أيها الإخوة؛ مع شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم، رحمته صلى الله عليه وسلَّم، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ أي أن الله سبحانه وتعالى أرسل نبيَّه صلى الله عليه وسلَّم لجميع العالمين، والعالمين جمع عالَم، أرسله رحمةً للمؤمنين، ورحمةً للكافرين، ورحمةً للمنافقين، ورحمةً لجميع بني الناس، ورحمةً للرجال، والنساء، والصبيان، والطير، والحيوان، فهو رحمةٌ مهداة، ونعمةٌ مزجاة كما قال عن نفسه صلى الله عليه وسلَّم.
رحمته بالمؤمنين صلى الله عليه وسلَّم: بهدايتهم إلى سعادة الدنيا والآخرة، وباهتمامه لما يُصلح أمرهم في الدنيا والآخرة، وتحذيره إيَّاهم مما يفسد عليهم دنياهم وأخراهم، هذه رحمته بالمؤمنين، قال تعالى: ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ وقد فرَّق العلماء بين الرأفة والرحمة، والفرق هو أن الرأفة تمنع ما يؤذي، لكن الرحمة تجلب ما ينفع، قَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَأَنَا أَوْلَى بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلَاهُ)) أي مؤمنٍ ترك مالاً فلورثته، ترك ديناً أو ضياعاً أو عيالاً فليأتني فأنا أولى الناس به. هذه رحمته بالمؤمنين، حرص على سعادتهم في الدنيا والآخرة، وحذَّرهم مما يفسد سعادتهم في الدنيا والآخرة، وأمرهم بما يصلحهم في الدنيا والآخرة، وهو أولى بهم من أنفسهم، لكن أدق نقطة في الموضوع أن المؤمن العميق الإيمان يعتقد أن كل مصلحته، وكل فوزه، وكل نجاحه، وكل سعادته، وكل تفوّقه في اتباع النبي عليه الصلاة والسلام.
رحمته صلى الله عليه وسلم بالمنافقين: أما برحمته بالمنافقين فبالأمان من القتل والسبي نظراً لظاهر إسلامهم في الدنيا؛ أي هم تزيّوا بزَي الإسلام، وأظهروا الإسلام وأخفوا الكفر، فهذا الذي أظهروه حماهم من أن يعاملوا كالكفار، هذه رحمة النبي بهم، وكما علَّمنا النبي عليه الصلاة والسلام نحن نحكم بالظاهر والله يتولَّى السرائر.
رحمته صلى الله عليه وسلم بالكفار: أما رحمته بالكفار كيف؟ قال: فبرفع عذاب الاستئصال عنهم في الدنيا، فمن علامات قيام الساعة ـ كما ورد في بعض الأحاديث ـ هلاك العرب لا هلاك استئصال ولكن هلاك ضعف وتمزُّق. فكأن الله سبحانه وتعالى ضمن للنبي عليه الصلاة والسلام من أن يهلك أمَّته إهلاك استئصال، فقوم عاد، وثمود، وتبَّع، وقوم لوط أُهلِكوا هلاك استئصال.. ﴿فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا﴾ هذا الذي كفر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم رحمة النبي له أنه لا يهلك هلاك استئصال، بل يعذَّب عذاب معالجة، هذا من رحمة النبي بالكفار. من آمن تمَّت له الرحمة في الدنيا وفي الآخرة، ومن لم يؤمن عوفي مما كان يصيب الأمم من عاجل الدنيا من العذاب، من المسخ، والخسف، والقذف إحدى معاني الآية الكريمة ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ . كان عليه الصلاة والسلام يقول عن نفسه: ( (أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، ... وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ)) وحينما دُعِيَ عليه الصلاة والسلام ليلعن الكفار، أو يدعو على المشركين قال عليه الصلاة والسلام: ((إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً)).
رحمته صلى الله عليه وسلم بالأهل والعيال: أما رحمته بالأهل والعيال، عن أنسٍ رضي الله عنه قال: ((ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم)) . ومن رحمته بأهله أنه كان يعاونهم في الأمور البيتيَّة، سَأَلْتُ السيدة عَائِشَةَ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي أَهْلِهِ قَالَتْ: ((كَانَ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ)).
