بحث

حمزة بن عبد المطلب… كيف قاد الإنصافُ حمزةَ إلى نور الإيمان

حمزة بن عبد المطلب… كيف قاد الإنصافُ حمزةَ إلى نور الإيمان

بسم الله الرحمن الرحيم

     في عهْد النبي عليه الصلاة والسلام كان النبي قِمَّةً في الحُبِّ والوَرَعِ والإقْبال والسُّمُوِّ وإنْكار الذات والشَّوْق لربِّه، وكان أُناسٌ في مكَّةَ في حضيض الانْحِطاط والدناءة والأَثَرَة والكِبْر والبَغْي والأنانية والعُدْوان، وكان أُناسٌ لم يؤمنوا بِمُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام، وليْسوا في هذا المُسْتوى الوَضيع الذي انْحدر إليه كُفارُ قريش، من هؤلاء سيِّدُنا حمزة بن عبد المُطَّلب رضي الله عنه وأرْضاه. فلم يكن مسلماً بعد، لكن كان شهماً، وكان صاحب مروءة، شجاعاً يأبى الظلم والدناءة.

     كان سيدنا حمزة مرَّةً في فناء الكعبة، حيثُ سادة قريشٌ يتحادثون، فجلس معهم ليسمع ما يقولون، وكانوا يتحدَّثون عن محمد صلى الله عليه وسلم، ولأوَّل مرَّةٍ رآهم يقلقون على مصيرهم من هذه الدعوة الجديدة، ويُعبِّرون عن حقدهم وغيظهم وعن مرارة قلوبهم، كان هو معتدلاً واقعيًّا، فلم يبالغ هذه المبالغة، ولم ينطوِ على هذا الحقد، وهو ليس على دين محمد ، ولكن لا ينطوي على حقد على ابن أخيه، ولا على كُرهٍ للحق، هؤلاء الذين لم يقاتلوكم في الدين، قال الله عز وجل: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ فكان سيدنا حمزة كلما طُرِح موضوعُ النبي عليه الصلاة والسلام مع أنه لم يكن على دينه, كان يرى أنَّ ابن أخيه على حقٍّ، ولم يفكِّر أنْ يؤمن به، لكنه كان يدافع عنه. فَسَيِّدُنا حمزة مع أنه كان عمَّ النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك عرف قَدْرهُ وصِدْقَهُ، وعرف أمانته وإخْلاصه وقيمته عند الله عز وجل، فالسُّعداء لا يمْنعهم فارق السِّنِّ من أن يسْتمعوا وأن يتَّبِعوا . فلا يكون فارق السنِّ، ولا فارق الشهادة، ولا فارق المرتبة الاجتِماعِيَّة حِجاباً بينك وبين الحقّ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ مِنْهُمْ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ )). 

     فَسَيِّدنا حمزة خرج من داره مُتَوَشِّحاً قوسه، ومُيَمِّماً وجْههُ شطر الفلاة لِيُمارِس هِوايَةً يُحِبُّها, إنها الصَّيْد، وكان صاحِبَ مهارَةٍ فائِقَة فيها، قضى هناك بعض يومه، ولما عاد من صَيْده ذهب كَعَادتِهِ إلى الكعبة لِيَطوفَ بها قبل أنْ يقْفِلَ راجِعاً إلى داره، ماذا نسْتنبط من هذا؟ الإنسانُ مُتَدَيِّن بالفِطْرة، فإما أنْ يتعلَّق بِالخُرافات والأباطيل والأكاذيب، وإما أنْ يتعلَّق بالحقّ، فالتَدَيُّن بِالفِطرة، فهؤلاء الذين ينْدَفِعون للكَهَنَة من العُصاة، إنما ينْدفِعون بِفِطْرتهم، لماذا ينْدفعون لهذا؟ لأنّ الإنسان ضعيف يُحِبُّ أنْ يلْجأ إلى قَوِيّ، وكل الخُرافات الدِّينِيَّة منْبعُها هذه الحاجة الفِطْرِيَّة إلى التدَيُّن.

