الحقيقة بأن ميزان التفاضل بين الناس إيماناً من خلال الخُلق، فمن زاد على أخيه في خُلقه زاد عليه في الإيمان، وتبينا في تعريف الخُلق والأخلاق بأنها انضباط وعطاء، الانضباط هو الكابح المعنى السلبي، العطاء هو المعنى الإيجابي، الدفع نحو البذل والخير والجود والكرم، أما الانضباط فلا أؤذي، فلا أشتم، فلا أتناول أحداً في مكروه، إذاً كبح أو منع ثم عطاء. عندما امتدح الله عز وجل خاتم أنبياء بمديح، هذا المديح يعتبر ثناء، ويعتبر وساماً وقال: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾.
الله عز وجل منح نبيه الكريم خصائص كثيرة لا تعد ولا تحصى، منحه الوحي، منحه المعجزات، منحه الفصاحة، منحه البيان، منحه التأييد، منحه الجمال، منحه أشاء كثيرة، لكن الذي يلفت النظر أن الله سبحانه وتعالى حينما أثنى عليه لم يثنِ عليه لكل هذا الذي منحه إياه، بل أثنى عليه لخلقه العظيم. سأوضح المعنى بمثل: لو أنك قدّمت لابنك مركبة، هل يعقل أن تقيم حفلا تكريميا له لأنك قدمت له هذه المركبة؟ لا معنى لهذا الحفل، لكن إذا نال الدرجة الأولى في الثانوية تقيم له حفلا تكريميا، لأن التفوق من كسبه، ومن اجتهاده. فالخُلق جهد بشري، عملية ضبط، الخلق عطاء، الخُلق أن تخرج من ذاتك، الخلق أن ترحم من حولك، الخلق أن تكون قدوة لهم.
إن الله عز وجل أعطى نبيه الكريم أدوات الدعوة، قال عليه الصلاة والسلام: (( أنا أفصح العرب بَيْد أني من قريش )) أعطاه فصاحة اللسان، أعطاه ذاكرة تفوق حد الخيال. قال تعالى: ﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ﴾. أعطاه المعجزات، أعطاه الوحي، أعطاه القرآن، عرج به إلى السماء، إلى سدرة المنتهى، ولم يذكر الله هذه العطاءات لأنها من الله عز وجل، وقد تلقاها بفعل أنه هيأه الله ليكون الداعية الأول في العالم ولكن حينما أثنى عليه، أنثنى على خلقه: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾. ( على ) تفيد الاستعلاء. أنا أحياناً أُستفز، أدخل في صراع مع نفسي، أنتقم لا أنتقم، فإذا انتقمت ما النتيجة؟ قد أنتصر في النهاية على نفسي، فإذا انتصرت على نفسي فأنا ذو خلق، لكن لا على خلق عظيم، مع أنه متمكن إلى درجة أنه لا يدخل في الصراع ليكون أخلاقياً متمكنا من أخلاقه لدرجة كأنه في قمة جبل، لكن نحن على الساحل، قد تأتي موجة فتأخذنا إلى البحر، فنحاول أن نتفلت منها، نحن في صراع، وقد كان عليه الصلاة والسلام على خلق في قمة جبل. إذاً: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ شيء رائع جداً ومتمكن، هو ليس في صراع في الأعماق، بل هو في قمم الجبال.
حُسنُ خُلق النبي وسلوكُه السوي مع الطرف الآخر:
المسلمون حينما فهموا دينهم فهماً مغلوطاً، واستباحوا أموال الطرف الآخر ينقدهم النبي بسلوكه، قبل أن يهاجر ترك ابن عمه علياً رضي الله عنه، وخاطر بحياته من أجل أداء الأمانات، وأموال المشركين ليسوا مؤمنين، أرأيت إلى هذه الدقة؟ هذا الذي يستبيح أموال الطرف الآخر بدعوى أنه ليس مسلماً، فلنأخذ ماله يخالف منهج النبي عليه الصلاة والسلام، بل إن النبي لما قال عليه الصلاة والسلام: (( ليس منا من غشَّ )) لو غششت غير مسلم تقع في إثم كبير، لأن الطرف الآخر إذا أسأت إليه لا يقول: فلان أساء إلي، يقول: الإسلام سيء. كل مسلم سفير الإسلام، والله وأنا أقول: لو أن الجاليات الإسلامية في العالم طبَّقتْ منهج الله لكان موقف الغرب من الإسلام غير هذا الموقف.
حُسنُ خُلق النبي واللين في الدعوة:
قال عليه الصلاة والسلام: (( من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف )) ف العنف، والقسوة في الدعوة إلى الله مخالفة لسنة النبي عليه الصلاة والسلام. قال الله تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ هنا ملمح رائع، يا محمد أنت أنت، على كل ما أوتيت من علم ومعرفة، ووحي، ومعجزات، وفصاحة، وبيان، وجمال، وحكمة، كل خصائصك على ما أنت فيه من هذه الميزات المذهلة، أنت أنت بالذات، مع هذا: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾. فكيف بإنسان لم تؤتَ الوحي، ولم يؤتَ الفصاحة، ولا الوسامة، ولا الحكمة ولا المعجزات، وفظ غليظ.
مضمون الإسلام فهو مضمون أخلاقي:
خطبة خطبها صحابي أمام الملك النجاشي حين قال الملك للصحابة : حدِّثونا عن هذا النبي الذي جاء به نبيكم : فَكَانَ الَّذِي كَلَّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ : (( أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ، وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ )) هذا مضمون دعوة الله. إذا قلنا : بني الإسلام على خمس، الإسلام أين هو؟ هذه لا الخمس، هذه عبادات شعائرية، أما مضمون الإسلام فهو مضمون أخلاقي، (( وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ )) هذا مضمون منهج الله في الأرض، وما العبادات الشعائرية إلا مناسبات لتلقي الجائزة على العبادات التعاملية، وما الامتحان إلا مناسبة إلا لعرض قدرة الطالب العلمية التي حصلها في العام الدراسي كله، والعام الدراسي كله هو العبادة التعاملية، وساعات الامتحان هو العبادة الشعائرية.