عندما أمر سيدنا حذيفة بن اليمان أن يذهب إلى معسكر الأعداء في معركة الخندق، ودخل وجلس، وأمره ألا يحدث شيئاً حتى تأتيننا، وفي رواية " اذهب وأتني بخبر القوم ولا تحدث شيئاً حتى تأتيني ".  

 

3.عند فتح مكة حقنا للدماء:  

     ورد أن النبي صلى الله عليه وسلَّم لما توجَّه لفتح مكَّة، وانتهى إلى ممر الظهران، أمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نارٍ لتراها قريش، وتَرْهَبَ من كثرتها، حتى قال أبو سفيان ومن معه حين رأوا من بعيد: "لكأنها نيران عرفة"، أي في كثرتها، وكان ذلك مما ألقى الخوف في قلوبهم، كما أمر عمَّه العبَّاس أن يُجلس أبا سفيان على الطريق عند مضيق خطم الجبل، ليشاهد جيوش المسلمين وكتائبهم حين تمرُّ عليه، ثم جعلت تمر عليه كتيبةً كتيبة، فجعل أبو سفيان يقول للعبَّاس: "من هذه الكتيبة يا عباس؟"  وطفق العباس يخبره عن تلك الكتائب واحدةً واحدة، وذلك مما حمل أبو سفيان على التضامن والاستسلام.  



المصدر: الشمائل المحمدية إصدار 1995 - الدرس : 04 - أرجحية عقله الشريف على سائر العقول