إن كل حركة من حركات الإنسان، كل سلوك من سلوكياته، كل موقف من مواقفه، كل خطوة من خطواته يسبقها تصور، إن صح التصور صحت الحركة. ما معنى حركة؟ هذه الطاولة جامدة ليس فيها شهوات، ولا تحتاج إلى الطعام، لا تحتاج إلى الزواج، لا تحتاج لتؤكد ذاتها، إذاً: هي ساكنة، تدعها في هذا المكان سنوات وسنوات في مكانها، أما الإنسان فأودع الله فيه حاجة إلى الطعام، وحاجة إلى الجنس، وحاجة إلى تأكيد الذات، فلا بد من أن يتحرك، يتحرك ليكسب رزقاً ليشتري به طعاماً ليأكل، يتحرك لينال شهادة، ليكون في وظيفة تدر عليه دخلاً فيتزوج، يتحرك ليثبت للناس أنه متفوق، فحياتنا أساسها حركة، والإنسان كائن متحرك، هذه الحركة طبعاً قد تكون خيرة، وقد تكون شريرة، قد يكون فيها عدوان، أو فيها عطاء، أو فيها إحسان، أو فيها ظلم، فيها طهر وعفاف. سيدنا يوسف تحرك: ﴿وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّه﴾ وهناك أشخاص يتحركون نحو الفاحشة. هذا الذي سرق لماذا سرق؟ السرقة حركة، لكن سبقها تصور خاطئ؛ أن السارق يأخذ مالاً وفيراً بجهد قليل، وفاته أن هناك عقاباً قاسياً، يتصور أنه إذا فعل كذا اغتنى، لكنه فعل كذا بمعصية، يتصور أن المعصية أحياناً قد تقوده إلى ربح وفير، وفاته أن لكل معصية عقاباً، وفاته أنه مستحيل وألف ألف مستحيل أن تعصيه وتربح، وأن تطيعه وتخسر. كل إنسان يتحرك فإنه يسبق الحركة تصور. إن صح التصور صحت الحركة، ولا يمكن أن تكون هناك حركة من دون تصور، فلو أنه لا علاقة بين التصور والحركة نقول له: تصور ما شئت، واعتقد بما شئت، وآمن بما شئت، لكن لأن هناك تلازماً حقيقياً ثابتاً مستمراً بين التصور والسلوك ندقق على التصور، أي ندقق على العقيدة، فلا بد من أن تصح العقيدة، فإن صحت صح العمل، وإن صح العمل سلم الإنسان وسعد في الدنيا والآخرة.
كل مشكلات الناس ناتجة من تصور خاطئ، ناتجة من ضعف العقيدة، ناتجة من ضعف التوحيد، ناتجة من فهم ساذج، لأنه حينما تؤمن أن لهذا الكون إلهاً، وأنه يراقبنا، وهو يربينا، ويحاسبنا في الدنيا قبل الآخرة عندئذ تستقيم على أمر الله، فإذا استقمت على أمر الله سلمت، وسعدت. فالذي امتلك تصورا صحيحا، تصورا عن الإله صحيح، أنه عادل، أن لكل سيئة عقابا، ولكل حسنة ثوابا، أن المستقيم في مأمن من عذاب الله عز وجل، فالمؤمن حينما يقول النبي شيئاً يفهمه، ويوقن به، ويطبقه، فيسلم، أما الذي يتوهم أن أكل أموال الناس بالباطل يعد ربحاً مغرياً، ويجهل أن الله سيدمره، لأن المال الحرام يذهب، ويذهب بصاحبه، وأن المال الحلال ينفق، ولكن يبقى صاحبه موفور الكرامة. ما من خطأ يصيب الإنسان، أو ما من مشكلة تصيب الإنسان، أو ما من محنة تصيب الإنسان إلا بسبب خطأ في السلوك ناتج عن خطأ في التصور، ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ فلنصحح تصوراتنا حتى تصح أعمالنا حتى نسلم، ونسعد في الدنيا والآخرة. فلذلك التصور خطير جداً، أنا أقول: تصور، وأعني به العقيدة، أنت ماذا تعتقد؟ طبعاً الأمثلة كثيرة جداً، مثلاً:
- إنسان يتوهم أن هذا الرزق الوفير يأتيه من معصية، يقول: ماذا نفعل؟ نحن مضطرون، عندنا أولاد، فيرتكب هذه المعصية ليأخذ مالاً وفيراً، فيمحق الله له ماله. إنسان آخر موقن أن الاستقامة التامة هي سبب الربح، فيرفض دخلاً فيه شبهة، فيعوضه الله خيراً منه. ((وما ترك عبد شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه))
- حينما تعتقد أن هذه المرأة ضعيفة الآن لا تعجبك، تزوجتها، وكنت فقيراً، فقبلت بها، وهي قبلت بك، فلما أصبحت غنياً هي لا تعجبك، فأهملتها، وطلقتها، وأنت تظن أنك سوف تسعد بامرأة أخرى، حق هذه المرأة الضعيفة التي طلقتها، وأنت ظالم في تطليقها لن يذهب عند الله، سوف تحاسب عليه.
