أيها الأخوة الكرام؛ قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وسكانها موزعون عشائرياً في قرى صغيرة، وأكمل تجمع للسكان تجمع القرى أو في حصون، أو آطام، والآطام هي الحصون، فكل حصن فيه عشيرة تحيطه حيطانها، ويعمل أصحاب هذا الحصن في الزراعة، والصناعة، وإذا جاء المساء دخلوا حصنهم، وأقفلوا أبوابهم ليأمن كل منهم جيرانه، وما تحمله ظلمة الليل من طوارق السوء، وقد بلغ عدد حصونهم تسعة وخمسين حصناً موزعة على قبائلهم وعشائرهم. وقدم المهاجرون إلى المدينة، وكان أمام النبي عليه الصلاة والسلام مهمة كبيرة، وهي توفير السكن والمعاش لهم.
وكان للأنصار مساهمات عظيمة تعرفونها جميعاً، كان كل أنصاري بعد أن آخى النبي بينه وبين مهاجر، النبي عليه الصلاة والسلام آخى بين الأنصار والمهاجرين، فكان الأنصاري يقول للمهاجر: عندي بستانان، خذ أحدهما، عندي بيتان، خذ أحدهما، عندي دكانان، خذ أحدهما، أما الشيء الذي يغيب عن أذهانِ بعضِ المسلمين أنه لم يسجل التاريخ أن مهاجراً واحداً أخذ من أنصاري شيئاً، الأول بذل، والثاني تعفف. فلما عرض سعد بن الربيع رضي الله عنه على سيدنا عبد الرحمن بن عوف بستاناً، وبيتاً، ودكاناً، قال قولته الشهيرة: بارك الله لك في مالك، لكن دُلّني على السوق، ودخل إلى السوق، وتاجر، واغتنى، وكان هذا الصحابي الجليل من كبار تجار الصحابة.
لذلك ماذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام حتى هيأ لهؤلاء المهاجرين مساكن؟ منح المهاجرين الأراضي، فقد ورد عن بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة جعل كل أرض لا يبلغها الماء يعطيها لبعض المهاجرين، ماذا نفهم من هذا الملمح؟ هذه إشارة من النبي عليه الصلاة والسلام، منح الأرض ليُبني عليها إن لم يكن فيها ماء، الماء للزراعة، فهذا من أول إشارات النبي عليه الصلاة والسلام. فلذلك ما سمح النبي ببناء بيت في أرض فيها نبع ماء، أما أرض فيها مياه جارية فهذه الأرض للزراعة فقط.
أيها الأخوة؛ ومن يتأمل فيما فعله النبي عليه الصلاة والسلام يرى أمراً عظيماً فيما كان من عمارة المدينة وسعتها، واتصال بعضها ببعض، وآثار من العمارة شاهد من ذلك. إذاً حل مشكلة الناس، إنشاء منازل، تنظيم هذه المنازل، تأمين الماء والخدمات لهذه المنازل، هذا سلوك حضاري فعله النبي عليه الصلاة والسلام. وتستمر المدينة في عمرانها واتساعها مع الهجرة إليها حتى فتح مكة، حتى تصبح المدينة المنورة عاصمة الإسلام الأولى، وقد أسس فيها النبي عليه الصلاة والسلام كياناً سياسياً.
الآن أيها الأخوة؛ منذ اللحظة الأولى للهجرة النبوية بدأت مهمة التربية الفردية والاجتماعية لمجتمع جديد، فكان عليه الصلاة والسلام يعزز مكارم الأخلاق، وينفي خبائثها بل ويتمم مكارمها، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((وإنما بعثت معلماً)) وقال أيضاً: ((إنما بُعِثتُ لأُتَمِّمَ حُسْنَ الأخلاقِ)) في المجتمع المكي كان في البيت الواحد شاب مسلم، وشاب مشرك، فكان له ظرف خاص، وخصوصية خاصة، أما في المدينة فالمؤمنون مجتمعون في مكان واحد، وتحت لواء واحد، مع نبي واحد، وقرآن واحد، لذلك أول سورة نزلت في المدينة: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ دخلنا في التشريع، السور المكية تتحدث عن الإيمان باليوم الآخر، وعن الكون كأكبر دليل على عظمة الله، ولكن السّور المَدنيّة جاءت للتشريع.
كان الولاء أُسرياً وقَبلياً، الولاء للأسرة، والولاء للقبيلة، فالنبي عليه الصلاة والسلام صَعّد هذا الولاء فجعله لله، وجعله لدين الله، ولرسول الله. لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ))
خطط النبي عليه الصلاة والسلام تعتمد على توثيق الأخوّة والجوار، حتى تصل إلى أعمق الجذور التي تتغلب معها على حب غير الله ورسوله والمؤمنين، يقول عليه الصلاة والسلام : ((لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحبُّ لِنَفْسِه)) والأخوّة في هذا الحديث ما دامت غير مقيدة تعني الأخوة الإنسانية، تقول: هذا أخي في الإيمان، قيدته، أخي في النسب، أخي في الجوار، أخوة مقيدة، إن جاءت مطلقة فتعني الأخوة في الإنسانية. قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)) وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: ((لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ)) ورسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالتعاون بين الجيران، ونظم بينهم حقوق الارتفاق، قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا يَمْنَعْ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ)) قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي الطَّرِيقِ فَاجْعَلُوهُ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ، وَمَنْ سَأَلَهُ جَارُهُ أَنْ يَدْعَمَ عَلَى حَائِطِهِ فَلْيَفْعَلْ)) و قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيضاً: ((خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ)).
لقد أقطع النبي عليه الصلاة والسلام الأراضي، وابتعد عن الأراضي المروية، أقطع الأراضي الجافة لبناء المساكن، ونسق بين أصحابه، وأعطى هذه التوجيهات ليكون الإعمار إعمارين، إعمار البناء، وإعمار القلوب، وليكون الولاء لا إلى الأسرة، ولا إلى القبيلة بل إلى الله ورسوله والمؤمنين، وليكون هذا المجتمع مجتمعاً نموذجياً.