دع بينك وبين الفواحش هامش أمان : وَلَا تَقْرَبُوا
قال الله تعالى في القرآن الكريم: (وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ )
أيها الإخوة الكرام، النقطة الدقيقة الأولى هي قوله تعالى :
﴿ وَلَا تَقْرَبُوا ﴾ وهذا كلام خالق الأكوان، الخبير، العليم، الصانع، المبدع، الخالق، المربي، المسيّر، ينهانا لا عن أن تقترف الفواحش، لا، ينهانا عن أن نقترب منها، فإذا قال الخبير : لا تقرب .
مثال
إنسان يحمل دكتوراه في الكهرباء فصمم خط توتر عالي، يضع لوحات بعيدة عن الخط، يقال للمواطنين : لا تقربوا، التوتر عالٍ، لأن هذا الخط فيه قوة جذب، في ما علمت سابقاً أنه ثمانية أمتار، لو دخل إنسان إلى حرم الأمتار الثمانية جذبه التيار، وأصبح فحمة سوداء، فلابد من إعلانٍ على الشكل التالي : ممنوع الاقتراب إلى التيار، أما إذا كتب أحد الجهلة : ممنوع مس التيار يكون أحمق، لأنه يموت قبل أن يمسه .
فإذا قال خالق الأكوان، ورب الأرض والسماوات، خالق البشر، الخبير، العليم ﴿ لَا تَقْرَبُوا ﴾ أي دع بينك وبين الفواحش هامش أمان .
الوقوع نتيجة الإقتراب
قال الله تعالى في القرآن الكريم:(تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا )
أنا أؤكد لكم أن ألف إنسان وقع في الفاحشة 90 % حينما وقعوا في الفاحشة لم يكونوا أصلاً يرغبون أن يقعوا في الفاحشة، لكن لأنهم اقتربوا منها، فكان هذا القرب آخذًا بيدهم إلى الفاحشة، تماماً كصخرة مستقرة في أعلى الجبل، إذا أردت أن تدفعها إلى منحدر الجبل فلن تستقر إلا في قعر الوادي، أما أن تقول : أنا أدفعها من أجل أن أبعدها عن قمة الجبل 100 م فقط، لا تستقر إلا في قعر الوادي، هذا كلام الخبير .
لذلك ورد في الأناجيل للسيد المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام : أنه ليس الشريف الذي لا يقترف الخطيئة، بل هو الذي يهرب من أسباب الخطيئة،
ولا تقربوا الزنى
قال الله تعالى في القرآن الكريم: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا )
إطلاق البصر : ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى ﴾
صحبة الأراذل : ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى ﴾
الخلوة بأجنبية : ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى ﴾
إراءة القصص الإباحية : ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى ﴾
متابعة المسلسلات الماجنة، ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى ﴾
فأيّ شيء تقترب منه، هذه الشهوة قوية جداً تجذبك إليها .
يقال كلام طويل حول كلمة : ( َلَا تَقْرَبُوا ) ، يعني دع بينك وبين الفاحشة هامش أمان، الفاحشة معصية، لكن هناك معصية إذا انتشرت لا تعد فضيحة، لكن يبدو أن الفواحش إذا انتشرت بين الناس تعد فضيحة، شيء تستحي به، الإباحية، والانحلال الخلقي، والزنا، والخيانة الزوجية، وأكل المال الحرام، والسرقة، هذه كلها فواحش، بمعنى أنها إذا انتشر خبرها كان فضيحة، ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ ﴾ .
إذاً كأن الخالق يبين أن لبعض الشهوات قوة جذب كبيرة، فالبطولة أن تبتعد عنها وأن تبقي بينك وبينها هامش أمان .
لذلك لم نجد في القرآن الكريم كلمة لا تزنوا، لكن هناك آية : ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى ﴾، ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ﴾
ولا تقربوا مال اليتيم
قال الله تعالى في القرآن الكريم: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ )
الحسم ليس بالحسابات والصناديق، ضع مالك في صندوق، ومال اليتيم في صندوق، وهناك حسابات، أما مالك اختلط مع مال اليتيم، والحسم في الحسابات، إذاً أنت اقتربت من مال اليتيم، فإذا أنفقت نفقة لك، ولم تسجلها ظننت أنك أنفقتها على مال اليتيم ، فتحسبها من مال اليتيم، فأنت اقتربت من مال اليتيم .