     قريباً من الكَعْبة لَقِيَهُ خادِمٌ لِعَبْد الله، ولم تكد يبصرُه حتى قال له: يا أبا عُمارة - وهي كنية سيدنا حمزة- لو رأيتَ ما لقيَ ابن أخيك محمدٌ آنفًا من أبي الحكم بن هشام، فآذاه وسبَّه، وبلغ منه ما يكره، فسيدنا حمزة بكل مروءته وشهامته وغيرته، وبكل إنصافه توَشَّح سيفه، واتَّجه ليقتصَّ من أبي الحكم بن هشام، بحث عنه فإذا هو في جوار الكعبة، تقدَّم نحوه، واستلَّ قوسه، وهوى به على رأسه فشجَّه وأدماه، وقبل أن يفيق الجالسون من الدهشة صاح حمزة بهم وصاح في أبي جهل: أَتَشْتُمُ محمَّداً وأنا على دينه، أقول ما يقول ؟ أسلم سيِّدنا حمزة، ولكن بِمَوْقفٍ ارْتِجالي، وموقف دفعته إليه حَمِيَّتُهُ لابن أخيه، وإنْصافُهُ وغَيْرَتُهُ، أسْلم وتحَدى المُشْرِكين. أدَعُكُم معه لِيُعبِّر عن حالةٍ نفْسِيَّة ألمَّتْ به، يقول سيِّدنا حمزة: أدْركني النَّدَم على فِراقي دين آبائي وقَوْمي, وبِتُّ في شكٍّ من أمرٍ عظيم، لا أكْتَحِلُ بِنَوْم، ثمّ أتَيْتُ الكعبة وتضرَّعْتُ إلى الله أنْ يشرح صدْري ، مفْهوم الإله مفْهومٌ عامٌ في كلِّ مكان وزمانٍ، وفي كلِّ مِصر. فاستجاب الله لي، وملأ قلبي يقيناً، وغدوتُ إلى النبي عليه الصلاة والسلام فأخبرتُه بما كان من أمري، فدعا الله أن يثبِّتَ قلبي على دينه. النبي عليه الصلاة والسلام حينما دخل سيِّدُنا حمزة في الإسلام كان هذا مَكْسَبًا كبيرًا. 

     في معْركة بدْرٍ قُتِل أبو جَهْل، وعُتْبَة بن ربيعة عبد، وشيْبَة بن ربيعة، وأُمَيَّة بن خلف، وعُقْبَة بن أبي مُعيط، والأسود بن الأسد المخْزومي، والوليد بن عُتبة، والنَّضر بن الحارث، والعاص بن سعيد، وطعْمَة بن عدِيّ، وعشَرات من زُعَماء قريش، ومن أعلى مُستوى من مُسْتَوَياتهم. فغزوَةُ أُحد كانت أخْذًا بالثَّأر لِهؤلاء القتْلى، فهذا وَحْشي الذي قتل سيِّدَنا حمزة -طبْعاً أسْلم- وبعد أنْ أسْلم يرْوي كيف قتله؟ يقول وَحْشي: كنتُ عَبْداً لِجُبَيْر بن مُطعم، وكان عمُّ جُبَيْر قد لَقِيَ مصْرَعَهُ يوم بدْرٍ، فقال له جُبَيْر: اُخْرج مع الناس، وإنْ أنت قتَلْتَ حمزة فأنت عتيق، ثمَّ أحالوه إلى هند بنت عُتبة زوجة أبي سُفْيان لِتَزيدهُ تحْريضاً ودفْعاً إلى الهدف، وكانت هند قد فَقَدَت في معركة بدْرٍ أباها وعَمَّها وأخاها وابنها، وقيل لها: إنَّ حمزة هو الذي قتل بعض هؤلاء، وأجْهَزَ على البعض الآخر، من أجل ذلك كانت هند بنت عتبة زوجة أبي سُفيان أكثر القُرَشِيات تَحْريضاً للخُروج للحرب، لا لِشَيْءٍ إلاّ لتظفر بِرَأسِ حمزة مهما يكُن الثمن، ولقد لَبِثَت أياماً قبل الخُروج وليس لها عمل إلا إفْراغُ كُلِّ حِقْدِها في صدْر وَحْشي، ورسْم الدَّوْر الذي يقومُ به، كُلُّ قلائِدِها وكُلُّ أساوِرِها وأقْراطِها وخلاخِلِها وزينتها هِبَةٌ لِهذا الوَحْشي إذا قتل حَمْزة . يقول وَحْشي: (( كُنتُ رجُلاً وحْشِياً حَبَشِياً، أقذِفُ بالحَرْبة قذْف الحَبَشَة، فقَلَّما أُخْطِئُ بها شيئاً، ولما الْتَقى الناس خَرَجْتُ أنظر حمزة وأتَبَصَّرُهُ، حتى رأَيْتُهُ في عَرْض الناس مثل الجمل الأورق، يَهُدُّ الناس بِسَيْفِه هداً، ما يقِفُ أمامه شيءٌ، فو الله بينما كنتُ أتَهَيَّأُ له أريدهُ وأسْتَتِرُ منه بِشَجَرَةٍ لِأتَقَحَّمَهُ، أو يَدْنُوَ مني إذْ تَقَدَّمني سُباعُ بن عبد العُزَّى فلما رآهُ حمزة صاح به قائِلاً: هلمَّ إليّ، ثمّ ضربه ضربةً فما أخْطأ رأسه، قال وحشي: عندئذٍ هَزَزْتُ حَرْبتي حتى إذا رضيتُ منها دَفَعْتُها حتى وقَعَتْ في ثُنَّتِهِ، أيْ تحت سُرَّتِه، حتى خرجت من بين رِجْلَيْه، ونهض نحوي ثم غلب على أمْره فمات، وأتَيْتُهُ فأَخَذْتُ حَرْبَتي، ثمَّ رَجَعْتُ إلى المُعَسْكر، فَقَعَدْتُ فيه، إذْ لم يكن لي فيه حاجةٌ، فقد قَتَلْتُهُ لأُعتَقَ. ثم قال: لقد أمـرتْ هندُ بنت عُتبة وَحْشِياً أنْ يأتِيَها بِكَبِد حمزة، واسْتجاب الحَبَشِيُّ لِهذه الرغبة، وعندما عاد بها إلى هند، كان يُناوِلُها الكبد بِيُمْناه، ويتلقى قِرْطها وقلائِدها بِيُسْراه، مُكافَأةً له على إنْجاز هذه المُهِمَّة )) .

     النبي عليه الصلاة والسلام حينما رأى سيّدنا حمزة قد قُتِل ومُثِّل به, قال: (( لن أُصابَ بِمِثْلِك أبداً )) أيْ هذه أكبرُ مصيبةٍ في حياتي، هكذا كان وفاءُ النبي وحُبُّهُ صلى الله عليه وسلَّم، وما وَقَفْتُ مَوْقِفاً قطُّ أغيَظ من مَوْقِفي هذا. تَرْوي بعضُ الكُتُب أنَّ أصْحابه تَمَنَّوا أنْ يُمَثِّل بقتلى قُرَيْش، فقال عليه الصلاة والسلام (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  إِذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ, وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا, فَقَالَ: اغْزُوا بِسْمِ اللَّهِ, وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ, قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ, اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا )) .

     حينما انْصَرَفَ النبي من مَوْقِعة أُحد مرَّ على نِساءٍ من بني عبد الأشْهل يبْكينَ شُهَداءَهنّ ، فقال عليه الصلاة والسلام من فَرْط حنانه وحُبِّه: لكنَّ حمزة نام وما بُكِيَ له، فَهِم أصْحابه أنه لا بد من أن تأتي النِّساء لِتَبْكي حَمْزة، فلما سمع النبي البُكاء, قال: ما إلى هذا قَصَدْتُ، اِرْجِعْنَ يرْحَمْكُنَّ الله، فلا بُكاء بعد اليَوْم , كالنواح، وضرب الوجه، وتمْزيق الثياب. كل هذا من فِعْل الجاهِلِيَّة، أمّا مَوْتُهُ واسْتِشْهادُه كُلُّ هذا قضاءٌ وقدَر، والإنسانُ كلما ارْتقى إيمانه انضبطتْ أحْزانه, يبْكي ويتألَّم ولكن بشكل منضبط، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, قَالَ: ((دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ, وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام, فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ, ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ, فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ, فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ: يَا ابْنَ عَوْفٍ, إِنَّهَا رَحْمَةٌ ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى, فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ)).

     فالنبي عليه الصلاة والسلام حينما وقف على قَبْره قال هذه الكَلِمة: (( رَحْمَةُ الله عليك، فإنَّك كُنتَ كما عَلِمْتُ وَصولاً للرحِم، فَعولاً للخَيْرات )) .



المصدر: الصحابة الكرام : 08 - سيدنا حمزة بن عبد المطلب