أيها الإخوة الكرام، سيدنا إبراهيم جدد بناء الكعبة، لكن الكعبة أول بيت لله في الأرض، بل إن علماء الجغرافيا يؤكدون أن الكعبة هي الوسط الهندسي للقارات الخمس، كيف ذلك؟ لو أخذنا العالم القديم، آسيا، وأوروبا، وإفريقيا، واستراليا، هذا العالم القديم، ووصلنا بخطوط بين كل النهايات لهذا العالم القديم، إن هذه الخطوط تتقاطع في مكة المكرمة، إذاً الكعبة هي الوسط الهندسي للعالم القديم يعني بين مكة، وبين أي طرف من أطراف العالم القديم، 8500 كيلومتر بالضبط، فإن أضفنا العالم الجديد أمريكا تكون مكة المكرمة أيضاً وسطاً هندسياً للعالم الجديد، فبين مكة وأطراف العالم الجديد 13 ألف كيلومتر. ولا يقابل الكعبة مكان يابس في الطرف الآخر، بل يقابل الكعبة المحيط الهادي، هذا من حيث الجغرافيا.
ومن حيث القرآن الكريم: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾. الآن السؤال: ما معنى أنّ الله في كل مكان؟ ألم يقل الله عزوجل: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ ما معنى أن يتخذ بيتاً في مكان ما؟ الجواب: أنه تمشياً مع الجانب المادي للإنسان اتخذ الله له بيتاً في الأرض وجعل علامة الصدق في طلبه زيارة هذا البيت، وجعل هذه الزيارة تعبيراً حقيقياً عن شوق العبد إلى ربه.
فقريش لخمسٍ وثلاثين سنة من مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم قامت ببناء الكعبة، وذلك لأن الكعبة كانت ردماً فرق القامة، ارتفاعها ضئيل جداً، ارتفاعها تسعة أذرع، من عهد إسماعيل عليه السلام، ولم لكن لها سقف، فسرق نفر من اللصوص كنزها، وكانت مع ذلك تعرضت باعتبارها أثراً قديماً للعوادي التي هدت بنيانها، وصدعت جدرانها، وقبل بعثته صلى الله عليه وسلم بخمس سنين جرف سيل مكة بعض أحجارها، وتصدعت جدرانها، فأوشكت الكعبة على الانهيار، فاضطرت قريش إلى تجديد بنائها حرصاً على مكانتها، واتفقوا أيضاً ألا تكون النفقة على بنائها إلا من مال حلال، هذا قبل بعثة النبي معنى ذلك أن منهج الله مركوز في فطر الإنسان، فأردوا أن يقوم أناس أطهار ببنائها، وأن تكون النفقة من مال حلال، فاتفقوا ألا تكون النفقة على بنائها فيها مهر بغي، أيْ امرأة بغي، مالها حرام، ولا بيع رباً، ولا مظلمة لأحد من الناس، فاتفقوا على أن تكون النفقة على بناء الكعبة بعيدة عن كل شبهة . لقد كانوا يهابون هدمها، للكعبة قدسية كبيرة، فابتدأ بها الوليد بن المغيرة المخزومي، فأخذ المعول، وقال: اللهم لا نريد إلا الخير، ثم هدم ناحية الركنين ولم يصبه شيء، هو أراد الخير، أراد بناءها، لكنه مركوز في أعماق النفوس أن الذي يهدمها يقصمه الله عزوجل لذلك: (( إنما الأعمال بالنيات )). لذلك تبعه الناس في الهدم في اليوم الثاني، ولم يزالوا في الهدم حتى وصلوا إلى قواعد إبراهيم، ثم أرادوا الأخذ بالبناء فجزؤوا الكعبة وخصصوا لكل قبيلة جزءاً منها، فجمعت كل قبيلة حجارة على حدا، وأخذوا يبنونها، وتولى البناء بناء رومي اسمه " باقون ". ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضع مكانه الحجر الأسود، من ينال شرف أن يمسكه، وأن يحمله، وأن يضعه في مكانه، واستمر النزاع أربع ليالٍ أو خمساً، واشتد حتى كاد يتحول إلى حرب ضروس في أرض الحرم. إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومي عرض أن يحكموا فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجد، فارتضوا، وشاء الله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتها كان محمد بن عبد الله، فلما رأوه هتفوا، وقالوا: هذا الأمين. فالنبي عليه الصلاة والسلام ما عبد صنماً، ولا شرب خمراً، ولا أكل مالاً، ولا انتهك عرضاً، ولا سفك دماً، هذا الأمين رضيناه، هذا محمد، فلما انتهى إليهم، وأخبروه الخبر طلب رداء، فوضع الحجر وسطه، وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعاً بأطراف الرداء وأمرهم أن يرفعوه حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده فوضعه في مكانه، وهذا حل حصيف رضي به القوم.
