بحث

الجانب العملي للأخوة الإيمانية

الجانب العملي للأخوة الإيمانية

بسم الله الرحمن الرحيم

     الشيء الأكبر من أسس هذا المجتمع المؤاخاة، لأن الله عز وجل يقول: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ)) المسلم في أي مكان، وفي أي زمان أخو المسلم. وإذا أردنا أن نبحث عن التفسير العلمي للأخوة الحقيقية بين المؤمنين نجد أن في شخصية كلٍّ منا سماتٍ، وصفات، وتصورات، وقيماً، ومبادئ، وأهدافاً، وطباعاً، وأخلاقاً، وعاداتٍ، وتقاليد، وعواطف، ومشاعر، وميولاً، ورغبات، ونوازع، واتجاهات، ويمكن أن ينطوي تحت كل بند من هذه البنود بضع عشرات من الفروع، والأقسام، وما شخصية الإنسان إلا مجموع هذه الملامح والصفات، وبما أن الإيمان الحقيقي يطبع الإنسان بطابع عميق، وراسخ، وصارخ، ومتميز في تصوراته، ومبادئه، وأهدافه، وقيمه، وأخلاقه، وطباعه، وعاداته، وعواطفه، ومشاعره، وميوله، ورغباته، ونوازعه، واتجاهاته، وأنه كلما كثرت الصفات المشتركة والملامح المتوافقة بين شخصيتين ازدادت الألفة والمحبة بينهما، لأن كلاً منهما يرى ذاته، وصفاته في أخيه. لذلك قالوا: في حياة كلٍّ منا شخصية نكونها، وهي شخصيتنا، وشخصية نكره أن نكونها، وهي الشخصية المتنافرة في صفاتها مع شخصيتنا، وشخصية نحبها وهي التي تتوافق في صفاتها مع شخصيتنا، وشخصية نتمنى أن نكونها وهي الشخصية القدوة التي نصبو إليها. لذلك أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة، فبين أن إنفاق أموال الأرض كلها لا يمكن أن يؤلف وحدة القلوب، ولكن وحدة المبادئ والقيم والمشاعر التي تنبع من منهل علوي واحد هي التي تؤلف القلوب وتجمع النفوس، قال تعالى: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، ولقد ورد في الحديث الشريف: ((أن المؤمنين نَصَحَةٌ متوادون ولو ابتعدت منازلهم، والمنافقين غششة مُتحاسدون ولو اقتربت منازلهم)). هذه هي مبادئ الأخوة الإيمانية فماذا عن التطبيقات العملية؟ هذا هو الفكر النظري فماذا عن الممارسة العلمية؟ وهذه هي المنطلقات فماذا عن الوقائع ؟ هذا هو الإسلام في الكتب، فأين الإسلام في الحياة؟  

  1.      المؤاخاة بين المهجرين والأنصار: المؤاخاة التي كانت بين المهاجرين والأنصار، بعد الهجرة إلى المدينة.. قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم اقسم بيننا وبينهم النخل، الأنصار اقترحوا أن يكون نخل المدينة مشاركة مع إخوانهم المهاجرين، قالوا: لا، قال: تكفوننا المئونة، وتشاركوننا في التمر، الأنصاري عرض أن يتملك المهاجر نصف أشجار النخيل، قال: لا، نحن نعتني بهذه الأشجار بجهدنا، أعطونا بعض الثمار، ولتبق الأشجار لكم، أرأيتم إلى هذه العفة؟! هذه مضاربة، وهذه أفضل شركة في الإسلام، والنبي عليه الصلاة والسلام أول مضارب في الإسلام، هو بجهده والسيدة خديجة بمالها، ولعل أمانته، وعفته كانت سبب زواجه منها. قالوا: تكفوننا المئونة، أي تعتنون بهذه الأشجار، وتشاركوننا في التمر، قالوا: سمعنا وأطعنا، وهذا يشبه شركات المضاربة اليوم، العامل بعمله، والمالك بماله، قال المهاجرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ما رأينا مثل قومك، قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلاً في كثير، كفونا الموءنة وأشركونا في المهنة، أي في الخدمة، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله، هم تكفلوا بالعناية بالشجر، وأعطونا نصف الثمر، قال: حتى خشينا أن يذهبوا بالأجر كله، فقال: لا ما أثنيتم عليهم، ودعوتم لهم، أي إن ثناءكم عليهم، ودعاءكم لهم حصل منك به نوع من المكافأة.لذلك قال عليه الصلاة والسلام: ((من أسدى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تستطيعوا فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه))، الأصل أن إنساناً قدم لك خدمة، الكمال يقتضي أن ترد عليه بخدمة مثلها، قدم لك هدية، الكمال يقتضي أن ترد عليه بهدية مثلها، لكن إذا كان هو غنياً، وأنت فقير ، وأكرمك إكراماً كبيراً، ولا تملك أن تكافئه قل له: جزاك الله خيراً. لقد أثنى الله جل جلاله على المهاجرين والأنصار على هذه الروابط الطيبة التي بينهم، وبيّن فضل بعضهم على بعض ومكانتهم عند الله فقال: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
  2.      بين أبي بكر وبلالٍ: ومن أمثلة الأخوة الحقيقية بين المؤمنين التي تنعدم فيها الفوارق الكبيرة بين الطبقات التي كانت سائدة في المجتمع الجاهلي، بلال الحبشي من الطبقة الدنيا، في مجتمع الجاهلية، ليس عربياً، وليس قرشياً، وليس من أرومة قريش، عبد أسود مملوك، يعذبه سيده لأنه آمن بمحمد، ما فعله سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه حينما مرَّ بأمية بن خلف وهو يُعذب بلالاً الحبشي، قال له: ألا تتقي الله عز وجل في هذا المسكين حتى متى تعذبه ؟ فقال أمية: أنقذه مما ترى ؟ فقال أبو بكر: أفعل، خذ أكثر من ثمنه، واتركه حراً، نقد أبو بكر أمية الثمن، وحرر بلالاً من رق العبودية، وتأبط ذراعه، إشعاراً بالمساواة التامة، فقال أمية: خذه فو اللات والعُزى لو أبيت إلا أن تشتريه بدرهم واحد لبعتكه.. فرأى الصديق في هذه مساً بكرامة بلال، فقال له: والله لو طلبت فيه مائة ألف لأعطيتكها.. وسار الصديق متأبطاً ذراع بلال قائلاً: هذا أخي حقاً، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون، إذا ذكروا أبا بكر، هو سيدنا وأعتق سيدنا يعنون بلالاً. وحينما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ذهب بلال إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقال: يا خليفة رسول الله أردت أن أرابط في سبيل الله حتى أموت قال أبو بكر: ومن يؤذن لنا ؟ فقال بلال، وعيناه تفيضان من الدمع: ما كنت لأؤذن لأحد بعد رسول الله، فقال أبو بكر: بل ابق وأذن لنا يا بلال فقال بلال: إن كنت أعتقتني لأكون لك فليكن ما تريد، وإن كنت أعتقتني لله فدعني وما أعتقتني له، فقال أبو بكر: بل أعتقتك لله يا بلال، فامض لما أردت. بلال إذا قدم المدينة يخرج عمر عملاق الإسلام لاستقباله ؟! هذا هو الإسلام، ((فلا فضل لعربي على أعجمي، ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى))
  3.      بين أبي بكر جيرانه: وتتجلى الأخوة الحقيقية بين المؤمنين مع البون الشاسع بين مراكزهم الاجتماعية في هذا الموقف: فقد كان لسيدنا الصديق جيران عجائز مات أزواجهن،وكان رضي الله عنه، يؤم بيوت جيرانه فيحلب لهن الشياه، ولما آلت إليه الخلافة تناهى إلى سمعه حسرة هؤلاء العجائز، لأنهن سيحرمن من هذه الخدمة الجليلة، التي يؤديها هذا الرجل الصالح، ولكنه أخلف ظنونهن، وفي اليوم التالي لتوليه الخلافة يقرع باب إحدى تلك الدور، وتُسارع فتاة صغيرة لتفتح الباب، ولا تكاد ترى أبا بكر رضي الله عنه، حتى تصيح: جاء حالب الشاة يا أماه.. أتدرون من حالب الشاة ؟ إنه سيدنا الصديق خليفة المسلمين. لقد وصف الله المؤمنين بأنهم: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾ .
  4.      بين سعد بن الريع وعبد الرحمن بن عوف: تميل النفس الإنسانية المهذبة المزكاة إلى المحبة الصادقة، والتضحية والإيثار، فكيف وقد عظم الإسلام مكانة المتحابين بالله، فقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه اثنين اثنينِ مهاجر وأنصاري، ومن هؤلاء الذين آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم: "سعد بن الربيع الأنصاري، وعبد الرحمن بن عوف المهاجر، وعلى هذا الشعور الديني تقدم الأنصاري سعد بن الربيع إلى أخيه في الله عبد الرحمن بن عوف، فقال : إني أكثر الأنصار مالاً، أقسم لك مالي نصفين، عندي بستانان خذ أحدهما، عندي بيتان خذ أحدهما، عندي دكانان خذ أحدهما، قال عبد الرحمن بن عوف، بارك الله لك في أهلك ومال، ولكن دلني على السوق، ما هؤلاء الأصحاب الذين رباهم النبي عليه الصلاة والسلام؟ الأنصار أسخياء، والمهاجرون أعفّة. الشيء الذي يلفت النظر أنه كما أن الأنصاري سخي المهاجر عفيف، ما قبل أن يأخذ شيئاً، عرض عليه بيتاً، ودكاناً، وبستاناً، قال له: بارك الله لك بمالك دلني على السوق، تاجر وربح الإقط والسمن، ثم تاجر فتزوج، فلما رآه النبي عليه أثر صفرة قال له: ما الأمر؟ قال: تزوجت يا رسول الله، قال: كم سقت إليها؟ ما المهر؟ قال: نواة من ذهب، يعني بحجم نواة ذهباً، أو وزن نواة من الذهب، قال: أَوْ لِم ولو بشاة، لذلك من السنة أن يكون في حفل عقد القران وليمة وطعام. 
  5.      الإيثار في الماء بين الجرحى في المعركة: وخير ما يجسد الوصف الرباني لعباده المؤمنين ما رواه حذيفة العدوي حيث قال: انطلقت يوم اليرموك، أطلب ابن عم لي في القتلى، ومعي شيء من الماء، وأنا أقول: إن كان به رمقٌ سقيته، فإذا أنا به بين القتلى، فقلت له أسقيك؟ فأشار إلي أن نعم ( والجريح يتحرق على شربة ماء كما هو معروف ) فسمع رجلاً يقول: آه.. فأشار إلي ابن عمي أن انطلق واسقه، فإذا هو هشام بن العاص قلت: أسقيك فأشار إليّ أن نعم، فسمع آخر يقول: آه.. فأشار إلي أن انطلق إليه فجئته فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات". بربكم الإنسان يموت والذي يموت وقد نزف دمه يشتري كأس الماء بمليون، وهو بحال النزاع الأخير يؤثر أخاه بشربة ماء. 

هذا هو التطبيق العملي، وهذه هي الممارسة الفعلية وهذا هو الإسلام في الحياة. 



المصدر: الخطب الإذاعية - الخطبة : 23 - الأخوة الإيمانية - الجانب العملي للأخوة الإيمانية.