رحمته صلى الله عليه وسلم بالصبيان: قَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ)) أي كثيراً ما كان، وفي صلاة الفجر التي سَنَّ لنا أن نقرأ فيها أربعين آية، أو ستين آية، في صلاة الفجر إذا سمع بكاء طفلٍ، وأمه تصلي خلف رسول الله، كان يقرأ أقصر سورةٍ ويسلِّم، رحمةً بهذه الأم التي يناديها ابنها ببكائه هكذا. ومن رحمته بالصبيان أنه كان يمسح رؤوسهم ويقبِّلهم أحياناً، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ قَالَ: ((لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ جَعَلَ أَهْلُ مَكَّةَ يَأْتُونَهُ بِصِبْيَانِهِمْ فَيَمْسَحُ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَيَدْعُو لَهُمْ فَجِيءَ بِي إِلَيْهِ وَإِنِّي مُطَيَّبٌ بِالْخَلُوقِ وَلَمْ يَمْسَحْ عَلَى رَأْسِي وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ أُمِّي خَلَّقَتْنِي بِالْخَلُوقِ فَلَمْ يَمَسَّنِي مِنْ أَجْلِ الْخَلُوقِ)) عن عائشة. قالت: (( قبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلَّم الحسن والحسين ابني علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي، فقال الأقرع: إن لي عشرةً ما قبَّلت أحداً منهم قط. فنظر إليه عليه الصلاة والسلام ثم قال: من لا يرحم لا يُرحم)) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: ((جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ)) عَنِ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ((رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى عَاتِقِهِ ـ أي يركبه على أكتافه ـ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ)) ومن رحمته بالصبيان وحبه لهم إدخال السرور عليهم، أنه صلى الله عليه وسلَّم كان إذا أوتي بأول ما يُدرك من الفاكهة، يعطيها لمن يكون في المجلس من الصبيان. ((أن النبي صلى الله عليه وسلَّم كان إذا أوتي بباكورة الثمرة أي أولها، وضعها على عينيه ثم على شفتيه، وقال: اللهمَّ كما أريتنا أوله فأرنا آخره، ثم يعطيه من يكون عنده من الصبيان)). ومن رحمته دمع عينيه لفراق ولده إبراهيم، فعن أنسٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم دخل على ابنه إبراهيم رضي الله عنه وهو يجود بنفسه ـ أي في حالة الاحتضار ـ فجعلت عينا رسول الله تذرفان بالدموع، فقال عبد الرحمن بن عوف: " وأنت يا رسول الله تبكي؟ ". فقال: ((يا ابن عوف إنها رحمة " ثم أتبعها بأخرى قال:" إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون ))
رحمته صلى الله عليه وسلَّم بأصحابه: ومن رحمته صلى الله عليه وسلَّم بكاؤه لثقل مرض بعض أصحابه عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم عاد سعد بن عبادة ومعه عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقَّاس، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم فبكى رسول الله، فلما رأى القوم بكاء رسول الله بكوا فقال: ألا تسمعون إن الله لا يعذِّب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذِّب بهذا أو يرحم، وأشار إلى لسانه)). ومن رحمته صلى الله عليه وسلَّم بكاؤه لموت صاحبٍ من أصحابه، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ((قبَّل عثمان بن مظعون وهو ميت وهو صلى الله عليه وسلم يبكي فرأيت دموع النبي تسيل على خد عثمان)).
رحمته صلى الله عليه وسلم بالمساكين والضعفاء: وأما رحمته بالمساكين والضعفاء، عن أنس رضي الله عنه قال: " إن كانت الأمة ـ أي المملوكة ـ لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فتنطلق به حيث شاءت ـ ليقضي لها حاجتها من شراء طعامٍ أو متاعٍ أو نحو ذلك. كان لا يأنف ـ أي لا يتكبَّر ـ أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي لهما الحاجة. و كان يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم.
رحمته صلى الله عليه وسلم باليتيم: وكان عليه الصلاة والسلام يحسن إلى اليتامى، ويبرهم، ويوصي بكفالتهم، والإحسان إليهم، قَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ وَقَرَنَ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ الْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِي الإِبْهَامَ )) قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( خَيْرُ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُحْسَنُ إِلَيْهِ وَشَرُّ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُسَاءُ إِلَيْهِ ))
رحمته صلى الله عليه وسلم بالحيوان: كان صلى الله عليه وسلم يوصي بالرحمة بالحيوان، وينهى صاحبه أن يجيعه أو أن يتعبه بإدامة الحمل عليه، أو إثقاله، ((مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعِيرٍ قَدْ لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ فَقَالَ : اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ فَارْكَبُوهَا صَالِحَةً وَكُلُوهَا صَالِحَةً )) لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ، أي ضمر من شدة الجوع، نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّحْرِيشِ بَيْنَ الْبَهَائِمِ )) أي صراع بين الثيران أو الديكة مثلاً، فهذه اللعبة كلها حرام. قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا عَبَثًا عَجَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ يَا رَبِّ إِنَّ فُلانًا قَتَلَنِي عَبَثًا وَلَمْ يَقْتُلْنِي لِمَنْفَعَةٍ )) وتحقيقاً لهواية الصيد فهذا حرام .