بحث

العبادة

العبادة

بسم الله الرحمن الرحيم

العبادة: 

أولا: العبادةُ هي علّةُ وجودِ الإنسان : 

العبادة علة وجودنا على وجه الأرض، فلو أن طالباً سافر إلى بلد غربي لينال درجة الدكتوراه ليس له في هذا البلد من هدف إلا هذه الشهادة، نقول له : إن علة وجودك في هذا البلد نيل الدكتوراه، وأيّ شيء في هذا البلد يقربه من هدفه فهو مشروع، وأي شيء يصرفه عن هذا الهدف فهو غير مشروع . 

فإذا علمت أن العبادة علة وجودك على وجه الأرض، وهذا هو الهدف الكبير، إذاً يجب أن تختار من جزئيات حياتك، ومن معطيات بيئتك ما له علاقة بهذا الهدف، وهذا هو النجاح كل النجاح، وهذا هو الفلاح كل الفلاح، وهذا هو الفوز كل الفوز، علة وجودك أن تعبد الله، كما أن الطالب علة وجوده أن ينال هذه الدرجة . 

حينما تتضح الأهداف تتضح الوسائل، وإذا أبلغتكم مع الأسف الشديد أن سبعة وتسعين بالمئة من الشباب لا يعرفون أهدافهم إطلاقاً يعيش هكذا بحكم وجوده بحكم الصوارف والمغريات والدوافع، لذلك لا شيء يعلو عن أن تعرف سر وجودك، وغاية وجودك، أو لا شيء يعلو عن أن تعرف عن علة وجودك، لقد أخبرنا القرآن الكريم بأن علة وجودنا أن نعبده، الدليل، ولولا الدليل لقال من شاء ما شاء،  

قال تعالى : ] وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)  [   

ثانيا:  المفهوم الواسعُ للعبادة : 

لكن كلمة عبادة قد تفهم فهماً ضيقاً جداً، وهذه هي الطامة الكبرى، وقد تفهم فهماً موسعاً جداً، وهذه البطولة . 

مثلاً : أي شيء يسير يسمى سيارة،  

قال تعالى : ] وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ (19)  [   . 

أيّ شيء يسير بالمفهوم الواسع لكلمة سيارة، أيّ شيء يسير، بالمفهوم الضيق المركبة التي تتحرك على عجلات بقوة من محرك انفجاري فيه وقود سائل،  

فإذا فهم الناس العبادة على أنها صلاة وصيام، وحج وزكاة، والنطق بالشهادة، ليس غير، ابتعدوا بُعد الأرض عن السماء عن فهم حقيقة دينهم، لأن الإسلام كما  قال عليه الصلاة والسلام :  (( بُنِيَ الإسلامُ عَلَى خَمْسٍ )) . 

الإسلام شيء، والأركان الخمس شيء آخر، الأركان دعائم، الإسلام بناء، منهج، مجموعة قيم أخلاقية، منظومة مبادئ، سلسلة أوامر، مجموعة نواه، هذا هو الإسلام، الإسلام منهج تفصيلي . 

وصدقوا أيها الإخوة، ولا أبالغ إن قلت : إنه يقترب من خمسمئة ألف بند ؛ في كسب مالك، في إنفاق مالك، في زواجك، في طلاقك، في تربية أولادك، في تعاملك مع الناس، مع مَن هم أقوى منك، مع مَن هم أضعف منك، مع مَن هم في مستواك، في حلك، في ترحالك، في سفرك، في حضرك، في فقرك، في غناك في حالة السلم في حالة الحرب منهج تفصيلي فكيف تم ضغط الدين إلى خمس والتي هي فقط العبادات شعائرية ؟  

ثالثا: العبادة لا تنحصر بمكان 

كيف أصبح الإسلام، هو الذي يصلي فقط ؟ هنا الطامة الكبرى، ما لم نفهم العبادة فهماً موسعاً، ما لم نفهمها منهجاً مفصلاً، ما لم نفهمها فضلاً عن الشعائرية افعل ولا تفعل، فنحن بعيدون عن حقيقة الدين، بعض من يُسيئ يريدون أن يحصروا الدين في مكان العبادة فقط، أنت داخل مكان العبادة مسلم، لكنك خارجه تأكل وتشرب، وتلتقي وتحتفل، وتمارس كل الشهوات، وتقيم كل الحفلات التي ترضي والتي لا ترضي،  

الحقيقة هي خلاف ذلك , أنت في المسجد تأخذ تعليمات الصانع، وأنت في المسجد تقبض الثمن، إن حضرت مجلس علم، أن تتلقى تعليمات الصانع، أما إذا دخلت لتصلي يتجلى الله عليك في المسجد، فيمنحك الرضا، يمنحك الحكمة، يمنحك القرب، يمنحك السعادة، يمنحك الأمن، المسجد لتلقي التعليمات، والمسجد لقطف الثمرة، دينك في مكتبك، دينك في عيادتك، دينك في غرفة العمليات، دينك في مكتب المحامي، دينك في زراعة الأرض، هل تستخدم الهرمونات المسرطنة ؟ دينك في وظيفتك، هل تضع العصي في العجلات أمام المواطنين لتبتز أموالهم، أم تقدم لهم خدمة، وهم دافعوا الضرائب، دينك في عملك، دينك في بيتك، دينك في حفلاتك، دينك في كسب مالك، دينك في إنفاق مالك، الدين النصيحة، الطامة الكبرى أن نفهم العبادة مفهوماً ضيقاً، أن نقصرها على الصلاة والصيام . 

النبي عليه الصلاة والسلام  سأل أصحابه الكرام  

فقَالَ : أتَدْرُونَ مَنْ الْمُفْلِسُ ؟  

قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا لَهُ دِرْهَمَ وَلَا دِينَارَ وَلَا مَتَاعَ،  

قَالَ : الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ يَأْتِي بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ عِرْضَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا،وَضَرَبَ هَذَا، فَيُقْعَدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ  . 