- إنسان تصور أن الله غفور رحيم، هذا التصور صحيح؟ صحيح، وغير صحيح، صحيح هو غفور رحيم، لكن متى؟ قال تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
- الزنا حد الاقتراب منه صحبة الأراذل، الاقتراب منه الخلوة بامرأة أجنبية، الاقتراب منه إطلاق البصر، الاقتراب منه أن تمشي بطريق موبوء بكاسيات عاريات، الاقتراب منه أن تقرأ شيئاً مثيراً، أو أن تشاهد شيئاً مثيراً، هذا كله اقتراب منه، فإذا ما صدق إنسان كلام الله عز وجل، وكان تصوره غيرَ صحيح يقول: أنا إرادتي قوية، فاقترب من حدود الله، يفاجأُ أنه وصل إلى الفاحشة، لأنه ما صدق الله عز وجل، ولم يكن تصوره صحيحاً، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (( لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ ))
- هناك وهم: يكفي أن تنطق بالشهادة للجنة، لا، أبداً، ليس هذا صحيحاً، ((أَتَدْرُونَ مَنْ المُفْلِسُ؟ قالُوا: المُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ الله من لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ، قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: المُفْلِسُ مِنْ أَمّتِي مَنْ يَأتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةِ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَد شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فيقعُدُ فَيَقْتَصّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَصّ عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَ عَلَيْهِ، ثُمّ طُرِحَ في النّارِ )) يجب أن تملك تصورا صحيحا عن الصلاة. الصيام: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)) يجب أن تملك تصوراً صحيحاً عن الحج: ((من حج بمال حرام فقال: لبيك اللهم لبيك؛ قال الله عز وجل: لا لبيك ولا سعديك، وحجك مردود عليك))، إنفاق المال يجب أن تملك عنه تصورا صحيحا، قال تعالى: ﴿قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ﴾
نجاحنا، فلاحنا، سعادتنا، سلامتنا، تألقنا أن نملك تصورا صحيحا عن الدين، وقد يكون التصور خطيرا جداً، الدين يختصر عنده بأداء الصلاة والصيام والحج والزكاة، لكن بيته غير إسلامي، احتفالاته غير إسلامية، عمله فيه غش، عمله فيه مادة محرمة، عمله فيه كذب، عمله فيه احتكار، يتصورون الدين أن تصلي الصلاة، هذه أحد أركان الدين، والخمسة أركان ليست هي الدين، ((بني الإسلام على خمس)) الإسلام بناء هذه أركان الإسلام، الإسلام بناء أخلاقي، الإسلام استقامة، الإسلام عفة، الإسلام ورع، الإسلام أمانة، المسلم إذا حدثك فهو صادق، إذا عاملك فهو أمين، إذا استثيرت شهوته، فهو عفيف. لذلك بقدر ما تخاف الله تكون عاقلاً، وبقدر ما تقف عند حدوده تكون فقيهاً، بقدر ما تدخل محاسبة الله في حساباتك اليومية تكون ذكياً وعاقلاً.