بحث

ما لاقى سيدنا محمد من الأذى

ما لاقى سيدنا محمد من الأذى

بسم الله الرحمن الرحيم

     كيف نكلت قريش بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف تفننت في تعذيبهم، وفي إذلالهم، وفي إفقارهم؟  

أسلوب الاحراج:  

     أوفدت قريش نفراً منهم إلى المدينة، على رأسهم النضر بن الحارث، ليأتوا من اليهود بأسئلة تعجيزية فيطرحونها على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت لهم اليهود: سلوه عن أهل الكهف، وعن ذي القرنين، وعن الروح، قال تعالى:  ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ﴾ ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ﴾  لكن الله أبطل كيدهم عندما أنزل الله قرآناً في شأن الإجابة عن هذه الأسئلة، هذا يؤكد أن السماء توحي إليه بالحق، قال تعالى:  ﴿ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ فاليهود تعاونوا مع قريش كي يحرجوا النبي صلى الله عليه وسلم، كي يسألوه أسئلة لا يعلمها، ولكن الوحي أجاب عن كل هذه الأسئلة وقهرهم، وهذا شيء واقع:  ﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً

أسلوب الترغيب:  

     لذلك قريش أرادت أن تجرب أسلوب الترغيب، فأرسلت عتبة بن ربيعة الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من المكان في النسب، وقد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم.. فاسمع مني أعرض عليك أموراً لعلك تقبل بعضها، إن قلت: إنما تريد بهذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد شرفاً، سودانك علينا، فلا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً من الجن تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطبيب، وبذلنا فيه أموالنا حتى تبرأ منه، وإن كان بك الباءة؛ أي تشتهي النساء، زوجناك عشرة نسوة تختار من أي بيوتات قريش شئت.   
فلما فرغ من قوله تلا النبي صلى الله عليه وسلم عليه صدر سورة فصلت إلى أن وصل إلى قوله تعالى:   ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ سمع هذه الآيات، وكأن صاعقة نزلت عليه، فعاد إلى قومه، وأخبرهم بما سمع، وقال: هذا الذي يقوله محمد ليس شعراً، ولا سحراً، ولا كهانة، وأقترح عليكم أن تدعو محمداً وشأنه.  

أسلوب الترهيب:  

     الآن لونت قريش في أسلوبها، واتبعت أسلوب الترهيب، كان أبو جهل إذا سمع عن الرجل أنه أسلم، وله شرف ومنعة، وبخه وأخزاه، وقال له: تركت دين أبيك، وهو خير منك، والله لنسفهن حلمك، ولنضعفن رأيك، وإن كان تاجراً، قال له: والله لنكسدن تجارتك، ولنهلكن مالك، وإن كان ضعيفاً ضربوه، وأغروا به.   

أسلوب الاعتداء والتصفية الجسدية:  

     وحينما لم تثمر كل هذه الأساليب السابقة في صد النبي صلى الله عليه وسلم عن دينه لجأت قريش إلى أسلوب الاعتداء والتصفية الجسدية، لقد استفحل إيذاء قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا في الدعوة السرية، بل في الدعوة العلنية، بعد أن أمر الله جل جلاله نبيه أن يظهر شعائر دينه، كالصلاة عند الكعبة، أبا جهل، قال:  ((هَلْ يُعَفّرُ مُحَمّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُم ـ يعني إذا سجد ـ فَقِيلَ: نَعَمْ، فَقَالَ: وَاللاّتِ وَالْعُزّىَ لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لأَطَأن عَلَىَ رَقَبَتِهِ، أَوْ لأُعفّرَنّ وَجْهَهُ فِي التّرَابِ، فَأَتَىَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلّي، زَعَمَ لِيَطَأَ عَلَىَ رَقَبَتِهِ ـ كما حلف ـ فَقِيلَ لَهُ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: إِنّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقاً مِنْ نَارٍ، وَهَوْلاً وَأَجْنِحَةً، فقالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ دَنَا لاَخْتَطَفَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ عُضْواً عُضْواً )) قال تعالى:  ﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ . لذلك نزل القرآن الكريم:  ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى * أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى * كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾.

  • محاولة خنقه صلى الله عليه وسلم:

     أيها الأخوة،  ((عن عروة بن الزبير، قال: سألت عبد الله ابن عمر عن أشد ما صنع المشركون في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فوضع رداءه في عنقه فخنقه به خنقا شديدا، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه صلى الله عليه وسلم، فقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟)).