أيها الإخوة، علة وجودك في الدنيا العبادة، علة وجودك في الدنيا أن تعرف الله، وأن تعرف منهجه، بل أن تعرف الله معرفة تدفعك إلى تطبيق أمره، وأن تعرف الآخرة معرفة تمنعك مِن أن تؤذي مخلوقاً كائناً من كان، وأن تبتغي فيما آتاك الله الدار الآخرة، أن توظف مالك وعملك، ووقتك وخبرتك، وقدراتك ومهاراتك في سبيل الله عز وجل . 

العبادة مفهوم واسع جداً. 

ما معنى العبادة؟ 

أيها الإخوة الكرام، من التعاريف الجامعة المانعة للعبادة أنها: طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية، 

أولا: العبادة طاعة: 

طاعة، فالذي لا يطيع الله لا يعبده، بشكل مختصر العبادة الطاعة . 

نحن في حياتنا ليس هناك إعجاب سلبي في الإسلام، ما شاء الله دين رائع، دين حضاري، دين الفطرة، لكنك لا تطبقه . 

أحب شاب فتاة في بلاد الغرب، فاستأذن والده بالزواج منها، فأقام عليه الدنيا، وتوعده أن يتبرأ منه، ماذا يفعل ؟ بعد شهر عرض عليه شيئاً، يا أبت، لو أنها أسلمت فجاء الجواب إيجابياً، قال له : لا مانع، اختل توازن هذا الشاب من الفرح، فانطلق إلى المكتبة، واشترى لها كتباً باللغة الإنكليزية لتقرأها، وتستوعب الإسلام كي تسلم، ثم يوافق أبوه على الزواج منها، أعطاها الكتب، لكنها ذكية جداً، طلبت منه إجازة أربعة أشهر كي تقرأ الكتب بهدوء، وبعيداً عن ضغوطاته وعن تمنياته، ومرت عليه هذه الإجازة كأربع سنوات، عدّ الوقت بالدقائق والثواني، فلما انقضت هذه الأشهر الأربعة اتصل بها، وسمع منها كلمة اختل لها توازنه فرحاً، قالت له : لقد أسلمت، إذاً : حقق الهدف، لكنها قالت كلمة ثانية، قالت : ولكنني لن أتزوجك، لأنك بحسب ما قرأت لست مسلماً عليك أن تُصبح مسلماً حقاً كي أتزوجك . 

قال تعالى : ] فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً (59)  [   

ثانيا:  العبادة طاعة، طاعة طوعية: 

العبادة طاعة، طاعة طوعية، وما من إنسان إلا ويطيع القوي طاعة قسرية، هل تسمى الطاعة القسرية عبادة ؟ مستحيل، طاعة طوعية، الله عز وجل أرادنا أن نأتي إليه طائعين بمبادرة منا، أن نأتيه محبين،  

قال تعالى : 

] لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ (256)  [ 

] فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ(29)  [   

] إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)  [   

] وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ (148)  [   

ثالثا:  ما عبد الله من أحبه ولم يطعه كما أنه ما عبد الله من أطاعه ولم يحبه: 

طاعة طوعية، لا يكفي أحياناً أن تقتنع أنك إذا نظمت وقتك، ونمت باكراً، واستيقظت صباحاً باكراً، ودرست فالساعات الصباحية تعدل أضعاف ما في النهار، فنمت باكراً وفق السنة، واستيقظت باكراً وفق السنة، وتبتغي أنت أن تحرز الدرجة الأولى في الامتحان، طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، ما عبد الله من أحبه ولم يطعه، كما أنه ما عبد الله  من أطاعه، ولم يحبه، فالعبادة  طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية . 

قال بعض العلماء : العبادة غاية الخضوع وغاية الحب، غاية الاستسلام، فيها جانب معرفي، وجانب سلوكي، وجانب جمالي.  

رابعا: الدين الاستقامه: 

الجانب السلوكي هو الأصل، لا يمكن أن نقطف من الدين شيئاً إن لم نستقم على أمر الله، وإذا شئت فقل : يمكن أن يضغط الدين كله بكلمة واحدة، هي الاستقامة، كما يمكن أن تضغط التجارة كلها بكلمة واحدة، ألا وهي الربح، فإن لم تربح فلست تاجراً، وإن لم تستقم فلست ديناً . 

هناك إسلام فلكلوري، وخلفية إسلامية، وأرضية إسلامية، ونزعة إسلامية، واهتمامات إسلامية، وأقواس إسلامية، وفي زخرفة إسلامية، ورسم إسلامي، وطموحات إسلامية، وثقافة إسلامية، وآلاف الأشياء الإسلامية، لكنها شيء، والإسلام شيء آخر،  

وقد قيل:ترك دانق من حرام خير من ثمانين حجة بعد حجة الإسلام . 

إذاً : مركز الثقل ثلاثة خطوط، طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية. 

خامسا: أساس العبادة معرفة يقينية 

الإيمان معرفة يقينية، لو أن أهل الأرض جميعاً كفروا، أهل الأرض ستة آلاف مليون، وأنت واحد منهم، لو أن ستة آلاف مليون عدا واحد كفروا فأنت لا تكفر يقيناً، في كل خلية في جسمك، وفي كل قطرة، في دمك تجد الإيمان، الإيمان بالله موجودا وواحدا وكاملا، الإيمان بأسماء الله الحسنى، وصفاته الفضلى، الإيمان باليوم الآخر، الإيمان بالملائكة، الإيمان بالكتب، الإيمان بالنبيين، الإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى . 

أيها الإخوة، أساسها معرفة يقينية، لكن ما سمعت إنساناً نام مساءً استيقظ ومعه دكتوراه، يقول لك: ثلاثا وثلاثين سنة لم أعرف الراحة، ولم أعرف النوم، ولم أعرف لقاء مع صديق، ولم أعرف نزهة، حتى أضيف إلى اسمه حرف دال، كان يكتب اسمه من دون شيء، صار بحرف الدال، ثلاث وثلاثون سنة دراسة،  

الإنسان يتوهم أنه مؤمن، متى حضرت درس علم ؟ متى قرأت كتاباً ؟ متى فكرت ماذا يأمرك الله؟ متى قلت لماذا أنا في الدنيا ؟ ما سر وجودي، ما غاية وجودي ؟ متى تأملت؟ متى تفكرت ؟ يقول أنا مؤمن إيماني أقوى من إيمانك، وهو غارق في المعاصي والآثام، سبحان الله !!!  كل إنسان يتحدث في الدين على مزاجه. 

