جاء الإسلام والعرب في الجزيرة آنذاك فرق وطوائف لا تربطهم رابطة، ولا تجمعهم جامعة، إلا ما كان من دواعي العيش ومطالب الحياة، في صورة لا تعدو وحدة قبلية، وعصبية جاهلية، والتي كانت إلى التفرق والخصام أقرب منها إلى الوحدة والوئام، فألَّفَ الإسلام بين قلوب المسلمين على حقيقة واحدة صارخة، وهي إيمان بإله واحد، وجاءت تعاليم الإسلام ومناهجه تقوّي تلك الرابطة، وتدعم تلك الوحدة بما افترضَ الله عليهم من صلاة وصوم وحج وزكاة، وبما دعاهم إليه من الاعتصام بحبل الله المتين، ودينه القويم، والتحلّي بكل خلق كريم، والتخلّي عن كل خلق ذميم، يقول الله في محكم كتابه: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ*وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ ، فماذا حصل بعد ذلك؟ إذا ابتعدنا عن منهج الله دبَّت العداوة والبغضاء بيننا، فإن رأيت عداوة وبغضاء فاسأل عن ضعف التطبيق، فاسأل عن المعاصي والآثام، فاسأل عن المخالفات والانحرافات وهذا ما فرَّق المسلمين بعد وحدتهم، إن أردت قانوناً جامعاً للعداوة والبغضاء، فهو قانون ورد في آية كريمة، قال تعالى: ﴿فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ ، هذا القانون القرآني ينطبق على زوجين، وعلى أخوين، وعلى شريكين، وعلى فئتين، وعلى جماعتين، وعلى دولتين، وعلى كتلتين..
إن الإسلام وحده يؤلف وحدةً للمسلمين، وهو وحده الذي يجعل منهم أمةً واحدة، وإن جميع الفوارق والمميزات فيما بينهم تذوب، وتضمحل ضمن نطاق هذه الوحدة الشاملة، وتذوب عصبيات الجاهلية، فلا حمية إلا للإسلام، وتسقط الفوارق، فوراق النسب واللون، فلا يتأخر أحد، أو يتقدم، إلا بطاعة الله وتقواه.. الإسلام عامل وحدة، ويتهم أعداؤنا الإسلام بأنه عامل تفرقة، وهو عامل تفرقة إذا انتمينا إليه شكلياً، ولم نطبق جوهره، قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً﴾ ، لو طبقنا منهج الله جميعاً لكنا في وحدة لم يسبق لها مثيل. إن النبي محمدًا عليه الصلاة والسلام، كان إنساناً تجمّع فيه ما تفرّق في عالم الإنسان كله، من كمالات، ومواهب، وخيرات، فكان صورة لأعلى قمة من قمم الكمال يبلغها بشر، فلا غرو إذا كان الذين أخذوا منه، وداروا في فلكه رجالاً أبطالاً يشهد لهم التاريخ بالبطولة.. سيدنا الصديق يقول لسيدنا عمر: "مد يدك لأبايعك"، قال عمر: "أيّ أرضٍ تقلني، وأي سماء تظلني إذا كنت أميراً على قوم فيهم أبو بكر"، قال: " يا عمر، إنك أقوى مني"، قال: "يا أبا بكر، إنك أفضل مني، إذاً قوتي إلى فضلك، نتعاون" . علامة إخلاصك تعاونك مع المؤمنين، وعلامة ضعف إخلاصك، علامة النفاق، علامة الرياء، التنافس معهم، إن أكبر جريمة يقترفها مسلم أن يشقَّ صفوفَ المسلمين، إن متانة المسلمين تجعلهم قوة تهاب، لا يرضى أحدهم بخذلان أخيه، ولا تقرّ عينه بما يؤذيه، بل لا يرضى له إلا ما يرضاه لنفسه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم: مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو، تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى)) ، إن الناس إن لم يجمعهم الحق شعبهم الباطل، وإن لم توحدهم عبادة الرحمن مزقتهم عبادة الشيطان، وإن لم يستهوهم نعيم الآخرة تخاصموا على متاع الدنيا، ولذلك كان هذا التطاحن المزمن من خصائص الجاهلية الجهلاء، وديدن مَن لا إيمان له.
الذي يشق صفوف المسلمين وُصف بأنه كافر، الذي يعمق الهوة بينهم وصفه النبي عليه الصلاة والسلام بأنه كافر، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)) . هذا العراك الدامي شأن الشاردين عن الله عز وجل، المنقسمين على أنفسهم أحزاباً متناحرة، وقد لان الإسلام لاختلاف العقول في الفهم، ومنح المخطئ في الاجتهاد أجراً، ومنح المصيب أجرين، ثم وسع الجميع في كنفه الرحب ماداموا مخلصين في طلب الحق، وحريصين على معرفته والعمل به.
لو دققتم، لوجدتم أن شرائع الإسلام وآدابه تقوم على اعتبار الفرد جزءاً لا ينفصم من كيان الأمة، وعضواً موصولاً بجسمها لا ينفك عنها، فهو طوعاً أو كرهاً يأخذ نصيبه مما يتوزع على الجسم كله من غذاء ونحو ذلك، وقد جاء الخطاب الإلهي مقراً لهذا الوضع، فلم يتجه للفرد وحده بالأمر والنهي، إنما تناول الجماعة كلها بالتأديب والإرشاد، ثم من الدرس الذي يلقى على الجميع يستمع الفرد، وينتصح، وهكذا اطرد سياق التشريع في الكتاب والسنة بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ ، لماذا لمْ يقل: يا أيها المؤمن؟ المؤمن واحد من مجموع المؤمنين، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ ، إذا وقف المسلم بين يدي الله عز وجل ليناجيه، وليتضرع إليه لم تجرِ العبادة على لسانه كعبد منفصل عن إخوانه، بل كطرف من مجموع متفق مرتبط، يقول تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين﴾ لماذا لمْ تأتِ الآية: (إياك أعبد، وإياك أستعين)، كل صيغ مناجاة الله ودعائه بصيغة الجمع وكل صيغ الأوامر بصيغة الجمع. بيد أن الشهوات المتقدة تناست هذه الوصية الكريمة، وتنكرت للتوجيه الإلهي العظيم، فانقسم الناس أحزاباً، كل حزب يكيد للآخر، ويتربص له، وحدة الأمة فرض، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ* فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ* فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ﴾، هؤلاء الذين يشقون صفوف المسلمين، هؤلاء الذي يعمقون الهوة بينهم، هؤلاء الذين جعلوا دينهم شيعاً وأحزاباً، كل حزب بما لديهم فرحون، دعهم يا محمد في غمرة خطأهم، وغمرة غفلتهم، إلى أجل آخر، ويبين الله عز وجل أن اتباع الهوى ومتابعة البغي هو سرُّ هذا الافتراق الواسع.
والحق أن العلم عندما ينفصل عن مقاصد الدين، ويفارقه الإخلاص يمسي العلم وبالاً على صاحبه وعلى الناس، وقد كان الناس قبل هذا الدين العظيم يضلهم الجهل في شعابه الحائرة، فلما جاء الدين، واستبد به أناس، وتاجروا بعلومه لأنفسهم ومطامعهم تاه الناس في غياهب الظلمات، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يستعيذ بالله من علم لا ينفع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي كل منافق عليم اللسان)) إن القلب الخرب يجعل من العلم سلاحاً للفساد، وقد تأذى العالم في القديم والحديث من هذا العلم المدمر، ونبأ الله عز وجل أن العلماء بألسنتهم لا بأفئدتهم هم الذين مزقوا شمل البشر، قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ .
هناك اختلاف طبيعي أساسه نقص المعلومات، صاحبه ليس محموداً ولا مذموماً، لكن هناك اختلاف قذر، يكون بعد العلم، اختلاف الأهواء، اختلاف المكاسب، اختلاف البغي والحسد، قال تعالى: ﴿وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾ ، الاختلاف الأول: اختلاف حيادي، لا يذم ولا يحمد، اختلاف نقص المعلومات، فإذا جاءت المعلومات الدقيقة انتهى الاختلاف. أما الاختلاف الثاني: فهو اختلاف قذر مع وجود المعلومات الفاصلة القاطعة، إنه اختلاف الأهواء، اختلاف المكتسبات، اختلاف البغي، اختلاف الحسد. آية ثانية: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾ ، وحذر الله المسلمين من الاختلاف في الدين والتفرق في فهمه كما فعل الأولون، قال تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ .
إن الإسلام حريص على سلامة أمته، وحفظ كيانها، ولهذا يطفئ بقوة بوادر الاختلاف، ويهيب بالأفراد كافة أن يتكاتفوا على إخراج الأمة من ورطات الشقاق وضعف الفراق: ((يد الله مع الجماعة)) و ((من شذ شذ في النار)) والخروج على إجماع الأمة هذا عقابه، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾ . هل بعد هذا الوعيد من وعيد؟ ولا يستغربن أحد، فإن جرثومة الشقاق لا تولد حتى يولد معها كل ما يهدد عافية الأمة بالانهيار. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ خَرَجَ مِن الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الجماعةَ فماتَ ماتَ مِيتة جَاهلية)) . إن العمل الواحد في حقيقته وصورته يختلف أجره اختلافاً كبيراً حينما يؤديه الإنسان وحيداً، وحينما يؤديه مع الآخرين: إن ركعتي الفجر أو ركعات الظهر هي هي، لم تزد شيئاً، عندما يؤثر المرء أداءها في جماعة عن أدائها في عزلة فقد ضاعف الإسلام الأجر إلى سبعة وعشرين ضعفاً، وهكذا، العبادات كلها جماعية، وإذا أديتها في جماعة فلها أجر كبير، إذاً، أرادنا الله سبحانه وتعالى أن نكون مجتمعين، وأن نعدَّ وحدتنا فرضاً، فمن أجل هذه الوحدة ينبغي أن نجمِّد، أو أن نلغي، أو أن نحيّد خلافات في قضايا جزئية قد تكون سبباً في دمار هذه الأمة.
إن ثمة سؤالاً خطيراً يفرض نفسه: من يهدد حصون الإسلام، وهوية المسلمين؟ يخطئ من يظن أن أكبر تهديد للمسلمين يأتي من أعداء الإسلام، إن الخطر على الإسلام لا من أعدائه، بل من أدعيائه، العدو معروف، هويته معروفة، دعوته مكشوفة، يعمل في النهار، هو قوي لا يعبأ بسمعته، ونحن ـ والحمد لله ـ محصّنون ضده، ولكن التهديد الأول والأخطر هو كل عمل يسمح بشق الصف الإسلامي، ذلك الانشقاق يسمح ببروز جهات منشقة عن الدين، لكنها تعمل باسمه، تحارب المسلمين بضراوة وغلّ وإصرار، ولا نجد مثلها لدى الأعداء التقليديين لهذا الدين.