  • وضعوا على رأسه الشريف أحشاء خروف وهو ساجد:

(( بَيْنَمَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلّي عِنْدَ الْبَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، وَقَدْ نُحِرَتْ جَزُورٌ بِالأَمْسِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَيّكُمْ يَقُومُ إلَىَ سَلاَ جَزُورِ بَنِي فُلاَنٍ ـ يعني أحشائها ـ فَيَأْخُذُهُ، فَيَضَعُهُ فِي كَتِفَيْ مُحَمّدٍ إذَا سَجَدَ، - فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ فَأَخَذَهُ، فَلَمّا سَجَدَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، قَالَ: فَاسْتَضْحَكُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمِيلُ عَلَىَ بَعْضٍ، وَأَنَا قَائِمٌ أَنْظُرُ، لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ طَرَحْتُهُ عَنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالنّبِيّ صلى الله عليه وسلم سَاجِدٌ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ، حَتّى انْطَلَقَ إنْسَانٌ فَأَخْبَرَ فَاطِمَةَ. فَجَاءَتْ، وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ، فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ ثُمّ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ، تَشْتِمُهُمْ، فَلَمّا قَضَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم صَلاَتَهُ رَفَعَ صَوْتَهُ، ثُمّ دَعَا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ إذَا دَعَا، فَوَ الّذِي بَعَثَ مُحَمّداً صلى الله عليه وسلم بِالْحَقّ لَقَدْ رَأَيْتُ الّذِينَ سَمّىَ ـ أي ذكر أسماءهم بالدعاء عليهم ـ صَرْعَىَ يَوْمَ بَدْرٍ. ثُمّ سُحِبُوا إلَىَ الْقَلِيبِ، قَلِيبِ بَدْرٍ)).

  • ضربوه حتى أغشي عليه صلى الله عليه وسلم:

     ومرةً ضربوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أغشي عليه، فقام أبو بكر فجعل ينادي: "ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله؟ فتركوه، وأقبلوا على أبي بكر.   

  • وضعوا الحطب في طريقه:  

     وحاولت أم جميل زوجة أبي لهب أن تعتدي عليه بحجر فحماه الله منها، فلم تره، فكانت تحمل الحطب كي تضعه في طريقه صلى الله عليه وسلم كما حكى القرآن ذلك:    ﴿ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ﴾.

  • حاولوا قتله  صلى الله عليه وسلم :  

     مرة أيها الأخوة، صفوان ابن أمية التقى بعمير بن وهب، فقال له عمير: يا صفوان، والله لولا صغار أخشى عليهم العنت من بعدي، ولولا ديون لزمتني ما أطيق سدادها لذهبت، وقتلت محمداً، وأرحتكم منه، صفوان عدو لدود، قال: يا عمير، أما أولادك فهم أولادي ما امتد بهم العمر، وأما ديونك فهي علي بلغت علي ما بلغت، فامضِ بما أردت، يعني اذهب، واقتل محمداً، وأرجنا منه، فسقى سيفه سماً، ووضعه على عاتقه، وركب ناقته، وتوجه إلى المدينة بحجة أنه أتى المدينة ليفك أسر ابنه، فلما وصل المدينة رآه عمر رضي الله عنه، فقال: هذا عدو الله جاء يريد شراً، وقيده بحمالة سيفه، وساقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، سيدنا النبي لطيف، قال: يا عمر، أطلق سراحه، فأطلق سراحه، قال: يا عمير، ادنُ مني، فدنا منه، قال: يا عمير، سلم علينا، قال له: عِمت صباحاً يا محمد، قال له، قل: السلام عليكم، قال له: لست بعيد عهد بسلامنا، هذا سلامنا، كتلة غلظة، قال: يا عمير، ما الذي جاء بك إلينا؟ قال: جئت أفك ابني من الأسر، قال: يا عمير، وهذه السيف التي على عاتقك؟ قال: قاتلها الله من سيوف، وهل نفعتنا يوم بدر؟ قال: يا عمير، ألم تقل لصفوان: لولا ديون لزمتني ما أطيق سدادها، ولولا أطفال صغار أخشى عليهم العنت من بعدي لذهبت، وقتلت محمداً، وأرحتكم منه؟ وقف وقال: أشهد أنك رسول الله، لأن هذا الذي جرى بيني وبين صفوان لا يعلمه أحد إلا الله، وأنت رسوله، وأسلم، أما صفوان فكان يخرج كل يوم إلى ظاهر مكة ليستقبل الركبان، فلعل الخبر السار بقتل محمد يصل إليه، ثم فوجئ أن عمير أسلم، قال تعالى:  ﴿ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ﴾.

     إن غالب ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم من أذى كان بعد وفاة عمه أبي طالب.   

     أيها الأخوة، هذه الوقائع، وهذا الأذى، وهذا الاضطهاد، وهذا التنكيل، وهذا التعذيب، وهذا التكذيب، وهذا الازدراء، وهذه السخرية، وهذه الإهانة كلها صبت على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليبين الله لنا أن هؤلاء كانوا أهلاً للدعوة إلى الله، قال تعالى:  

﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾



المصدر: فقه السيرة النبوية - الدرس : 16 - ما لاقى سيدنا محمد من الأذى .