قال الله تعالى في القرآن الكريم:   ] أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)  [ .        

سادسا:  أنت بحاجة إلى أن تكون سعيداً 

فلذلك أيها الإخوة، العبادة طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، تسبقها معرفة يقينية تفضي إلى سعادة أبدية، حاجتك إلى الجمال أساسية، أنت بحاجة إلى أن تكون سعيداً إلى أن تحيى حياة جميلة، إلى أن تتصل بالله، إلى أن تكون في جنة عرضها السماوات والأرض، لذلك هؤلاء الذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة تحركوا بدافع من حبهم للجمال في وقت غير مناسب . 

الطالب في مدرسة، المقعد من خشب، والزاوية قائمة، والجو أميل للبرودة، والوظائف كثيرة، والسبورة ممتلئة، والمدرس يتكلم، هذا مكان دراسة، هذا مكان طلب علم، هذا مكان تحصيل، هذا مكان تقشف، هذا مكان أن تكون أميل إلى الجوع، لأن البطنة تذهب الفطنة . 

لو أن طالباً في الدرس أراد أن يكون له مقعد وثير كمقاعد الطائرات، يصبح سريراً، وأمامه المشروبات، القهوة، والشاي، والموالح، والفواكه، وبعض الألعاب، وراديو صغير، وشاشة صغيرة، يريد أن يترفه، هذا ليس مكان ترفه، هذا مكان عمل، لكن بعد أن تأخذ الدكتوراه تترفع، تنشئ غرفة خاصة، مكتبًا خاصًا، غرفة استقبال، غرفة نوم  مريحة، ومنظرا طبيعيا . 

نحن في دار عمل، ولسنا في دار أمل، نحن في دار تكليف، ولسنا في دار تشريف، نحن في دار مسؤولية، نحن في دار هي إعداد لدار أبدية، يا ليتني قدمت لحياتي، إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، لا تستقيم لأحد لحكمة بالغة، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، لأن الرخاء مؤقت، والشقاء مؤقت، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى عوضا، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي . 

قد تتنعم، وقد تسر، إنْ في شراء بيتك، أو في زواج، أو في جلوسك مع أهلك، لكن القصد إرضاء الله، القصد تحقيق هدف، إلهي أنت مقصودي، ورضاك مطلوبي، الله عز وجل لا يضنّ علي بالتنعم، تتنعم دون أن تجعله هدفاً وحيداً . 

مشكلة الناس اليوم أنهم يجعلون التنعم هدفاً وحيداً، واسألوا الفلاسفة حينما تتخذ اللذة هدفاً، فإنها تنقلب إلى ألم، لذلك خذ من الدنيا ما شئت، وخذ بقدرها هماً، ومن أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ من حتفه، وهو لا يشعر  

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا )) 

سأل ملك وزيره قال له : مَن الملك ؟ قال : أنت يا سيدي، ليس هناك ملك إلا أنت ملك قال له : لا ملك الملك رجل لا نعرفه ملك، ولا يعرفنا ملك له بيت يأويه، وملك وزوجة ترضيه، ورزق يكفيه، إنه إن عرفنا جهد في إرضائنا، وإنا إن عرفناه جهدنا في إحراجه . 

العبادة طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية . 

أيها الإخوة الكرام، في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة الدليل، 

قال تعالى : ] وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)  [   . 

إنها جنةٌ في الدنيا، وذاقوا بعضها، إنها جنة القرب، لذلك قال بعض العلماء الشعراء : 

فلو شاهدت عيناك من حسننا الذي        رأوه لمـــا وليت عنا لغيرنا 

و لو سمعت أذناك حسن خطـابنا       خلعت عنا  ثياب العجب وجئتنا 

و لو ذقت من طـعم المحبة ذرة       عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنا 

و لو نسمـت من قربنا لك نسمة       لمت غريباً واشتياقاً بقربنــا 

ولو لاح من أنوارنا لك لائــح      تــركت جميع الكائنات لأجلنا 

أيها الإخوة، الحاجة إلى الجمال أساسية في الإنسان، والدين أول ثمراته السعادة، لذلك في قلب المؤمن من السعادة ما لم وزع على أهل بلد لكفاهم، في قلب المؤمن من الأمن ما لو وزع على أهل بلد لطمأنهم، في النفس فراغ لا يملؤه المال، ولا الزواج، ولا المرأة، ولا المنصب، ولا المتع، لا يملؤه إلا الإيمان، وهذا الذي يبحث عنه الإنسان في وقت متأخر في حياته، وكان يتمنى أن يبحث عنه في وقت مبكر من حياته .

أقسام العبادة:  

أيها الإخوة الكرام، ننتقل إلى موضوع آخر، أن العبادة تقسم إلى عبادة شعائرية وإلى عبادة تعاملية. 

أولاً: العبادة الشعائرية : 

الصلاة : تقف تقرأ الفاتحة، وبعض القرآن الكريم ، وترفع، وتسجد، وتقعد وتسلم . 

الصيام : تدع الطعام والشراب من الفجر الصادق إلى غروب الشمس، والذي منعك الله منه أيضاً .  

الحج : تقصد مكة بيت الله الحرام، وتطوف، وتسعى، وتقف في عرفات، وتؤدي مناسك الحج .  

الزكاة : تدفع زكاة مالك . 

النطق بالشهادة : تقول : أشهد أن لا إله إلا الله، هذه عبادات شعائرية . 

ثانياً: العبادة التعاملية : 

لكن الحجم الأكبر والأخطر هو العبادات التعاملية،  

النجاشي ملك الحبشة سأل المسلمين الذين هاجروا إليه، وفي مقدمتهم سيدنا جعفر، 

قال له : حدثني عن الإسلام،  

قال سيدنا جعفر:  أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ، وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ 

 ثالثاً: حقيقة العبادة الشعائرية والعبادة التعاملية: 

العبادة الشعائرية قيم أخلاقية، أو انضباط أولاً، وفعل للخيرات ثانياً . 