لذلك دقق في كل آية فيها نهي، ومع النهي اقتراب، أيّ دع بينك وبين هذه المعصية هامش أمان .
مثال
كنت أصف هذه المنطقة الخطرة التي فيها خط أحمر كأنها شاطئ نهر عميق مخيف، الشاطئ مائل زلق، وفي له شاطئ مستوٍ جاف، فإذا سرت على الشاطئ المستوي الجاف فأنت في بر الأمان، أما إذا سرت على الشاطئ المنزلق المائل فأنت في مظنة السقوط .
الفواحش الظاهرة والباطنة :
﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾
الفواحش الظاهرة لا يختلف عليها اثنان
الزنا فاحشة ظاهرة، والسرقة فاحشة ظاهرة، وشرب الخمر فاحشة ظاهرة، فإذا جلست على طاولة تدار فيها الخمر قد يقول لك صديقك : ذق جرعة واحدة، وتأكد أنها ممتعة، مثلاً، فأنت إذا اقتربت ربما زلت قدمك، لذلك البطل الذي يبتعد عن أسباب المعاصي والآثام، بل يبتعد عن أسباب الفواحش، ﴿ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ ، وهناك معاصٍ ظاهرة لا يختلف عليها اثنان، وهي في كل الشرائع السماوية، الزنا فاحشة ظاهرة، والسرقة فاحشة ظاهرة، وشرب الخمر فاحشة ظاهرة، والعدوان، والسرقة والنهب ... إلخ .
الفواحش الباطنة أخطر من الظاهرة
لكن : ( وَمَا بَطَنَ ) ، هناك فواحش لا تقلّ خطراً عن الفواحش الظاهرة، وهي أخطر من الفواحش الظاهرة، لأن الفواحش الظاهرة ظاهرة، يمكن أن تتوب منها، أما الفواحش الباطنة كالكبر، كالاستعلاء، كالحقد، كالتعالي، كالغطرسة، كالشعور بالفوقية ، أو أن يشعر الإنسان ولو كان مستقيماً أن الناس هَلكَى، هو وحده الناجي، هذا الشعور في القرآن الكريم، وعند خالق الأكوان فاحشة باطنة، وأسهل ألف مرة أن تتوب من الفاحشة الظاهرة من أن تتوب من الفاحش الباطنة، لأن الذي يقترف الفواحش الباطنة يظنها كمالات، ويظنها سموًّا وترفّعًا .
قال الله تعالى في القرآن الكريم: (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ )
أحياناً ترى إنسانًا مستقيمًا، لكن لا يعاشَر، متكبر، متعجرف، هو محور العالم، وأيّ إنسان آخر دونه، أو أحياناً ينتمي الإنسان إلى جماعة، يُسقط عليها من الكمالات ما لا يوصف، وأيّ إنسان ليس من هذه الجماعة يحتقره، هذه فاحشة باطنة .لذلك كلما تأدبت مع الله كلما تواضعت .
الفواحش الظاهرة تقترفها الجوارح بينما الفواحش الباطنة يقترفها القلب
فالله عز وجل يقول : ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾،
الفواحش الباطنة أخطر، كبائر القلوب أكبر من كبائر الجوارح، الفاحشة الظاهرة ما تقترفه الجوارج، العين تزني، وزناها النظر، الأذن تزني، وزناها سماع ما لا يحل لك سماعه، اليد ترتكب فاحشة باللمس، أو بالضرب، والرجل ترتكب فاحشة بالسير إلى المحرمات، واللسان يرتكب فاحشة بذكر العورات، فالفواحش الظاهرة تقترفها الجوارح، بينما الفواحش الباطنة يقترفها القلب .
قد تجد إنسانًا وديعاً متواضعاً مطواعاً للآخرين، متسامحًا، منصفًا، يعترف بالخطأ بسهولة، يعتذر، يطلب العفو، يقدم كل ما عنده للآخرين، ترتاح له، وهناك إنسان متكبر، جعل نفسه محور العالم، كل إنسان يصغره، يحقره، يزدريه، يبني مجده على أنقاض الناس، يبني غناه على فقرهم، لذلك نعوذ بالله من الفواحش الباطنة، الذي يرتكب الفواحش الباطنة لا يُحتمل، ولا يُحب .
