بحث

الدين والفطرة

الدين والفطرة

بسم الله الرحمن الرحيم

     هنالك تطابق عجيب بين منهج الله وفطرة الإنسان، وأن الإنسان إن لم يتبع منهج الله فما الذي يحصل، وإن اتبعه فماذا يحصل؟ هل هو تطابق أم تخالف؟  

     أيّ شيء أمرَ الله به لو طبقته لارتاحت نفسك، ولو خالفته لشعرت بالضيق، فأنت من حيث خصائصك النفسية متوافق تماماً مئة بالمئة مع منهج الله. 

     حينما تصطلح مع الله بتطبيق منهجه تصطلح مع نفسك. في نفس المؤمن المطبِّق لمنهج الله من الراحة النفسية، من الطمأنينة، من السكينة، من الاستقرار، من الرضى، من الشعور بالفوز، من صلاح البال، ما لو وزع على أهل بلد لكفاهم، الدليل: قال تعالى:  ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾  أنت صادق، والله يأمرك أن تكون صادقا. أنت عفيف لا تتطلع على العورات، تغض البصر، فإذا غضضت البصر عن امرأة لا تحل لك تشعر بانتصارك، فأنت صاحب إرادة، ولست عبداً لشهوتك، أنت سيد لها. حينما تقول الحق ولو كان مُراً تشعر بانتصارك على ذاتك، وتشعر بعزة، فكلما طبقت منهج الله شعرت بالتفوق. سيدنا يوسف، هذا النبي الكريم عدّ العلماء أكثر من عشرة أسباب تدعوه إلى الاستجابة لامرأة العزيز، فهو شاب، غريب، غير متزوج، تدعوه سيدته، ليس من صالحها أن تقول كلمة، هو معذور، هذا الإنسان قال: معاذ الله، كان عبداً، فأصبح ملكاً، ولو ـ افتراضاً ـ جمع شاب مع فتاة دعته إلى نفسها، واستجاب لها لسقط في الوحل، وانتهى، ما الذي رفع هذا النبي الكريم إلى الأوج؟ عفته. الفطرة تحب العفة، الفطرة تحب الصدق، الفطرة تحب الوفاء الفطرة تحب الإحسان، الفطرة تحب الرحمة، أنت دون أن تشعر إن رأيت عملاً رحيماً تذوب فيه، إن رأيت وفاءً، إن رأيت صدقاً، إن رأيت تضحية، الذي يعجبك في الناس مطابق لفطرتك. أشد الناس انحرافاً يعرف أنه منحرف، فيتألم أحياناً، ويندم، ويبكي أحياناً، أكبر معاونة لك من قِبل الله أنه فطرك فطرة عالية، فإذا أخطأت عذبتك فطرتك، للتوافق التام بين الفطرة ومنهج الله. 

     هناك مصطلح اسمه احترام الذات، أو احتقار الذات قد تكون في أبهى زينة، وقد تكون في أقوى موقع، وقد تكون في أكبر ثروة، لو أن فيك خيانة وكذبا ودجلا ونفاقا وتجميع الأموال من ابتزاز أموال الناس، ومن إدخال الرعب على قلوبهم، فمثل هذا الإنسان منهار من الداخل، يحتقر ذاته، ومهما عظمه الناس، مهما بجلوه، مهما رفعوه، مهما تأدبوا أمامه فهو يحتقر ذاته، أما حينما يكون صادقاً أميناً، لا يخون، لا يكذب، لا ينافق، قد يكون ضئيل الشأن، قد يكون من عامة الناس، لكنه يشعر بعزة الكمال، وعزة الاستقامة، من هنا الدعاء الشريف:  ((... وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ... )) 

     يجب أن نعلم علم اليقين أنك مبرمج ومفطور ومجبول على الكمال، وأن تحب الكمال لا يعني أن تكون كاملاً، فحب الكمال شيء هذا فطرة، وأن تكون كاملاً شيء آخر، هذه صبغة، الصبغة أن تصطبغ بالكمال الفطرة أن تحب الكمال، أهل الأرض من دون استثناء يحبون الكمال، وقد لا يعني هذا أنهم كاملون، لكن المؤمنين حصراً الذين اتصلوا بالله عز وجل، واستقاموا على أمره هم كُمَّلٌ، اصطبغوا بالكمال، هذا الكلام مفاده أن هناك تطابقاً مذهلاً بين أدق دقائق الشرع وجبلة الإنسان، فأيّ إنسان أطاع الله عز وجل نقول له: أنت اصطلحت مع نفسك. الآن التوافق حينما تأتي أفعالك مطابقة لفطرتك، حينما تصدق، وقد أمرت أن تكون صادقاً حينما ترعى العهد، وقد أمرت أن تفعل ذلك، حينما ترحم، وقد أمرت أن ترحم، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، تشعر بشيء لا يوصف، تسميه تجليًّا، أو سكينة، أو رحمة، أو رضى، أو سرورا، أو غنى، فهو شعور بالغنى على شعور بالرضى، وبالراحة، وبالسكينة، وبالتماسك، وبقوة الشخصية، وبرفع الرأس عالياً، لأنك طبقت منهج الله أو وفي الوقت نفسه اصطلحت مع نفسك، فصار الوفاق. 

     هل هناك رجلٌ واحد لا يبحث عن السعادة؟ السعادة في طاعة الله، وتطبيق مبادئ فطرتك، السعادة في أن تصطلح مع الله، وحينما تصطلح مع الله دون أن تشعر تصطلح مع نفسك، حينما تصطلح مع نفسك دون أن تشعر تصطلح مع الله، لأن منهج الله وخصائص نفسك متطابقان تطابقاً تاماً. 

     التعارض انهيار داخلي، اختلال توازن، احتقار للذات، شعور بالذنب، كآبة، إحباط، ردود قاسية، تصرف غير حكيم، من نتائج عدم الانسجام مع النفس. الذين يبنون مجدهم على أنقاض الناس، أو غناهم على إفقار الناس، أو قوتهم على إضعاف الناس، أو عزهم على إذلال الناس هم أشقى الناس، لأنهم اختل توازنهم، فهم في قلق، في خوف من المجهول، في ردود فعل قاسية جداً، تكاد تكون معظم الأمراض النفسية وراء خروج على مبادئ الفطرة. 

     لما ينحرف الإنسان، ويختل توازنه، وينكشف أمام نفسه يحاول أن يعيد التوازن بتعلقه برأيٍ شاذٍّ، باستنباط شخصي، برأي منحرف يتمسك به، بعقيدة فاسدة، فأيّ فكر يغطي انحراف الإنسان، ويعفيه من المسؤولية يتشبث به. أول ظاهرة من ظواهر اختلال التوازن التعلق بعقيدة زائغة والشيء الثانية: تطعن في الصالحين، وكلّ إنسان مهما تألق، مهما ارتقى عند الله، مهما أخلص، مهما تواضع فله مآرب، يقول: لا تعرفون شيئًا، يشكك بأي إنسان، لا يصدق إنسانا مستقيما، ولا إنسانا يخاف من الله، تريدون دليل:  ﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ﴾ اتُّهِم نبي كريم من أجل الاستعلاء والهيمنة.



المصدر: العقيدة والإعجاز - مقومات التكليف - الدرس : 13 - الفطرة -5- التطابق والتوافق بين منهج الله وبين فطرة الإنسان