العبادة التعاملية استقامة وعمل صالح، الاستقامة سلبية، والعمل الصالح إيجابي،  

العبادة الشعائرية أن تصلي، وأن تصوم، وأن تحج ...  

والعبادة التعاملية ألا تكذب، وألا تأخذ ما ليس لك، وألا تعتدي على إنسان لا مادياً ولا معنوياً، ولا من أي نوع من أنواع الاعتداء ... 

العبادات التعاملية أن تكون صادقاً كفى، بها خيانة أن تحدث أخاك بحديث هو لك به مصدق، وأنت له به كاذب فالمؤمن لا يكذب، 

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :  ((  يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ )) . 

حقيقة العبادة التعاملية أن تكون أميناً والأمانة ليست نسبية بل حدية بمعنى يستوي عند المؤمن التبر والتراب الليرة والمليار ليرة الحرام حرام، المؤمن أمين، المؤمن صادق، المؤمن عفيف، لا يعتدي على أعراض الآخرين، ولا يطلق بصره في الحرام، المؤمن رحيم، المؤمن منصف، المؤمن متواضع، الإيمان مجموعة قيم أخلاقية،  

قال رسول الله : إنما بعثت معلماً، إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق  

الإيمان هو العطاء، وليس الأخذ، بطولتك في أن تعطي، لا في أن تأخذ. 

حقيقة العبادة التعاملية: أن تكون مستقيماً، أن تكون صادقاً، أميناً، عفيفاً، عادلاً، متواضعاً، حليماً، رحيماً، إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، الإيمان هو الخلق،  

وقد قيل : من زاد عليك في الخلق زاد عليك في الإيمان . 

لذلك سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما كان معتكفاً في مسجد رسول الله في رمضان لقي واحداً كئيباً 

قال له : مالي أراك كئيباً ؟  

قال : والله ديون لزمتني ما أطيق سدادها،  

قال : لمن ؟ 

قال : لفلان،  

فقال ابن عباس : أتحب أن أكلمه لك ؟  

قال : إذا شئت، فقام ابن عباس من معتكفه،  

لفت نظره رجل قائلا : يا ابن عباس، أنسيت أنك معتكف ؟  

قال : والله ما نسيت، ولكنني سمعت صاحب هذا القبر، وأشار بيده إلى قبر النبي عليه الصلاة والسلام، والعهد به قريب، ودمعت عيناه، والله لأن أمشي مع أخ في حاجته خير لي من صيام شهر واعتكافه في مسجدي هذا . 

العبادات التعاملية فرض، فرض حتمي وعلينا أن نضيف  إلى عبادتنا الشعائرية العبادات التعاملية . 

رابعاً: لا تصح العبادة الشعائرية إلا إذا صحت العبادة التعاملية: 

وأخطر ما في هذا الدرس أن العبادات الشعائرية لا تقبل ولا تصح إلا إذا صحت العبادات التعاملية، طالبوني بالدليل، ولولا الدليل لقال من شاء ما شاء . 

أولا: الصلاة 

قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ:  

(( لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا، قَالَ ثَوْبَانُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا، أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ : أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا )) . 

العبادات الشعائرية في أعلى درجة ولكن... 

فلذلك أيها الإخوة، الدين كله مجموع بكلمة استقامة، وما لم نستقم يصبح الدين تراثاً ومنتجاً أرضياً، وثقافة عامة وفلكلوراً، وعادات وتقاليد . 

ثانيا: الصوم 

قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ:  (( مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ )) . 

ورب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش 

ثالثا: الحج 

قال عليه الصلاة والسلام :  مَن حج بمال حرام، و وضع رجله في الركاب، و قال : لبيك اللهم لبيك، ينادى أن لا لبيك، و لا سعديك، و حجك مردود عليك  

رابعا: الزكاة 

قال تعالى :قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ (53) 

خامسا:  الشهادتان 

قال عليه الصلاة والسلام : (( من قال :  إله إلا الله بحقها دخل الجنة، قيل : وما حقها ؟ قال : أن تحجزه عن محارم الله )) . 

إذاً : العبادات الشعائرية، ومنها الصلاة والصيام، والحج والزكاة، والنطق بالشهادة لا تقبل ولا تصح إلا إذا صحت العبادات التعاملية . 

قال الله تعالى في القرآن الكريم: ] قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104)  [ . 

مفهوم آخر للعبادة :  

هناك عبادات كقاسم مشترك بيننا جميعاً، يجب أن نصلي جميعاً، فالصلاةُُ هي العبادة الشعائرية الأولى، ولا خير في دين لا صلاة فيه، والصلاة عماد الدين، من أقامها فقد أقام الدين، ومن تركها فقد هدم الدين، والصلاة سيدة القربات، وغرة الطاعات، ومعراج المؤمن إلى رب الأرض والسماوات . 

نحن جميعاً نصلي هذه عبادة مشتركة، بل هذا قاسم مشترك بيننا جميعاً، جميعاً نصوم، جميعاً نؤدي زكاة أموالنا إن بلغت أموالنا النصاب، جميعنا يحج بيت الله الحرام إذا كان أحدُنا مستطيعاً وغنياً . 

هذه الشعائرية وكذلك التعاملية من صدق وأمانة وإنصاف 

الآن هناك تقسيم للعبادة بشكل آخر 

أولاً: عبادة الهوية :    

هناك عبادات متعلقة بهويتك : مَن أنت ؟ 

أن تعبد الله فيما اقامك 

أولا:  عبادة الغني إنفاقُ المال على الوجه الصحيح : 

أنت غني العبادة الأولى إنفاق المال، وما أعطاك الله هذا المال إلا لتنفقه في سبيل الله، إلا من أجل أن تسعد بإنفاقه في الدنيا والآخرة، بل إلا من أجل أن تنافس العلماء، الدليل  

قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :  (( لَا حَسَدَ إِلَّا عَلَى اثْنَتَيْنِ : رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْكِتَابَ، وَقَامَ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَرَجُلٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يَتَصَدَّقُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)) . 