كنت أقول دائماً : إنك قد تكون أباً، وفي ثقافة المسلمين أن الأب محترم، لكن بطولة الأب لا أن يكون محترماً فحسب، بل أن يكون محبوباً، وقد تكون مدير مؤسسة، مدير مستشفى، مدير ثانوية، عميد كلية، معك صلاحيات، لك مكانة، لك صلاحيات لك أن تمارسها، لكن بقسوة، بعنف، بكبر، باستعلاء، بتوبيخ قاسٍ، لا تُحب، فالبطولة لا أن تكون قوياً، بل أن تكون محبوباً، لذلك من أدق ما وصف الله ذاته
قال الله تعالى في القرآن الكريم: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ )
بقدر ما هو كريم بقدر ما هو جليل، وهذه بطولة أن تكون محبوباً بقدر ما تكون مرغوباً، فلذلك : ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾ .
فضائح الناس جنسية أو مالية :
أقول لكم بصراحة : إن كل فضائح أهل الأرض من آدم إلى يوم القيامة مبعثها نوعان من الخطأ، خطأ في كسب المال، كالسرقة، والاختلاس، فاتورة مزورة، مبلغ وهمي، أو فضيحة جنسية، فضيحة مالية أو فضيحة جنسية، وبطولة المؤمن أنه أغلق هاتين.
أنا أقول لكم : كل إنسان حساباته تثير حوله جدلاً كثيراً، وضح الحسابات، بيّن، وكل إنسان يثير شبهة حول علاقته بامرأة .
لا بد مِن وضوحٍ في كلِّ شيء :
النبي عليه الصلاة والسلام سيد الخلق، وحبيب الحق، وفوق الشبهات، ومع ذلك فقد روى البخاري ومسلم عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ قَالَتْ : (( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَكِفًا فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا، فَحَدَّثْتُهُ، ثُمَّ قُمْتُ لِأَنْقَلِبَ، فَقَامَ مَعِيَ لِيَقْلِبَنِي، وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَمَرَّ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرَعَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَلَى رِسْلِكُمَا، إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ، فَقَالَا : سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ !! قَالَ : إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا )) .
ثبت الإتفاقات الشفهية
وضح، بيّن اكتب عقدًا، صدق هذا العقد، اكتب وصلا، صدق هذا الوصل ، لا تكن تحت رحمة حلف اليمين، الآن هناك آلاف القضايا في المحاكم بغير سند ولا وصل، ولا شهود، ولا يمين حاسمة، لك مع إنسان 200 ألف، هذا الإنسان دِينه رقيق، فإذا حلف لم يأخذ منك شيئاً، سماها القاضي يمينًا حاسمة، ذهب حقك كله، خذ إيصالا دائماً، كن في بَر الأمان .
مرة سيدنا معاوية بن أبي سفيان سأل أكبر دهاة العرب سيدنا عمرو بن العاص قال له : يا عمر، ماذا بلغ من دهائك ؟ قال له : والله ما دخلت مدخلاً إلا أحسنت الخروج منه، قال له : لست بداهية، أما أنا والله ما دخلت مدخلاً أحتاج أن أخرج منه، أنت تدخل وتحسن الخروج، أنا لا أدخل أصلاً
هذه بطولة في الإنسان، حساباته دقيقة، مصدقة، أمّا حسابات غير واضحة متفرقات 100 ألف، كيف متفرقات مئة ألف ؟ ما هذه متفرقات ؟ أين الإيصال ؟ أنا أنصح إخوتي الكرام بعلاقاتكم التجارية، بعلاقاتكم المالية، أي اتفاق شفهي ثبته .
ثمة قصة أرويها :
في أيام ضعف التعليم الخاص، فالمدارس أصبحت قيمتها متدنية جداً، في مدرسة على وشك الإغلاق بيعت بثمنٍ بخس، مبلغ بسيط جداً، اتفق اثنان على شراء المدرسة، فدفع الأول مبلغًا بسيطًا جداً، ودفع الثاني مبلغاً مساوياً له، واستمر العمل، بعد شهر أو شهرين أو ثلاثة أرسل مبلغ بسيط من الأرباح، فرح به، مبلغ ثانٍ ، مبلغ ثالث، ثلاثة مبالغ تساوي رأس ماله، بعد هذا ما دفع، التعليم صعد، صدقوا فروغ المدرسة من بضع عشرات من الآلاف إلى بضعة ملايين صار، فلما طالبه قال له : أنا أخذتهم قرضًا منك، وقد سددته لك، هو شريكه في الأساس، من غير وثيقة، ولا عقد، دائماً حصن نفسك بإيصال وبعقد مصدق.
لذلك النقطة الدقيقة : ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾ .