واقع المدينة قبل أن ينظم النبي هذا المجتمع:
كانت المدينة عشية وصول رسول الله صل الله عليه وسلم تشكل مزيجاً إنسانياً متنوعاً من حيث الدين والعقيدة، ومن حيث الانتماء القبلي والعشائري، ومن حيث نمط المعيشة، ففيهم المهاجرون، وفيهم الأوس والخزرج، والوثنيون من الأوس والخزرج، واليهود من الأوس والخزرج، وقبائل اليهود الثلاثة بنو قينقاع، وبنو النضير وبنو قريظة، والأعراب الذين يساكنون أهل يثرب، والموالي، والعبيد، والأحلاف، وكانت موارد رزقهم متنوعة بين العمل في التجارة والزراعة والصناعة والرعي والصيد والاحتطاب، وكان توزعهم السكني قائماً على هيئة قرى، أو آكام، أو حصون تحيط بها البساتين والأراضي المزروعة، يدخلون حصونهم بعد حلول الظلام، ويحرسون منازلهم خوف الغزو والغارة، وتبلغ عدد تجمعاتهم السكنية تسعة وخمسين، ولكل عشيرة منهم زعامة تقوم على رعاية شؤونها، وضمان عيشها وأمنها، ولم تندمل بعد جراحات الأوس والخزرج التي خلفتها بينهم حرب بعاث، ويمكن وصف الحالة العامة في المدينة بأنها قائمة على تحكم النظام العشائري، وأعراف القبائل السائدة مع شيوع الجهل والأمية لدى معظم سكان يثرب، بينما كان أهل الكتاب أهل علم ودين، لكنهم يمارسون الربا واستغلال التجارة، ويعملون على إثارة النزاعات بين الأوس والخزرج ليتمكنوا من ضمان سيادتهم، ومصالحهم، وسلامتهم. ولا شك في أن النموذج النبوي الذي بدأ النبي تطبيقه في المدينة يتوزع في مسارين متوافقين، أولهما يتعلق بالمسلمين الذين آمنوا بالله ورسوله، وانقادوا لشرع الله يعملون به ويطبقونه، وثانيهما يتعلق بالتآلف والتعايش السلمي بين المسلمين ومَن لم يعتنق الإسلام من الوثنيين من الأوس والخزرج وأهل الكتاب. وأعظم مهمة أنفذها النبي صلى الله عليه وسلم إقامة نظام عام، ودستور شامل لجميع ساكني المدينة بين المسلمين وبين سواهم من سكان المدينة.
أيها الأخوة؛ هذا عرض تفصيلي لواقع المدينة قبل أن ينظم النبي صلى الله عليه وسلم هذا المجتمع، ليكون هذا المجتمع على شكل أمة، على شكل بنية متماسكة تمهيداً لبناء دولة. فالنبي صلى الله عليه وسلم نظم هذا المجتمع تنظيماً يتوافق مع أعلى درجات المواطنة، ومع أعلى درجات الحقوق والواجبات وجعل التعايش بين الأطراف، والشرائح والأطياف، والانتماءات جزء من الدين،الآخر مقبول في المجتمع الإسلامي، بمعاهدة دقيقة جداً، فيها المهاجرون، والأوس والخزرج والوثنيون من الأوس والخزرج، واليهود من الأوس والخزرج، والقبائل اليهودية، بنو النضير وبنو القينقاع، كيف جمعت هذه الوثيقة هذه الأطراف المتنوعة والمتباعدة؟ إنّ مفهوم المواطنة أصيل في الدين، ومفهوم قبول الآخر أصيل في الدين، مفهوم التعايش بين الفئات المتعددة أصيل في الدين، وهذه النغمة التي نسمعها من حين إلى آخر أن المسلم لا يقبل الآخر هذه افتراء من أعداء الدين، فالنبي صلى الله عليه وسلم أجرى معاهدة ضمت جميع طوائف، واتجاهات، وألوان، وشرائح، وأطياف، المجتمع وكلهم ضمتهم معاهدة فيها توضيح شديد للحقوق والواجبات، ما لنا وما علينا.
بنود الوثيقة التي ضمت جميع القاطنين في يثرب:
1. جميع القاطنين في يثرب ومَن تبعهم وجاهد معهم أمة واحدة:
تلك المعاهدة جعلت جميع القاطنين في يثرب من مهاجرين، ويثربيين، ومَن تبعهم، وجاهد معهم أمة واحدة، وفي ذلك بعْد آني لمن يقطن يثرب، وبعدٌ مستقبلي لمعنى الأمة حيث تضمن هؤلاء جميعاً، ومن يلحق بهم، ويجاهد معهم. إن أول مفهوم للأمة ظهر في المدينة.