المؤمن الغني يجب أن يعلم علم اليقين أن الله ما أعطاه هذا المال إلا ليكون عوناً له على دخول الجنة، ولكم أيها الإخوة الكرام حقائق كثيرة بإمكان أصحاب الأموال أن يصِلوا إلى أعلى مراتب الجنة، لأن المال قوة، المال قوام الحياة : 

هذا التاجر الذي يكسب المال الحلال، وينفقه في مصالح الناس هو عند الله مع النبيين والصديقين، التاجر الصدوق مع النبيين و الصديقين، لأنه كما يمكنني أن أقنعك بأفكاري يمكنني أن أملك قلبك بمالي، لذلك العبادة الأولى لأصحاب الأموال إنفاق أموالهم، بأموالهم يرأبون الصدع، بأموالهم يلمون الشمل، بأموالهم يمسحون الدموع عن وجوه اليتامى، بأموالهم يزوجون الشباب و الشابات، بأموالهم يهيئون البيوت للفقراء، بأموالهم يطعمون الطعام، بأموالهم يرعون الأيتام، بأموالهم يعطون عطاء يملك القلوب. 

قال الله تعالى في القرآن الكريم: ] وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا  [ (77)   . 

هذه واحدة، الآية واضحة جداً، قضية المال أيها الإخوة الكرام قد ينزلق الإنسان، ويصبح في خدمة المال، ويصاب بمرض بالنسبة إلى النفس كالمرض الخبيث بالنسبة إلى الجسم 

قال الله تعالى في القرآن الكريم:  وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)    

الشح مرض، والشحيح أيها الإخوة يعيش فقيراً ليموت غنياً، لذلك ورد في بعض الآثار أن روح الميت ترفرف فوق النعش تقول: يا أهلي، يا ولدي، لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي، جمعت المال مما حلّ وحرم، فأنفقته في حله وفي غير حله، فالهناء لكم، والتبعة علي . 

بل إن أندم الناس يوم القيامة رجلٌ دخل ورثته بماله الجنة، ودخل هو بماله النار، فالغني عبادته الأولى إنفاق المال لذلك  قال الله تعالى في القرآن الكريم:  وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (195)   

منأي لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة إن لم تنفقوا، والشواهد لا تعد و لا تحصى . 

ثانيا: عبادة القويِّ إنصاف المظلوم ونصرةُ الضعيف : 

أنت من ؟ أنت قوي العبادة الأولى إحقاق الحق، إنصاف المظلوم، أن تأخذ للضعيف من القوي، وأن تأخذ للفقير من الغني، وأن تأخذ للمظلوم من الظالم، أنت بجرة قلم تصدر قراراً، لذلك الأقوياء أحياناً يترنمون بكلمة مسؤول كبير، ولو عرفوا معنى هذه الكلمة لارتعدت فرائصهم من هذه الكلمة، مسؤول كبير  

قال الله تعالى في القرآن الكريم: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)   

لذلك حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، القوة مسؤولية، والمال مسؤولية . 

يا أيها الإخوة الكرام وكلما علت مرتبة الإنسان اتسعت دائرة خياراته في الأعمال الصالحة .

ثالثا: عبادة المرأة خدمةُ زوجها وأولادها : 

وإن كنتِ امرأة فالعبادة الأولى أن ترعى المرأة زوجها وأولادها، اعلمي أيتها المرأة، و أعلمي من دونك من النساء أن حسن تبعل المرأة زوجها يعدل الجهاد في سبيل الله . 

أضرب مثلاً دائماً وأكرره، لأنه مناسب جداً، امرأةٌ صلت قيام الليل، وبكت في الصلاة، وخشع قلبها، وذابت محبة لربها، وعندها خمسة أولاد، في الساعة السادسة تعبت كثيراً فطلبت من أولادها أن يتدبروا شأنهم، الأكل غير موجود، الغرفة باردة، بعض أولادها لم يكتب وظيفته، بعض أولادها هندامه غير حسن، بعض أولادها يحتاج ثيابه إلى إصلاح، انطلقوا إلى المدرسة، هذا ما كتب وظيفته، والثاني على هندامه ملاحظة، والثالث كتابه فيه آثار زيت من الشطيرة التي ما وضع لها كيس نايلون، الكل أُهِينوا، أنا أقول : هذه المرأة لو استيقظت قبل طلوع الشمس بنصف ساعة، ودفأت الغرفة، ووضعت الطعام، وهيئت الشطائر لأولادها، وراقبت وظائفهم، راقبت هندامهم، راقبت ثيابهم، راقبت محفظتهم، ودعتهم إلى أن يستقلوا السيارة، أنا أرى أن هذه المرأة أقرب إلى الله مليون مرة من الأولى، لأن الأولى كانت عابدة لله، لكن الثانية عبدت ربها فيما أقامها . 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:   أيما امرأة قعدت على بيت أولادها فهي معي في الجنة، 

وقال: أول من يمسك بحلق الجنة أنا، فإذا امرأة تنازعني تريد أن تدخل الجنة قبلي، قلت : مَن هذه يا جبريل ؟ قال : هي امرأة مات زوجها، وترك لها أولاد، فأبت الزواج من أجلهم،  

وهي تنازع رسول الله صلى الله عليه وسلم  دخول الجنة . 

هذه عبادة الهوية، لذلك يجب أن تعبد الله فيما أقامك  

ثانياً: عبادة الظرف :   

هناك عبادة الظرف، إنسان له أب مريض، وعنده بعض مجالس العلم يحضرها، أيهما أولى أن يجلس مع أبيه ليرعاه، ويقدم له ما يحتاج، ويؤنسه، أم أن يدعه، ويهمله، وأن يأتي إلى عبادة ثانية ؟ نقول له : لا، هذه عبادة الظرف، وهي مقدمة على أية عبادة عدا الفرائض طبعاً، يجب أن ترعى أباك، 

العبادة الأولى لمَن له أب مريض أن يرعى الأب المريض،  

العبادة الأولى لمن عنده ضيف أن يكرم الضيف،  

العبادة الأولى لمن ابنه في الامتحان أن يهيئ له الجو المناسب للدراسة،  

العبادة الأولى لمن يرى ابنه في ريعان الشباب والفتن مستعرة، والدنيا ترقص العبادة الأولى أن يزوج ابنه، هذا معنى دقيق جداً،  

لذلك أيها الإخوة، ونحن أيضاً نتحدث عن عبادة الظرف، وهناك قصص كثيرة مؤلمة جداً، أن الإنسان لا يعرف الأولويات، أبوه مريض، ويقوم بعبادة أقلّ بكثير من ثواب تمريض أبيه، لذلك لا يقبل الله نافلة أدت إلى ترك واجب . 

فلذلك الأب النظامي الكامل هو الذي يهتم بأولاده، وهناك آباء أبطال، يبيع أحدهم بيتا بأرقى أحياء دمشق، ويسكن خارج المدينة، ويشتري خمسة بيوت بثمن بيته. 

إذاً : هذه عبادة الظرف . 

ثالثاً: عبادة الوقت :   

الآن عبادة الوقت، وقت فجر، هذا الوقت ليس وقت حسابات، ولا غسل سيارات، هذا وقت عبادات، هذا وقت قراءة القرآن، هذا وقت الصلوات، هذا وقت الأذكار،  

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :  (( لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَصَلَاةِ الْفَجْرِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا )) . 

عبادة الوقت ؛ أن تعطي لكل وقت حقه، إن لله عملاً في الليل لا يقبله في النهار، وإن لله عملاً في النهار لا يقبله بالليل . 

النبي عليه الصلاة والسلام رأى شاباً في ريعان الشباب يقرأ القرآن، أو يتعبد الله في وقت العمل، فسأله : (( مَن يطعمك ؟ قال : أخي، قال : أخوك أعبد منك )) .  

دقق، هذا وقت عمل، أخوك أعبد منك، لأنه يكسب المال الحلال، وينفقه على مَن يلوذ به . 

إن لله عملاً بالليل لا يقبله في النهار، وإن لله عملاً في النهار لا يقبله في الليل  . 

أهداف العبادة وغاياتها : 

السؤال المهم، لماذا فرض الله علينا عبادته وطاعته وهو الغني عنا ؟  إنه تبارك اسمه لا تنفعه عبادة من عبده، ولا يضره إعراض من صد عنه، ولا يزيد في ملكه حمد الحامدين، ولا ينقصه جحود الجاحدين، هو الغني ونحن الفقراء إليه، هو الودود الكريم والبر الرحيم، لا يأمرنا إلا بما فيه خيرنا وصلاحنا . 

أيها الأخوة المؤمنون إذا انتقلنا من تعريف العبادة إلى غاياتها العظيمة، وأهدافها النبيلة نجد : 

أولا: العبادة غذاء النفس : 

العبادة غذاء النفس، فكما أن الجسم غذاؤه الطعام والشراب فالنفس التي بين جنبيك غذاؤها العبادة، فليس الإنسان هو الغلاف المادي الذي نحسه ونراه، ولكن حقيقة الإنسان هو ذلك الجوهر النفيس الذي صار به سيد المخلوقات، هذا الجوهر الذي يحيى ويسعد بذكر الله والإقبال عليه، ويهلك ويشقى بالغفلة والبعد عنه،  

قال تعالى :﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) ﴾ . 

أيها الأخوة الكرام، إن القلب الإنساني دائم الشعور بالحاجة إلى الله، وهو شعور أصيل لا يملأ فراغه شيء في الوجود إلا حسن الصلة برب الوجود، وهذا هو جوهر العبادة. 

ثانيا: العبودية الحقة لله سبيل إلى الحرية الحقيقية : 

العبودية الحقة لله سبيل إلى الحرية الحقيقية، إن العبودية الخالصة لله جل جلاله هي عين الحرية، وسبيل السيادة الحقيقية، فهي وحدها تعتق القلب من رق المخلوقين، وتحرره من الذل والخضوع لكل ما سوى الله من أنواع الآلة والطواغيت التي تستعبد الناس وتسترقهم أشد ما يكون الاسترقاق والاستعباد، ذلك أن في قلب الإنسان حاجة ذاتية إلى رب، إلى إله، إلى معبود يتعلق به، ويسعى إليه، ويعمل على رضاه، ويلتجئ إليه، ويلوذ بحماه، لأن الإنسان خلق ضعيفاً، ليفتقر في ضعفه فيسعد في افتقاره، ولو خلق قوياً لاستغنى بقوته، فشقي في استغنائه، فإذا لم يكن هذا المعبود هو الله الواحد الأحد تخبط في عبادة آلهة شتى وأرباب أخر مما يرى ومما لا يرى، ممن يعقل ومما لا يعقل، مما هو موجود وما ليس بموجود إلا في الوهم والخيال،  

يقول أحد العلماء : كل من استكبر عن عبادة الله لا بد أن يعبد غيره، يسترقه ويذله، ولن ينجو القلب من استعباد المخلوقين واسترقاقهم إلا أن يكون الله خالق السماوات والأرض ورب العالمين هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه، ولا يستعين إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه، ولا يكره إلا ما يبغضه ويحرمه، ولا يوالي إلا من يواليه، ولا يعادي إلا من يعاديه، ولا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، وكلما قوي إخلاصه لله كملت عبوديته له، واستغناؤه عن خلقه، وبكمال عبوديته لله تكمل براءته من الكبر والشرك .  

ثالثا: العبادة ابتلاء إلهي : 

من أهداف العبادَة العبادة ابتلاء إلهي، فالحياة الدنيا التي نحياها طالت أو قصرت ليست هي الغاية، ولا إليها المنتهى، إنها حياة دنيا فانية، جعلها الله إعداداً لحياة عليا باقية، وشاءت حكمة الله جل جلاله أن يركب في الإنسان عناصر مزدوجة، بعضها يسمو به، وبعضها يهوي به، ففيه العقل والإرادة، وفيه الغريزة والشهوة، والحظوظ التي منحه الله إياها كالمال، والجمال، والقوة، والذكاء حيادية، يمكن أن يجعلها الإنسان سلماً يرقى بها، ويمكن أن يجعلها دركاتٍ يهوي بها، تسعده أو تشقيه، تكون سبباً لدخوله الجنة أو سبباً لدخوله النار، لقد أودعت فيه، ومنح نعمة العقل والإرادة، ثم رُسِم له منهجٌ من عند خالقه كُلف أن يسير عليه، وأن يطبق تفاصيله، فإما أن يُحَكِّم عقله، ويستعمل إرادته، فيطبق منهج ربه، فيسعد في الدنيا والآخرة، وإما أن يحكم غريزته، ويستجيب لشهوته، فيعرض عن منهج ربه، فيشقى في الدنيا والآخرة،  

قال تعالى :﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) ﴾ . 