قريش قصرت بها النفقة الطيبة ، فالمال الذي جُمع لم يكن كافياً، فهم اتفقوا أن كل إنسان ماله فيه شبهة، مهر بغي، مال فيه رباً، هذا مال ممنوع أن يسهم في بناء الكعبة، لذلك فأخرجوه من الجهة الشمالية نحو من ستة أذرع، وهي التي تسمى بالحجر والحطيم، الكعبة بالجهة الشمالية فيها قوس، هي الكعبة في الأساس مستطيلة، لكن النفقة قصرت بهم فوقفوا عند هذا المكان، وهذا القوس تابع للكعبة، والذي يطوف حول البيت، ويدخل بين القوس، والكعبة طوافه باطل، لأن الطواف حول الكعبة، فهذا من الكعبة. قال النبي عليه أتم الصلاة والتسليم، للسيدة عائشة: لولا أن قومك، بعد أن جاءت البعثة، وبعد أن أصبح النبي رسول الله، وبعد أن دعا إلى الله، وهو يعلم علم اليقين أن حدود الكعبة وراء الحطيم، لكن لئلا يثور الناس قال لعائشة رضي الله عنها: (( لولا أن قومك حديثو عهد بالإسلام لأتممت بناء الكعبة )).
وصارت الكعبة بعد انتهاء بنائها ذات شكل مربع تقريباً، يبلغ ارتفاعه 15 م، وطول ضلعه الذي فيه حجر الأسود والمقابل له عشرة أمتار، والحجر موضوع على ارتفاع متر ونصف من أرضية المطاف، والضلع الذي فيه الباب، والمقابل له 12 م، وبابها على ارتفاع مترين من الأرض، ويحيط بها من الخارج قصبة من البناء، وهذه تسمى بالشادروان، وهي من أصل البيت، لكن قريشاً تركتها.
الآن نتحدث عن سيرة النبي الإجمالية في مكة، كان عليه الصلاة والسلام قد جمع في نشأته خير ما في طبقات الناس من ميزات، وكان طرازاً رفيعاً من الفكر الصائب، والنظر السديد، ونال حظاً وافراً من حسن الفطنة، وأصالة الفكرة، وسداد الوسيلة، وكان يستعين بصمته الطويل على طول التأمل، وإدمان الفكرة، واستهناك الحق، وطالع بعقله الخصب، وفطرته الصافية صحائف الحياة، وشؤون الناس، وأحوال الجماعات، فعافى ما سواها من خرافة، ونأى عنها، ثم عاشر الناس على بصيرة، من أمره وأمرهم فما وجد حسناً منهم فشاركهم فيه، وإلا عاد إلى عزلته العتيدة، فكان عليه الصلاة والسلام لا يشرب الخمر، ولا يأكل مما ذُبح على النصب، ولا يحضر للأوثان عيداً ولا احتفالا، بل كان من أول نشأته نافراً من هذه المعبودات الباطلة حتى لم يكن شيء أبغض إليه منها، وحتى كان لا يصبر على سماع الحلف باللاة والعزة. قبل أن تأتيه البعثة، فطرته سليمة، فطرته تأبى أن يعبد صنماً، أو أن يُحلف بإله، أو أن يشرب خمراً، ولا شك أن الله سبحانه وتعالى أحاطه بالحفظ، فعندما تتحرك نوازع النفس لاستطلاع بعض متع الدنيا، وعندما يرضى بإتباع بعض التقاليد غير المحمودة تتدخل العناية الإلهية للحيلولة بينه وبينها.
وكان عليه الصلاة والسلام يمتاز بقومه بخلال عذبة، وأخلاق فاضلة، وشمائل كريمة، فكان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأعزهم جواراً، وأعظمهم حلماً وأصدقهم حديثاً، وألينهم عريكة، وأعفهم نفساً، وأكرمهم خيراً، وأبرهم عملاً، وأوفاهم عهداً، وآمنهم أمانة، حتى سماه قومه الأمين، لما جمع فيه من أحوال الصالحة، والخصال المرضية، وكان كما قالت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها: يحمل الكل، ويكسب المعدوم، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق.