لا شيء يعلو عن أن تعرف سر وجودك، وغاية وجودك، لقد أخبرنا القرآن الكريم بأن علة وجودنا أن نعبد الله، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ فإذا علمت أن العبادة علة وجودك على وجه الأرض، وهذا هو الهدف الكبير، إذاً يجب أن تختار من جزئيات حياتك، ومن معطيات بيئتك ما له علاقة بهذا الهدف، وهذا هو النجاح كل النجاح، وهذا هو الفلاح كل الفلاح. لكن كلمة عبادة قد تفهم فهماً ضيقاً جداً، وهذه هي الطامة الكبرى، وقد تفهم فهماً موسعاً جداً، وهذه البطولة. فإذا فهم العبادة على أنها صلاة وصيام، وحج وزكاة، والنطق بالشهادة، ليس غير، ابتعدوا بُعد الأرض عن السماء عن فهم الحقيقة، لأن الإسلام كما قال عليه الصلاة والسلام: ((بُنِيَ الإسلامُ عَلَى خَمْسٍ)) فالإ سلام شيء، والأركان الخمس شيء آخر، الأركان دعائم، الإسلام بناء، منهج، مجموعة قيم أخلاقية، منظومة مبادئ، سلسلة أوامر، هذا هو الإسلام، الإسلام منهج تفصيلي. فعلة وجودك في الدنيا العبادة، علة وجودك في الدنيا أن تعرف الله، وأن تعرف منهجه، بل أن تعرف الله معرفة تدفعك إلى تطبيق أمره، وأن تعرف الآخرة معرفة تمنعك مِن أن تؤذي مخلوقاً كائناً من كان، وأن تبتغي فيما آتاك الله الدار الآخرة، أن توظف مالك وعملك، ووقتك وخبرتك، وقدراتك ومهاراتك في سبيل الله عز وجل.
العبادة طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية، فالعبادة طاعة، وما من إنسان إلا ويطيع القوي طاعة قسرية، هل تسمى الطاعة القسرية عبادة؟ مستحيل، طاعة طوعية، الله عز وجل أرادنا أن نأتي إليه طائعين بمبادرة منا، أن نأتيه محبين، قال تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ وقال تعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، ما عبد الله من أحبه، ولم يطعه، ولا من أطاعه، ولم يحبه، طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية. فالعبادة فيهاجانب معرفي، وجانب سلوكي، وجانب جمالي: معرفة يقينية، لو أن أهل الأرض جميعاً كفروا، أهل الأرض ستة آلاف مليون، وأنت واحد منهم، لو أن ستة آلاف مليون عدا واحد كفروا فأنت لا تكفر يقيناً، في كل خلية في جسمك، وفي كل قطرة، في دمك تجد الإيمان، الإيمان بالله موجودا وواحدا وكاملا، الإيمان بأسماء الله الحسنى، وصفاته الفضلى، الإيمان باليوم الآخر، الإيمان بالملائكة، الإيمان بالكتب، الإيمان بالنبيين، الإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى، أساسها معرفة يقينية، لكن ما سمعت إنساناً نام مساءً استيقظ ومعه دكتوراه، الإنسان يتوهم أنه مؤمن، متى حضرت درس علم؟ متى اقتنيت كتاباً؟ متى قرأت كتاباً؟ متى قرأت القرآن الكريم؟ متى قرأت السنة؟ متى تأملت؟ متى تفكرت؟. وأما الجانب السلوكي، لا يمكن أن نقطف من الدين شيئاً إن لم نستقم على أمر الله، وإذا شئت فقل: يمكن أن يضغط الدين كله بكلمة واحدة، هي الاستقامة، كما يمكن أن تضغط التجارة كلها بكلمة واحدة، ألا وهي الربح، فإن لم تربح فلست تاجراً، وإن لم تستقم فلست ديناً. والجانب الجمالي، الحاجة إلى الجمال أساسية في الإنسان، والدين أول ثمراته السعادة، لذلك في قلب المؤمن من السعادة ما لو وزع على أهل بلد لكفاهم، في قلب المؤمن من الأمن ما لو وزع على أهل بلد لطمأنهم، في النفس فراغ لا يملؤه المال، ولا الزواج، ولا المرأة، ولا المنصب، ولا المتع، لا يملؤه إلا الإيمان، وهذا الذي يبحث عنه الإنسان في وقت متأخر في حياته، وكان يتمنى أن يبحث عنه في وقت مبكر من حياته. إنها جنةٌ في الدنيا، وذاقوا بعضها، إنها جنة القرب، لذلك قال بعض العلماء:
فلو شاهدت عيناك من حسننا الذي رأوه لمـــا وليت عنا لغيرنا
ولو سمعت أذناك حسن خطـابنا خلعت عنا ثياب العجب وجئتنا
ولو ذقت من طـعم المحبة ذرة عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنا
ولو نسمـت من قربنا لك نسمة لمت غريباً واشتياقاً بقربنــا
ولو لاح من أنوارنا لك لائــح تــركت جميع الكائنات لأجلنا
والعبادة تقسم إلى عبادة شعائرية وإلى عبادة تعاملية. العبادة الشعائرية أن تصلي، وأن تصوم، وأن تحج، والعبادة التعاملية ألا تكذب، وألا تأخذ ما ليس لك، وألا تعتدي على إنسان لا مادياً ولا معنوياً، ولا من أي نوع من أنواع الاعتداء فحقيقة العبادة التعاملية: أن تكون مستقيماً، أن تكون صادقاً، أميناً، عفيفاً، عادلاً، متواضعاً، حليماً، رحيماً، إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، الإيمان هو الخلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الإيمان. لذلك سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما كان معتكفاً في مسجد رسول الله في رمضان لقي واحداً كئيباً قال له: مالي أراك كئيباً؟ قال: والله ديون لزمتني ما أطيق سدادها، قال: لمن؟ قال: لفلان، فقال ابن عباس: أتحب أن أكلمه لك؟ قال: إذا شئت، فقام ابن عباس من معتكفه، لفت نظره رجل قائلا: يا ابن عباس، أنسيت أنك معتكف؟ قال: والله ما نسيت، ولكنني سمعت صاحب هذا القبر، وأشار بيده إلى قبر النبي عليه الصلاة والسلام، والعهد به قريب، ودمعت عيناه، والله لأن أمشي مع أخ في حاجته خير لي من صيام شهر واعتكافه في مسجدي هذا .
العبادات الشعائرية لا تقبل ولا تصح إلا إذا صحت العبادات التعاملية، طالبوني بالدليل، ولولا الدليل لقال من شاء ما شاء. النبي عليه الصلاة والسلام سأل أصحابه الكرام فقَالَ: أتَدْرُونَ مَنْ الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا لَهُ دِرْهَمَ وَلَا دِينَارَ وَلَا مَتَاعَ، قَالَ : الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ يَأْتِي بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ عِرْضَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُقْعَدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ. فحقوق العباد مبنية على المشاححة، وحقوق الله مبنية على المسامحة.