بحث

مراتب العلوم

مراتب العلوم

بسم الله الرحمن الرحيم

      العُلوم في الكون ثلاثة؛ عِلْمٌ بِخَلْق الله، وعِلْمٌ بِأمْر الله وعِلْمٌ بالله:   

     العِلْمُ بِخَلْق الله: هو العلم الذي يبْحثُ عن القانون فيما بين المُتَغَيِّرات؛ ظاهرة فيزْيائِيَّة أو كيميائِيَّة، أو فلَكِيَّة، ظاهرة اجْتِماعِيَّة أو نفْسِيَّة، فَهُوَ يبْحث في الظواهِر المادِيَّة، والمُتَغَيِّرات، والعلاقات الثابتة بين المُتَغَيِّرات؛ فالعِلْمُ يبْحَثُ فيما هو كائِن، ذرَّةٌ لها خصائِص فيزيائِيَّة أو كيمْيائِيَّة، ورياضِيات، فالعِلْمُ بِخَلْق ماذا يَحْتاج؟ يحْتاج إلى فِكْر وجُهْد ووَقْتٍ، وإلى كِتاب، وإلى مُعَلِّم وإلى جامِعَة، وإلى مُدارَسَة، وحِفْظ، وإلى تذَكُّر، إلى كِتابَة، وامْتِحانات؛ هذا العِلْم مِن ألِفِهِ إلى يائِهِ مُتَعَلِّقٌ بالدنيا، فإذا برَعَ فيه الإنسان فقد برَعَ في حِرْفةٍ راقِيَةٍ في الدنيا، وهذا العِلْم ثمنهُ الدِّراسة والقِراءة والتَّسْجيل، والمُذاكَرة والتَّأليف، وأداء الامْتِحان، وَنَيْل الشَّهادة؛ هذا عِلْمٌ بِخَلْق الله.  

     العلْم بأَمْر الله: هو عِلْم الشَّريعة، أيْضًا أحكام الطلاق والزواج والميراث وأحكام الحضانة والنَّفقَة، والعاريَة والهِبة والقرْض وشرِكات المُضاربة والوُجوه والتَّضامن، والمُساقاة والمُزارعة تشْعيباتٍ كثيرة تَجِدُها في كُتب الفقْه؛ هذا عِلْمٌ بأمْر الله، يحتاج أيْضًا إلى مدارسَة، وإلى دوام ومُتابَعة، وإلى حِفْظ وكتب وأساتِذة وإلى امْتِحانات، إلخ... وهذا العِلْم يتأتَّى عن طريق الجُهْد البشري، وقد يُتْقِنُهُ إنسانٌ غير مسلم.  

     العِلْم بالله: فَالعِلْم بأمْر الله شيء، والعِلْم بِخَلْق الله شيء. أصل الدين معرفة الله، لأنك إن عرفت الله ثم عرفت أمره فإنك تتفانى في طاعته، لكنك إن عرف الأمر ولم تعرف الآمر فإنك تتحايل لتجد طريقة تتهرب فيها من أمره. لذلك قيل: (لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر إلى عظمة من عصيت) وأما الطريق إلى معرفة الله تعالى ففي ثلاثة بنود:  

  1.      من خلال التفكر في آياته الكونية (خلقه): لقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ .
  2.      من خلال تدبر آياته القرآنية (كلامه): لقوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ .
  3.      من خلال النظر في آياته التكوينية (أفعاله): لقوله تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ .

     ولكي تتحقق من معرفة الله تعالى وتؤمن به إيماناً يقينياً يحملك على طاعته لا بد من مجاهدة النفس، قال تعالى: ﴿أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ ، ففي هذه الآية الكريمة سمّى الله تعالى من يمضي ليله بين يدي الله عز وجل، وهو يخشى عذاب الله ويرجو رحمته سماه عالماً لأنه وصل إلى أعلى درجات العلم وهي العلم بالله تعالى. فالعلم بالله لا تكْفيه المُدارسَة، بل يحْتاجُ إلى مُجاهَدَة، لذلك قال الإمام الغزالي جاهِد تُشاهِد ، والآية الدقيقة وهي قوله تعالى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ ، هذا إنسانٌ آخر، فَمُمْكِن أن تُساهِم في بناء مَسْجِد ولك الشُّكْر الجزيل مِن العباد، ومن الله، مُمْكِن أن تُساهِم بِبِناء مَيْتَم، أو مُسْتَوْصَف ومُمكِن أن تُساهِم في إسْكان شبابٍ في البيوت، ومُمْكِن أن تقيم سبيل الماء، أما أن تَغُضَّ بصَرَكَ عن محارِمِ الله، هنا المُجاهَدة؛ ضَبْط اللِّسان والعَيْن والسَّمْع، وضَبْط السُّلوك وتحرِّي الحلال في الكَسْب، وفي الإنفاق، وأن تكون مع المؤمنين، ولعلَّ الإنسان تميل نَفْسُهُ لأهْل الدنيا، والمؤمنين قد يكونون فقراء أحْيانًا، فالله عز وجل قال لك: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ ، النقطة الدقيقة، أنَّ العِلْم بالله ثمنُهُ باهِظ، فأنت يُمْكِنُكَ أن تفعل كُلَّ شيء، ولكن حينما تضْبط نفْسَكَ ترْقى عند الله، ولذا قال الإمام الغزالي كلمة دقيقة: حَيْثُمَا ورَدَت كلمة العِلْم في القرآن الكريم فإنَّما تعني العِلْم بالله، لذلك ينْفصِل العاقل عن الذَّكِيّ، فليس كُلّ ذَكِيٍّ عاقل، قد يُحَصِّل الواحد من هذه العُلوم أعلى درجاتها، ولكن لأنَّهُ لا يُصَلي فهو ليس عاقل، فَعَقْلُهُ إن لم يوصِلْهُ إلى الخالق، وإلى سِرِّ وُجوده، فلا يُعَدُّ هذا عند الله تعالى عاقِلاً، فالذَّكي فيما هو فيه، فإذا الإنسان لم يعرف الله عز وجل فإنَّه يسْتخدِم هذا الذَّكاء لِغَير ما خُلِقَ له، ومُشْكِلَة الذَّكاء أنَّ الحيوان لا يستطيع أن يُفَكِّر، أما الإنسان فلهُ عَقْل، فلو كان للواحِد آلة تَصْوير مُلَوَّنة يمْكن أن يُزَوِّر فيها عملات، فهذه آلة، وكذا العَقْل البشري إن اسْتَخْدَمْتَهُ لِغَير ما خُلِقَ له كان سبب الهلاك. والمُلَخَّص أنَّك إن جاهَدْت هواك ونفْسَك عرفْتَ الله، والله عز وجل لا يتقبَّل مِن العبْد العمَل الذي لا يُكَلِّفُهُ شيئًا، لأنّ الله تعالى لا يُريدُ مالَكَ بِقَدْر ما يريدُكَ أنت، يريدُ إقْبالك عليه، وإخلاصك له، ومحبَّتَك له، فلذلك ترْقى عنده حينما تُجاهِدُ هواك ونفْسَك، أما إن تصَدَّقْتَ بالمال قد يُعْطيك أضْعافًا مُضاعَفَة ولكن في الآخرة لِمَن أحبَّهُ وأخْلصَ له، وأقْبل عليه قال تعالى: ﴿وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾. لو أنَّ أوَّلكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحِدٍ ما زادوا في ملكي شيئًا، فالله غنيّ وإنَّما خلقنا لِيُسْعِدَنا ولِيَرْحَمنا.  



المصدر: موضوعات فقهية متفرقة - الدرس : 16 - تتمة صفات المتعلم .