من الحالات التي تلازم المؤمن حالة الزهد، هذا المفهوم مشوه في هذه الأيام، الله عز وجل حينما يقول: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ كل شيء تملكه لا بد من أن تخسره ساعة الموت، فالذي يجمعه الإنسان في الدنيا من أموال منقولة وغير منقولة ومن عملات من كل الأنواع، يخسرها عندما يقف قلبه، ولا ينفعه في القبر إلا عمله الصالح، البطل هو الذي يترك الدنيا قبل أن تتركه، لذلك ورد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((إن هذه الدنيا دار ابتلاء لا دار استواء، ومنزل ترح فيها فمن عرفها، لم يفرح لرخاء -هذا من الزهد- ولم يحزن لشقاء -أن الرخاء مؤقت، والشقاء مؤقت- قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاَ، فيبتلي ليجزي)) حينما يقول خالق السموات والأرض: ﴿أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾ ثم إن الله سبحانه وتعالى يخبرنا: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾ الحياة الدنيا أعجبتكم! هل هي كافية كي تسعدوا بها؟: ﴿فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ .
ليس معنى الزهد أن ترتدي ثياباً مرقعة، ولا تأكل طعاماً خشناً، ليس هذا هو الزهد، ولكن الزهد: ترك ما لا ينفع في الآخرة، الزهد في الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ، ولا لبس البالي. أنك بإمكانك أن تطعم الفقراء، وتؤوي المشردين، وتزوج الشباب، وتنفقه في تعليم القرآن، وحل مشكلات الناس، فإذا زهدت بمال حلال يمكن أن يكون قوة لك في الآخرة، فأنت لست بزاهد، وإذا زهدت بمنصب يمكن أن تحق الحق فيه وتبطل الباطل ويكون نفعك عاماً، فأنت لست بزاهد، هذا المفهوم السقيم للزهد. أحياناً: المال قوة، والعلم قوة، والمنصب قوة، هذه مراكز قوى كبيرة جداً، الذي مكن في الأرض، متاح له أن يعمل من الأعمال الصالحة ما لا يستطيع الآخرون أن يفعلوه، فحينما تزهد في شيء من نعم الله التي تنفعك في الآخرة، وبإمكانك أن تنتفع بها في الآخرة، أنت في هذه الحالة لست بزاهد، من أجمل ما في القرآن عن الزهد: ﴿لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ لا تأسفوا على مفقود، ولا تفرحوا لموجود. الزهد في الدنيا هو النظر إلى الدنيا بعين الزوال. يسكن في بيت فخم، لا بد من يوم أخرج منه في نعش، هذا الكلام هل فيه شك؟ تركب مركبة فارهة، لا بد من يوم يأخذها من بعدك، لك مقتنيات ثمينة، وعندك أموال طائلة، حينما ترى أن هذا الشيء لا يدوم فأنت زاهد، أما حينما تنسى الموت كلياً، وتشعر أنك مخلد في الدنيا هنا المشكلة. الزهد عزوف القلب عن الدنيا بلا تكلف، الزهد خلو القلب عما خلت منه اليد، أنت لا يوجد عندك مركبة فارهة، كلما ألقيت نظرة على مركبة: هنيئاً لصاحبها، يا ليتني كنت مكانه، أنت لست بزاهد، الزاهد: إن رأى متاع الدنيا؛ بيت فخم، مركبة فارهة، كان عليه الصلاة والسلام يعلمنا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ، فَأَصْلِحِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَةَ)).
ولا يبلغ أحد حقيقة الزهد، حتى يكون فيه ثلاث خصال: عمل بلا علاقة، وقول بلا طمع، وعز بلا رياسة، وأحد ما يجسد الزهد: أن تؤثر الآخرين على ما في يدك: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾. الزهد: عدم الفرح بإقبال الدنيا وعدم الحزن على إدبارها. والمؤمن الصادق حينما يأخذ قراراً بالزهد، ينتقل من الدنيا إلى الآخرة.
الزهد: ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن أن تكون بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها أرغب منك فيها لو لم تصبك. ترك الحرام فرض، لكن حينما تأتي قضية تحير؛ من زاوية حرام، ومن زاوية حلال، عندي حلال لكن عندك قلق، فلذلك: أنت حينما تدع الشبهة في الحرام فأنت زاهد- والأنفة من المنقصة -تأنف نفسك أن تسقط من عين الله- وكراهة مشاركة الفساق. الزاهد تأنف نفسه أن يسقط من عين الله لا من عين الناس، وسقوط الإنسان من السماء إلى الأرض، وتتحطم بهذا السقوط أضلاعه، أهون من أن يسقط من عين الله، مشاركة الفساق هم يزدحمون على مواضع الرغبة من الدنيا. ومن أدل دلالات الزهد: أن تغتنم الوقت فيما يقربك إلى الله. النبي الكريم دخل إلى المسجد، رأى رجلاً تحلق الناس حوله، قال: من هذا؟ -هذا سؤال العارف- قالوا له: هو نسابة، قال: وما نسابة؟ قال: يا رسول الله، يعرف أنساب العرب، قال: ذلك علم لا ينفع من تعلمه، ولا يضر من جهل به . فإذا وجد شيء ليس حراماً، وليس حلالاً، شيء من المباحات فأنت تركته، وملأت وقتك بما ينفعك عند الله، ملأت وقتك بزيارة أخ، ونصيحة أخ، عمل صالح، متابعة موضوع علمي، قراءة قرآن، خدمة تؤديها لإنسان، أنت حينما تدع المباحات، لا ذنب في أخذها، ولا ثواب في أخذها، وتلتفت إلى ما تملأ به وقتك من عمل طيب ينفعك في الآخرة فأنت زاهد.
إياكم أن تفهموا الزهد إنسان رث الهيئة. قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: ((كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ لَنَا: إِنَّكُمْ قَادِمُونَ عَلَى أخْوَانِكُمْ، فَأَصْلِحُوا رِحَالَكُمْ وَلِبَاسَكُمْ، حَتَّى تَكُونُوا فِي النَّاسِ كَأَنَّكُمْ شَامَةٌ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ)).
الزهد أن تشتغل فيما خلقت من أجله.