2. الاعتراف بخصوصية كل مجتمع:
اعترفت هذه الوثيقة، وتلك المعاهدة بالحال الخاص لكل فئة من السكان، كل فئة لها خصوصياتها، بل كل فئة لها تركيبها، وأن الاتفاقية والعهد الذي بين المسلمين، وبين بقية الأطراف، فيها اعتراف بخصوصيات كل فئة اعتراف بزعامتها، اعتراف بمشكلاتها، اعتراف بأعرافها، بتقاليدها، وبعقائدها الدينية، هذا المفهوم الحضاري.
3. مساعدة الفقراء والانتباه إلى مشكلاتهم:
يساعد المؤمنون الذين تعرضوا لوضع مالي شديد من افتقار، أو كثرة عيال، ولعل ذلك يشبه صندوق تكافل لجميع الأهاليويقول عليه الصلاة والسلام: ((إنما تنصرون بضعفائكم)).
4. منع حدوث تجاوزات في روابط الولاء:
منع حدوث تجاوزات في روابط الولاء للحفاظ على الثقة والتعاون بين الجميع فلا تجاوزات، وكل إنسان ينبغي أن يلزم حده، وأن يقف عنده، وهناك قوانين تحكم جميع الفئات.
أن يأتي إنسان من أعلى أرومة من قريش من وجهاء قريش، وفي ساعة غضب دون أن يشعر وجه كلمة قاسية لسيدنا بلال، فقال لك: يا بن السوداء، فقال عليه الصلاة والسلام وقد غضب غضباً لا يوصف، قال له: ((يا أبا ذَرّ إِنّكَ امْرُؤ فِيكَ جَاهِلِية)) فما كان من أبي ذر إلا أن وضع رأسه على الأرض وشدد على بلال أن يطأ رأسه بقدمه.
5. سيادة الدستور والقانون:
الآن هذه الوثيقة تؤكد أن الجميع متعاونون في مقاومة أي معتد، أو آثم، أو ظالم، أو مفسد، ولو كان ولد أحدهم، وفي ذلك سيادة الدستور والقانون، طبقوا العدالة والمساواة وعندها تحقق الأمن والسلامة للجميع. وجميع المواطنين تحكمهم قوانين واحدة، جميع المتعاهدين سواء، مكانة صغيرهم مثل مكانة كبيرهم في الحقوق والواجبات، وكلهم يد واحدة، وذو اعتبار واحد.
6. المؤمنون وغير المؤمنين سواء ينصر بعضهم بعضاً:
المؤمنون وغير المؤمنين سواء ينصر بعضهم بعضاً، هناك ميثاق، هناك معاهدة دفاع مشترك بالمصطلح الحديث، لا يحل لأحد ممن عاهد ووافق على هذه الوثيقة وقبل هذه الاتفاقية أن يحدث حدثاً، أو يؤوي محدثاً، وإذا فعل ذلك وقع عليه غضب الله ولعنته، وحرمانه من الحقوق العامة. ولهذا المجتمع رأساً، مرجعية واحدة، قراراً نافذاً، الله عز وجل أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يشاور أصحابه، قال: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ لكن : ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾.
7. من أخلّ بالاتفاقية من اليهود فهو ظالم لنفسه ولأهله:
من أخلّ بعده من اليهود فإنه ظالم لنفسه وأهله، وليس له على أهل هذا العهد ذمة ولا ميثاق، يتحمل كل فريق مشارك في هذا العهد نصيبه في الحرب، والسلم، والنفقة، وعليهم التعاون والمشاركة، وبينهم النصح، والبر، من دون إثم.
8. لا يتحمل أحد وزر غيره:
من أبلغ ما في هذه المعاهدة أنه لا يتحمل أحد وزر غيره. ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾.
هذا العهد لا يلغي الالتزامات السابقة على المعاهدين، ولا يعفي ظالماً أو آثماً من جزائه أو معاقبته، وليس هذا العهد للحرب فقط، بل هو للسلم أيضاً، وجعل هذا العهد المدينة المنورة بلداً حراماً.
أيها الأخوة؛ هذه بعض بنود هذا العهد الذي أبرمه النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة حينما وصل إليها، وصدقوا أيها الأخوة؛ والله لا أبالغ إنه من أرقى الاتفاقيات الحضارية التي يشار إليها بالبنان.