إذا أردنا أن نبحث عن التفسير العلمي للأخوة الحقيقية بين المؤمنين نجد أن في شخصية كلٍّ منا سماتٍ، وصفات، وتصورات، وقيماً، ومبادئ، وأهدافاً، وطباعاً، وأخلاقاً، وعاداتٍ، وتقاليد، وعواطف، ومشاعر، وميولاً، ورغبات، ونوازع، واتجاهات، ويمكن أن ينطوي تحت كل بند من هذه البنود بضع عشرات من الفروع، والأقسام، وما شخصية الإنسان إلا مجموع هذه الملامح والصفات، وبما أن الإيمان الحقيقي يطبع الإنسان بطابع عميق، وراسخ، وصارخ، ومتميز في تصوراته، ومبادئه، وأهدافه، وقيمه، وأخلاقه، وطباعه، وعاداته، وعواطفه، ومشاعره، وميوله، ورغباته، ونوازعه، واتجاهاته، وأنه كلما كثرت الصفات المشتركة والملامح المتوافقة بين شخصيتين ازدادت الألفة والمحبة بينهما، لأن كلاً منهما يرى ذاته، وصفاته في أخيه.
لذلك قالوا: في حياة كلٍّ منا شخصية نكونها، وهي شخصيتنا، وشخصية نكره أن نكونها، وهي الشخصية المتنافرة في صفاتها مع شخصيتنا، وشخصية نحبها وهي التي تتوافق في صفاتها مع شخصيتنا، وشخصية نتمنى أن نكونها وهي الشخصية القدوة التي نصبو إليها.
لذلك أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة، فبين أن إنفاق أموال الأرض كلها لا يمكن أن يؤلف وحدة القلوب، ولكن وحدة المبادئ والقيم والمشاعر التي تنبع من منهل علوي واحد هي التي تؤلف القلوب وتجمع النفوس قال تعالى:﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾
ولقد ورد في الحديث الشريف: (( أن المؤمنين نَصَحَةٌ متوادون ولو ابتعدت منازلهم، والمنافقين غششة مُتحاسدون ولو اقتربت منازلهم ))
هذه هي مبادئ الأخوة الإيمانية فماذا عن التطبيقات العملية ؟ هذا هو الفكر النظري فماذا عن الممارسة العملية ؟ وهذه هي المنطلقات فماذا عن الوقائع ؟ هذا هو الإسلام في الكتب، فأين الإسلام في الحياة ؟
أولا: المؤاخاة بين المهجرين والأنصار:
من أروع صور الأخوة بين المؤمنين: المؤاخاة التي كانت بين المهاجرين والأنصار، بعد الهجرة إلى المدينة.. فقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه اثنين اثنينِ مهاجر وأنصاري، ومن هؤلاء الذين آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم:
"سعد بن الربيع الأنصاري، وعبد الرحمن بن عوف المهاجر فقال سعد لعبد الرحمن: أي أخي، أنا أكثر أهل المدينة مالاً، عندي بستانان فانظر أي بستانيَّ أحب إليك حتى أخرج لك عنه ؟ فقال عبد الرحمن لأخيه الأنصاري: بارك الله لك في مالك، ولكن دلني على السوق فدله عليه، فجعل يتَّجر، وطفق يشتري، ويبيع، ويربح، ويدَّخر حتى اجتمع لديه مهر امرأة فتزوج".
ثانيا: بين أبي بكر وبلالٍ:
ومن أمثلة الأخوة الحقيقية بين المؤمنين التي تنعدم فيها الفوارق الكبيرة بين الطبقات التي كانت سائدة في المجتمع الجاهلي، ما فعله سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه حينما مرَّ بأمية بن خلف وهو يُعذب بلالاً الحبشي، فقال له:
ألا تتقي الله عز وجل في هذا المسكين حتى متى تعذبه؟
فقال أمية: أنقذه مما ترى؟
فقال أبو بكر: أفعل، خذ أكثر من ثمنه، واتركه حراً،
نقد أبو بكر أمية الثمن، وحرر بلالاً من رق العبودية، وتأبط ذراعه، إشعاراً بالمساواة التامة، فقال أمية:
خذه فو اللات والعُزى لو أبيت إلا أن تشتريه بدرهم واحد لبعتكه..
فرأى الصديق في هذه مساً بكرامة بلال،
فقال له: والله لو طلبت فيه مائة ألف لأعطيتكها..
وسار الصديق متأبطاً ذراع بلال قائلاً: هذا أخي حقاً، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون، إذا ذكروا أبا بكر، هو سيدنا وأعتق سيدنا يعنون بلالاً.
وحينما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ذهب بلال إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقال: يا خليفة رسول الله أردت أن أرابط في سبيل الله حتى أموت
قال أبو بكر: ومن يؤذن لنا ؟
فقال بلال، وعيناه تفيضان من الدمع: ما كنت لأؤذن لأحد بعد رسول الله،
فقال أبو بكر: بل ابق وأذن لنا يا بلال
فقال بلال: إن كنت أعتقتني لأكون لك فليكن ما تريد، وإن كنت أعتقتني لله فدعني وما أعتقتني له،
فقال أبو بكر: بل أعتقتك لله يا بلال، فامض لما أردت.
ثالثا: بين أبي بكر جيرانه:
وتتجلى الأخوة الحقيقية بين المؤمنين مع البون الشاسع بين مراكزهم الاجتماعية في هذا الموقف: فقد كان لسيدنا الصديق جيران عجائز مات أزواجهن، أو استشهدوا في سبيل الله، وكان رضي الله عنه، يؤم بيوت جيرانه فيحلب لهن الشياه، ولما آلت إليه الخلافة تناهى إلى سمعه حسرة هؤلاء العجائز، لأنهن سيحرمن من هذه الخدمة الجليلة، التي يؤديها هذا الرجل الصالح، ولكنه أخلف ظنونهن، وفي اليوم التالي لتوليه الخلافة يقرع باب إحدى تلك الدور، وتُسارع فتاة صغيرة لتفتح الباب، ولا تكاد ترى أبا بكر رضي الله عنه، حتى تصيح: جاء حالب الشاة يا أماه.. أتدرون من حالب الشاة ؟ إنه سيدنا الصديق خليفة المسلمين.
لقد وصف الله المؤمنين بأنهم: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ﴾
رابعا: الإيثار في الماء بين الجرحى في المعركة:
وخير ما يجسد الوصف الرباني لعباده المؤمنين ما رواه حذيفة العدوي حيث قال:
انطلقت يوم اليرموك، أطلب ابن عم لي في القتلى، ومعي شيء من الماء، وأنا أقول:
إن كان به رمقٌ سقيته، فإذا أنا به بين القتلى، فقلت له أسقيك؟ فأشار إلي أن نعم ( والجريح يتحرق على شربة ماء كما هو معروف ) فسمع رجلاً يقول: آه.. فأشار إلي ابن عمي أن انطلق واسقه، فإذا هو هشام بن العاص قلت: أسقيك فأشار إليّ أن نعم، فسمع آخر يقول: آه.. فأشار إلي أن انطلق إليه فجئته فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات ".
هذا هو التطبيق العملي، وهذه هي الممارسة الفعلية وهذا هو الإسلام في الحياة.