وقال : ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) ﴾ . 

رابعا: العبادة حق الله على عباده : 

العبادة حق الله على عباده،  

عن معاذ بن جبل قال: 

(( كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي : يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد ؟ قلت : الله ورسوله أعلم، قال : حق الله على العباد أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً )). 

وقد ورد في الأثر القدسي : 

(( إني والأنسَ والجنَّ في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل وشرهم إلي صاعد، أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم أفقر شيء إلي )) . 

ليس بمستَنكَرٍ أن يكون لله علينا حق عبادته وحده، بل المستنكر أن يكون غير هذا، المستنكر أن نعبد ما دون الله، أو من دون الله فنؤدي الحق لغير أهله، إننا لم نكن شيئاً مذكوراً، خرجنا من ظلمة العدم إلى نور الوجود، ثم كنا نوعاً مكرماً من الخليقة، خُلقنا في أحسن تقويم، وصورنا في أحسن صورة، علمنا البيان، أوتينا العقل والإرادة، سخرت الكائنات لخدمتنا، فالعبادة نوع من الخضوع لا يستحقه إلا المنعم بأعلى أنواع النعم، كنعمة الحياة والرزق والهداية، وأقل القليل من العبادة أكبر من أن يستحقه أي مخلوق كائناً من كان، لذلك لا يستحق العبادة إلا الله، العبادة حق الله على عباده . 

خامسا: العبادة طلب للجنة ونجاة من النار : 

العبادة طلب للجنة ونجاة من النار، لا يضير العابد ولا يقلل من قيمة عبادته أن تكون عبادته طلباً لثوابه، وخوفاً من عقابه، طلباً لجنته، وهرباً من ناره، لقد وصف الله تعالى صفوته من خلقه، وصف الأنبياء والرسل والصديقين والصالحين بأنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه، ولو لم يكن هذا مطلوباً لما وصف الله الجنة للعباد، وزينها لهم، وأخبرهم عن تفاصيل لا تصل إليها عقولهم منها، ولما وصف لهم النار وخوفهم منها، وأخبرهم عن تفاصيل لا تصل إليه عقولهم منها، والحقيقة أن الجنة ليست اسماً لمجرد الأشجار، والفواكه، والثمار، والطعام، والشراب، والحور العين، والأنهار، والقصور، بل هي اسم لدار النعيم المطلق الكامل، ومن أعظم نعيم الجنة النظر إلى وجه الله الكريم، وسماع كلامه، وقرة العين بالقرب منه وبرضوانه، فأيسر اليسير من رضوانه، والنظر إلى وجهه الكريم أكبر من الجنان وما فيها،  

قال تعالى في القرآن الكريم :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) ﴾ . 

وقال : ﴿ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ (72) ﴾ . 

سادسا:  عبادة المؤمن لربه نوع من الأخلاق : 

عبادة المؤمن لربه نوع من الأخلاق، لأنها من باب الوفاء لله عز وجل والشكر لنعمه، والاعتراف بالجميل والتوقير لمن هو أهل للتوقير والتعظيم، وكلها من مكارم الأخلاق عند الفضلاء من الناس، لذلك نجد القرآن الكريم يعقب على أوصاف المؤمنين القانتين المطيعين  

قال تعالى في القرآن الكريم :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا (177) ﴾ . 

وقال : ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) ﴾ . 

وقال : ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)  ﴾ . 

لأن أعلى مراتب الصدق أن يكون الإنسان صادقاً مع الله، شاكراً لأنعمه، وفياً له بخدمة خلقه، أخلاق المؤمن لون من عبادته لربه، أخلاقه أخلاق ربانية، باعثها الإيمان بالله، وحاديها الرجاء في جنته، وغرضها رضوان الله ومثوبته، فهو يصدق الحديث، ويؤدي الأمانة، ويفي بالعهد، وينجز الوعد، ويغيث اللهفان، ويعين الضعيف، ويرحم الصغير، ويوقر الكبير، ويصبر في البأساء والضراء وحين البأس .  

قال تعالى في القرآن الكريم :﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً (9) ﴾ . 

أخلاق المؤمن عبادة من زاوية أخرى، وهو أن مقياسه في الفضيلة والرذيلة هو أمر الله ونهيه، فالضمير وحده ليس بمعصوم، وكم من أفراد وجماعات رضيت ضمائرهم بقبائح الأعمال، والعقل وحده ليس بمأمون، لأنه محدود بالبيئة والظروف ومتأثر بالأهواء والنزعات، والعرف وحده لا ثبات له ولا عموم، لأنه يتغير من جيل إلى جيل، وفي الجيل الواحد، ومن بلد إلى بلد، وفي البلد الواحد، من إقليم إلى إقليم، لذلك التجأ المؤمن إلى المصدر المعصوم المأمون، الذي لا يضل ولا ينسى، ولا يتأثر ولا يجور، ذلك هو حكم الله، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون .  

سابعا: العبادة هي السبب الوحيد لمكارم الأخلاق التي لا تنبع من المصالح ولا تتأثر بها : 

العبادة هي الأداة الوحيدة لتربية الضمير، أو هي السبب الوحيد لمكارم الأخلاق الأصيلة التي لا تنبع من المصالح ولا تتأثر بها، فالله جل جلاله أهل الخير والحق والجمال، والإنسان من خلال عبادته واتصاله بربه يشتق من مكارم الأخلاق ما يتناسب مع حجم استقامته، وعمله الصالح، وإخلاصه، وصدقه، فأشد البشر اتصالاً بربه أعلاهم خلقاً خلقاً ومنزلةً . 

قال تعالى في القرآن الكريم :﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) ﴾ . 

وقال: ﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) ﴾ . 

لذلك ممكن أن يقوم الإنسان فلا يُجعل لعبادته وزنٌ في تقويمه وتقديره، وهذا ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم وتنبأ به حينما قال : (( يأتي على الناس زمان يقال للرجل فيه ما أظرفه ما أعقله ما أجلده، وما في قلبه مثقال حبة من إيمان )) . 

خصائص العبادة وشروطها : 

أولا:  لا يُعبد إلا الله وحده : 

لا يعبد إلا الله وحده، إن توحيد الله وعبادته هي مضمون الرسالات السماوية كلها،  

قال تعالى : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) ﴾ . 

بل إن سر الإسلام على سعة تعاليمه يتجلى في دستوره الخالد، الذي هو القرآن الكريم، وسر هذا الدستور يتركز في فاتحته أم القرآن الكريم، والسبع المثاني، وسر هذه الفاتحة يتلخص في هذه الكريمة :  ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) ﴾ . 

أي لا نعبد أحداً غيرك، ولا نستعين بكائنٍ سواك، فالعبادة نوع من الخضوع لا يستحقه إلا المنعم، لذلك يعد الشرك هواناً لا يليق بكرامة الإنسان، وأي هوان يصيب الإنسان حينما يعبد ما سخر له، من حجر، ومدر، وشمس، وقمر، وجن، وبشر، كيف يسجد الإنسان لها وهي له مسخرة وفي مصلحته وخدمته مذللة ؟ كيف يسجد لها وقد سجد له الملائكة بأمر الله تحية له واحتفاءً به ؟ وقد سد الإسلام كل ذريعة تفضي إلى الشرك  

عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم :(( ما شاء الله وشئت فقال عليه الصلاة والسلام : أجعلتني لله نداً قل ما شاء الله وحده)). 

وروى الطبراني أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين فقال بعضهم : (( قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله جل جلاله)) . 

ثانيا:  لا وسطاء بين الله وخلقه : 

لا وسطاء بين الله وخلقه، بالمعاني المستنبطة من الممارسات الخاطئة. 

اعتقاد الناس في الله يقوم على حقيقتين : أنه تعالى فوق عباده علواً، وقهراً، وسلطاناً، وتصرفاً، لا يشبهه شيء، ولا يحكم عليه شيء، ولا يقع في ملكه إلا ما يريد، وهو القاهر فوق عباده، وهو الحكيم الخبير، ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، والخلق جميعاً عبيد في قبضته، لا يملكون لأنفسهم فضلاً عن غيرهم ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، وهو مع عظمته وعلو شأنه قريب من خلقه، بل هو معهم أينما كانوا، في جلوتهم، وفي خلوتهم، يسمع، ويرى، ويرعى، ويهدي، ويعطي من سأله، ويجيب من دعاه، هو تعالى قريب في علوه، عليٌّ في دنوه، قد جمع الله تعالى بين العظمة والعلو، وبين القرب والدنو في آية واحدة،  

قال تعالى :  ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ 

والله أجل وأعلى من أن يكون له وسطاء بينه وبين خلقه، يعلمونه من أمر الناس ما لم يكن يعلم، ويوجهون إرادته إلى ما لم يكن يريد، وهو سبحانه وتعالى أكرم وأجل من أن يدع رحمته وجنته بأيدي أناس يوزعونها بالأسهم والقراريط، فله وحده الخلق والأمر، وله وحده الملك، وله وحده العقوبة والعفو، وهو على كل شيء قدير . 

ثالثا: العبادة المقبولة عند الله تعالى تصاحبها النية الصادقة ويسري فيها روح الإخلاص : 

العبادة المقبولة عند الله تعالى ليست هي الشبع الخالي من الروح، إنما تصاحبها النية الصادقة، ويسري فيها روح الإخلاص سريان العصارة في الشجرة النضرة، فتؤتي في النفس أكلها، وتثمر في الخلق والسلوك ثمرتها، 

روى الطبراني عن أحد الصحابة قال : كان فينا رجل خطب امرأةً يقال لها أم قيس، فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر إلى المدينة، فهاجر إلى المدينة وتزوجها، فكنا نسميه مهاجر أم قيس، قال عليه الصلاة والسلام : 

(( إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ )) . 

اللهم إنا نعوذ بك أن نقول قولاً فيه رضاك نلتمس به أحداً سواك . 

رابعا: لا بد أن تكون عبادة الله بالصورة التي شرعها الله وبالطريقة التي ارتضاها : 

لا يكفي أن يقصد الإنسان بعبادته وجه الله وحده وألاّ يتجه إلى أحد غيره،  بل لا بد أن تكون عبادة الله بالصورة التي شرعها الله وبالطريقة التي ارتضاها،  

قال تعالى : ﴿ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) ﴾ . 

كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول :  “اللهم اجعل عملي كله صالحاً واجعله لوجهك خالصاً ولا تجعل لأحد فيه شيئاً ”. 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد، ومن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) . 

الله وحده هو المشرع، والنبي وحده هو المبلغ ونحن المتبعون، وفي الإتباع الخير كله،  

قال تعالى : ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) ﴾ . 

في أول خطبة خطبها سيدنا الصديق رضي الله عنه قال :  " إنما أنا متبع ولست بمبتدع " . 

صورة تفصيلية للشخصية المؤمنة : 

إننا نقرأ القرآن الكريم فنجد صورةً تفصيلية للشخصية المؤمنة : 

﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)﴾ . 

انظر أيها الأخ الكريم كيف جعل الله أول أوصاف المؤمنين الخشوع في الصلاة، وآخر أوصافهم المحافظة عليها، وصفهم بفعل الزكاة، وهي عبادة مع الفضائل الخلقية الأخرى، إعراضهم عن اللغو، عفتهم، حفظهم للأمانة، رعايتهم للعهد . 



المصدر: العقيدة - العقيدة والإعجاز - الدرس (02-36) العبادة - علة وجود الإنسان -2