بطل هذه القصة رجل من الصحابة الكرام، يُدعى عبد الله بن حذافة السهمي، هذا الرجل له قصة مذهلة، والإسلام أتاح له أن يلتقي مع أسياد الدنيا في زمانه، لقد كان في زمان النبي عليه الصلاة والسلام دولتان عظيمتان، وعلى رأس هاتين الدولتين رجلان عظيمان؛ كسرى عظيم الفرس، وقيصر عظيم الروم، وهذا الصحابي الجليل أتيح له أو أرسل بمهمةٍ ليلقى كسرى وقيصر في وقتين مختلفين، وأن تكون له مع كلٍّ منهما قصة، ما تزال ذاكرة الدهر تعيدها، ولسانُ التاريخ يرويها .
أما قصته مع كسرى ملك الفرس فكانت في السنة السادسة للهجرة، حين عزم النبي صلّى الله عليه وسلم أنْ يبعث طائفةً من أصحابه، بكتبٍ إلى ملوك الأعاجم، يدعوهم فيها إلى الإسلام، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقدِّر خطورة هذه المهمة، فهؤلاء الرسل سيذهبون إلى بلادٍ نائية. في زماننا طيران، سهلٌ ميسور. لكن تصور السفر في عهد النّبي عليه الصلاة والسلام، إنساناً يركب حصاناً، أو يركب ناقةً، وينطلقُ بها من المدينة إلى القسطنطينية وحده، لا مؤنس معه، في ليالي الصحراء، فهذا الصحابي، انطلق ليقطع الصحارى وحيداً، دون مؤنسٍ، ودون معينٍ، ليصل إلى ملك من ملُوك الأرض، لا يفهم لغته، ملكٌ متربعٌ على عرشٍ عظيم، يدعو هذا الصحابي ذاك الملك لترك دينه، والاحتمال أن يقتله احتمالٌ كبير.
أجمل شيء أن يكون الإنسانُ واقعيًّا، وكلّ إنسان يبتعد عن الواقع لا يصدَّق، فالنّبي عليه الصلاة والسلام يعلم تماماً خطورة هذه المهمة، وهؤلاء الصحابة الكرام عاشوا في البادية، سينطلق أحدُهم إلى كسرى، الذي يمثِّل قمَّة الحضارة، قصور، وخدم، وفرسان، وأسلحة، وأموال، وهم يجهلون لغات تلك البلاد، تصوَّر مثلاً أنَّ يا فلانًا الفلاني، في القرية الفلانية، ومن البلد المتخلِّف الفلاني، يقال له: اذهب إلى صاحب البيت الأبيض، إنه أمرٌ صعب، ومهمةٌ فوق الخيال. سيدعون هؤلاء الملوك إلى ترك أديانهم، ومفارقة عزِّهم وسلطانهم، إنها رحلةٌ خطيرة، إنها رحلة بالتعبير المعاصر، انتحارية، فإما أن يعود، وإما ألاّ يعود، هذه هي طبيعة هذه المهمة. لذلك جمع النبي صلّى الله عليه وسلَّم أصحابه، وقام فيهم خطيباً، وقال: ((أما بعد، فإني أريد أن أبعثُّ بعضكم إلى ملوك الأعاجم، فقال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم: نحن يا رسول الله نؤدِّي عنك ما تريد، فابعثنا حيث شئت، انتدَب النّبيُّ عليه الصلاة والسلام ستّةً من أصحابه الكرام، ليحملوا كتبه إلى ملوك العرب والعجم، وكان أحد هؤلاء الستة عبد الله بن حذافة السهمي)).
اخْتِيرَ عبد الله بن حذافة السهمي لحمل رسالة النّبي صلّى الله عليه وسلّم إلى كِسرى ملك الفرس، على حصان، من المدينة إلى المدائن عاصمة الفرس. جهَّز عبد الله بن حذافة راحلته، وودَّع صاحبته وولده، ومضى إلى غايته وحيداً، فريداً، ليس معه إلا الله. بلغ ديار فارس، فاستأذن بالدخول على ملكها، وأخطرَ الحاشية بالرسالة التي يحملها له، عند ذلك أمر كسرى بإيوانه فزُيِّن، ودعَا عظماء فارس لحضور مجلسه فحضروا، ثم أذِنَ لعبد الله بن حذافة بالدخول عليه. دخل عبد الله بن حذافة على سيد فارس، مشتملاً شملته الرقيقة، مرتدياً عباءته الصفيقة، عليه بساطة الأعراب، لكنه كان عاليَ الهمَّة، مشدود القامة، تتأجج بين جوانحه عزَّةُ الإسلام، وتتوقَّد في فؤاده كبرياءُ الإيمان, فما إن رآه كسرى مقبلاً، حتى أومأ إلى أحدِ رجاله أن يأخذ الكتاب من يده، فقال: ((لا، إنما أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أدفعه إليك يداً بيد، وأنا لا أخالف أمر رسول الله، فقال كسرى لرجاله: اتركوه يدنو مني، فدنا من كسرى حتى ناوله الكتاب بيده، ثم دعا كسرى كاتباً عربياً مِن أهل الحيرة، وأمَرَه أن يفضَّ الكتاب بين يديه، وأن يقرأه عليه، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمدٍ رسول الله، إلى كسرى عظيم الفرس، سلامٌ على من اتّبع الهدى، أسلِم تسلَم، فإن أبيت، فإنما عليك إثمُ الأرِيسيِّين، فما إن سمع كسرى من هذه الرسالة هذا المقدار، حتى اشتعلت نار الغضب في صدره، فاحمر وجهه، وانتفخت أوداجه، فجلب الرسالة من يد كاتبه، وجعل يمزِّقها دون أن يعلم ما فيها، وهو يصيح: أيُكتبُ لي بهذا، وهو عبدي؟ -لأنه من أتباعه، ولأن باذان عامله على اليمن، تابع لكسرى، والمناذرة وعاصمتهم الحيرة يتبعون كسرى- ثم أمر بعبد الله بن حذافة، أن يُخًرَج من مجلسه، فخرج. خرج عبد الله بن حذافة من مجلس كسرى، وهو لا يدري ماذا يفعل؟ أيُقتَل أم يترك حراً طليقاً، لكنه ما لبث أن قال: واللهِ ما أُبالي على أيَّةِ حالٍ أكون بعد أن أدّيتُ كتاب رسول الله, وركب راحلته وانطلق، ولما سكت عن كسرى الغضب، أمر بأن يُدخل عليه عبد الله فلم يجدوه، فالتمسوه، فلم يقفوا له على أثر، فطلبوه في الطريق إلى الجزيرة، فوجدوه قد سبق، فلما قدم عبد الله على النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، أخبره بما كان من أمر كسرى، وتمزيقه الكتاب، فما زاد عليه الصلاة والسلام، على أن قال: ((مزَّق الله ملكه)). أما كسرى فقد كتب إلى باذان نائبه على اليمن: ((أن ابعث إلى هذا الرجل، الذي ظهر بالحجاز، رجلين جَلْدين من عندك، ومُرهما أن يأتياني به. فبعث باذان رجلين من خيرة رجاله إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وحمَّلهما رسالةً له، يأمره فيها بأن ينصرف معهما إلى لقاء كِسرى، دون إبطاء، وطلب إلى الرجلين أن يقفا على خبر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وأن يستقصيا أمره، وأن يأتياه بما يقفان عليه من معلومات. فخرج الرجلان يُغِذَّان السير، حتى بلغا الطائف، فوجدا رجالاً من تجَّار قريش، فسألاهم عن محمَّدٍ عليه الصلاة والسلام، فقالوا: هو في يثرب، ثم مضى التجَّار إلى مكة، فرحين مستبشرين، وجعلوا يهنِّئون قريشاً، أنْ قَرّوا عيناً، فإنّ كسرى تصدَّى لمحمَّد، وكفاكم شرَّه. أما الرجلان، فَيَمَّمَا وجهيهما شطر المدينة، حتى إذا بلغاها لقيا النبي عليه الصلاة والسلام، ودفعا إليه رسالة باذان، وقالا له: إن ملك الملوك كسرى كتب إلى ملكنا باذان، أن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد أتيناك لتنطلق معنا إليه، فإن أجبتنا، كلَّمنا كسرى بما ينفعك، ويكفُّ أذاه عنك، وإن أبيت، فهو مَن قد علمت سطوته وبطشه وقدرته على إهلاكك، وإهلاك قومك، لم يغضب النبي، بل تبسَّم عليه الصلاة والسلام، وقال لهما: ارجعا إلى رحالكما اليوم، وائتيا غداً . فلما غدوا على النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في اليوم التالي، قالا له: هل أعددتَ نفسك للمُضِيِّ معنا إلى لقاء كسرى؟ فقال لهما النبي عليه الصلاة والسلام: لن تلقيا كسرى بعد اليوم، فلقد قتله الله، حيث سلَّط عليه ابنه شيرويه في ليلة كذا من شهر كذا وقتَله, فحدَّقا في وجه النبي، وبدت الدهشة على وجهيهما، وقالا: أتدري ما تقول! أنكتب بذلك لباذان؟ قال: نعم ، وقولا له: إن ديني سيبلغ ما وصل إليه ملك كسرى، وإنَّك إن أسلمتَ، أعطيتكَ ما تحت يديك، وملَّكتكَ على قومك . خرج الرجلان من عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وقدما على باذان، وأخبراه الخبر، فقال لهما: لئن كان ما قال محمّدٌ حقاً فهو نبيّ, -لم يكن وقتها أقمار صناعية، أو محطات بث مباشر، الخبر ينتقل خلال دقائق في العالم، لم يكن لها وجود، الخبر حتى ينتقل يحتاج لأشهر- . فلم يلبث أن قدم على باذان كتابٌ من شيرويه، وفيه يقول: أما بعد فقد قتلت كسرى، ولم أقتله إلا انتقاماً لقومنا، فقد استحلَّ قتلَ أشرافهم، وسبيَ نسائهم، وانتهابَ أموالهم، فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممّن عندك. فما إن قرأ باذان كتاب شيرويه، حتى طرحه جانباً، وأعلن دخوله في الإسلام، وأسلم من كان معه من الفرس في بلاد اليمن .
لقد كان لقاؤه لقيصر عظيم الروم، في خلافة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، وكانت له معه قصَّة، من روائع القصص . ففي السنة التاسعة عشرة للهجرة، بعث عمر بن الخطاب جيشاً لحرب الروم، فيهم عبد الله بن حذافة السهمي، وكان قيصر عظيم الروم قد تناهت إليه أخبار جند المسلمين، وما يتحلَّون به من صدق الإيمان، ورسوخ العقيدة، واسترخاص النفس في سبيل الله ورسوله، فأمَرَ رجاله إن ظفروا بأسيرٍ من أسرى المسلمين أن يبقوا عليه، وأن يأتوه به حياً، وشاء الله أن يقع عبد الله بن حذافة السهمي أسيراً في أيدي الروم، فحملوه إلى مليكهم, وقالوا: ((إنَّ هذا من أصحاب محمد السابقين إلى دينه، قد وقع أسيراً في أيدينا، فأتيناك به . نظر ملك الروم إلى عبد الله بن حذافة طويلاً، ثم بادره قائلاً: إني أعرض عليك أمراً، قال: وما هو؟ قال: أعرض عليك أن تتنصَّر، فإنْ فعلتَ خلَّيت سبيلك، وأكرمت مثواك، فقال الأسير في أنفةٍ وحزم: هيهات, إن الموت لأحبُّ إليَّ ألف مرة ممّا تدعوني إليه .قال قيصر: إني لأراك رجلاً شهماً، فإن أجبتني إلى ما أعرضه عليك، أشركتك في أمري، وقاسمتك سلطاني، فتبسَّم الأسير المكبَّل بقيوده، وقال: واللهِ لو أعطيتني جميع ما تملك، وجميع ما ملكته العرب على أن أرجع عن دين محمدٍ طرفة عينٍ ما فعلت . قال: إذًا: أقتلك, قال: أنت وما تريد , ثم أمر به فصُلِب، وقال لقنَّاصته بالرومية: ارموه قريباً من يديه، وهو يعرض عليه التنصُّر فأبى, قال: ارموه قريباً من رجليه، وهو يعرض عليه التنصُّر فأبى. عند ذلك أمرهم أن يكفّوا عنه، وطلب إليهم أن ينزلوه عن خشبة الصلب، ثم دعا بقدرٍ عظيمة، فصُبَّ فيها الزيت، ورُفعت عن النار حتى غلت، ثم دعا بأسيرين من أسارى المسلمين، فأمر بأحدهما أن يُلقى فيها فأُلقي، فإذا لحمه يتفتت، وإن عظامه لتبدو عارية بعد إلقاه، ثم التفت إلى عبد الله، ودعاه إلى النصرانية، فكان أشدَّ إباءً من قبل. فلما يئس منه، أمر به أن يُلقى في القدر التي أُلقي فيها صاحباه، فلما ذُهِب به دمعت عيناه، فقال رجال قيصر لملكهم: يا سيِّدي إنه قد بكى، فظَنَّ أنه قد جزع، فقال: ردّوه إلي, فلما مثُل بين يديه، عرض عليه النصرانية فأباها، قال: ويحك فما الذي أبكاك إذًا, ألم تكن خائفاً؟ قال: واللهِ ما أبكاني إلا أني قلت في نفسي: تُلْقى الآن في هذه القدر، فتذهب نفسك، وقد كنت أشتهي أن يكون لي بعدد ما في جسدي من شعرٍ أنفُسٌ، فتُلقى كلُّها في هذه القدر في سبيل الله, فقال الطاغية: هل لك أن تقبِّل رأسي وأُخلِّي عنك؟ فقال له عبد الله: وهل تُخلّي عن جميع أُسارى المسلمين؟ فقال الطاغية: وعن جميع أسارى المسلمين أيضاً, قال عبد الله: فقلت في نفسي: عدوٌ من أعداء الله، أُقبِّل رأسه، فيُخلّي عني وعن أُسارى المسلمين جميعاً، لا ضيرَ في ذلك, ثم دنا منه، وقبَّل رأسه، فأمر ملك الروم، أن يجمعوا له أسارى المسلمين، وأن يدفعوهم إليه، فدُفِعوا له، وانطلق بهم إلى المدينة. قدم عبد الله بن حذافة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأخبره خبره، فسُرَّ به الفاروق أعظم السرور، ولما نظر إلى الأسرى, قال: حقٌ على كل مسلمٍ أن يقبِّل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ بذلك، ثم قام وقبَّل رأسه)).
