موضوع من أدق الموضوعات الاجتماعية التي توقع بين الناس العداوة والبغضاء، والتي تفتتهم، موضوع أشار القرآن إليه في آيات كثيرة، وحدثنا النبي عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة عنه، إنه موضوع الحسد، فالحسد من الرذائل الخلقية، هذه الرذائل الخلقية لها نتائج نفسية، واجتماعية، على مستوى الفرد، وعلى مستوى المجتمع، خطيرة جداً، وسيئة جداً، وربما كانت داءً وبيلاً، ومرضاً مستعصياً أشقى الناس جميعاً. الحسد أحد معاصي القلوب، والحسد داء قديم، قال رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء، هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين)) . ف الحسد في أصله اعتراض على عطاء الله، اعتراض على حكمته اعتراض على عدالته، اعتراض على تصرفاته، إذاً هو خلل في العقيدة، والحسد في الأصل سلوك منحرف، ينتهي بصاحبه إلى الآلام، ما الذي جعل إبليس يكن هذه العداوة البالغة لسيدنا آدم؟ إنه الحسد. ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ . ما الذي جعل قابيل يقتل أخاه هابيل؟ الحسـد. ما الذي جعل أولاد يعقوب يأتمرون على أخيهم يوسف عليه السلام فيضعونه في غيابة الجب؟ الحسـد. ما الذي جعل اليهود ينكرون على السيد المسيح نبوته؟ إنه الحسـد. ما الذي جعل اليهود ينكرون على سيدنا محمد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبوته؟ إنه الحسـد. الأحداث الكبرى في التاريخ، وراءها الحسـد. الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم يبين أن سبب الاختلاف بين الناس، ليس هو نقص المعلومات، ولا اختلاف وجهات النظر، إن السبب الكامن وراء اختلاف أصحاب الديانات إنه الحسد، دققوا في قوله تعالى: ﴿وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾ ، الحسد يقطع وشائج المودات، وصلات القربات، ويولد في النفس العداوات، ويفك أفراد المجتمع، ويباعد بين الجماعات ترى في البيت الواحد أخوةً متحاسدين، وقد يصبح الحسد عدواناً، وقصفاً، وقتلاً، وتدميراً. الحسد كالمقراض يقرض الروابط الاجتماعية يقطع بين الناس، لذلك ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ وقال صلى الله عليه وسلم: ((إياكم وفساد ذات البين، فإنها الحالقة، لا أقول حالقة الشعر ولكن أقول حالقة الدين)) . هل تصدقون أن الحسد يحلق الدين كله، لأن الحسد يوقع بالكبائر يوقع في العدوان، يوقع في البغضاء، في الحقد يتفتت المجتمع. و للحسد أنواع عدة:
- الحسد المشروع، وهو حسد الغبطة، إذ أن الإنسان إذا رأى على أخيه نعمةً حقيقةً تتصل بالآخرة، وتمنى أن تكون له من دون أن تنزع عن أخيه، فهذا حسد مأذون به شرعاً وقد سماه العلماء غبطةً. والنبي عليه الصلاة والسلام أشار إلى هذا المعنى فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا حَسَدَ إلا على اثْنَتيْنِ: رجلٌ أعْطاهُ اللَّهُ مالا، فَهوَ يُنْفِقِهُ آنَاءَ اللَّيلِ وآناءَ النَّهارِ ورَجُلٌ آتاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ، فهو يَقضِي بها ويُعَلِّمُها)). الحسد المشروع أن تحسد أخاك على نعمة حقيقة تتصل بالآخرة ويمكن أن تكتسبها، هذه غبطة، وهذه مغطاة بقوله تعالى: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ .
- أما الحسد الخبيث القبيح الوبيل الآثم هو أن تتمنى نعمة على أخيك تتمنى أن تصل إليك، وأن تزول عن أخيك، هنا وجه الخبث، والخطورة. هذا الحسد هو عرض لمرض اسمه الطمع، الطمع دق رقاب الرجال، الطمع أودى إلى الحسد، لذلك مثل هذا الحاسد شاء أم أبى صرح أو لم يصرح، معترض على حكمة الله، معترض على تصرفاته يشك في حكمته البالغة، وفي عدالته المطلقة، لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله. مبعث هذه الظاهرة الخبيثة هو الطمع، وقد يكون مبعث هذه الظاهرة الخبيثة الكراهية والحقد، لو أحببت أخيك لما تمنيت أن تزول عنه النعمة. إذاً: إما أن هذا الإنسان ينطلق من طمع جشع، وإما أن ينطلق من حسد وحقد على أخيه الذي يحسده، ومع ذلك يبقى هذا النوع من الحسد نوعاً خبيثاً قبيحاً آثماً.
- لكن هناك حسداً أشد منه... - الحسد الذي أشد من هذا الحسد، أن تتمنى أن تزول النعمة عن أخيك دون أن تصل إليك، ليس شرطاً أن تصل إليك، يكفي أن تزول هذه النعمة عن أخيك عندئذٍ ترتاح لهذا، هل هناك من نفس مريضة، يعني أقبح من هذا المرض. إذاً ليس القصد هنا أن تصل هذه النعمة إليك أنت تتنعم بهذه النعمة، ولكن تحب أن تنفرد بين الناس، ألا ينازعك بهذه النعمة أحد، ألا يكون لك مثيل، هذا هو الكبر بعينه.
- الحسد الذي يعد من أشر أنواع الحسد، ومن أقبح أنواع الحسد، ومن أخبث أنواع الحسد، يتجاوز التمني إلى الفعل، وينطلق هذا أيضاً من كبر، أو كراهية، أو شح ويضاف إلى هذه الدوافع الثلاث، دافع رابع وهو العدوان، النفس العدوانية تتمنى أن تحطم الآخرين، أن تعرقل عملهم، أن تحبط مسعاهم، أن تزيل عنهم ما هم فيه من نعم.
الحسد عرض خطير لأمراض وبيلة، من هذه الأمراض الكبر، من هذه الأمراض كراهية الناس، من هذه الأمراض الحقد الدفين، من هذه الأمراض الشح المميت، من هذه الأمراض النزعة العدوانية. إذاً: هو عرض لهذه الأمراض، لكن الحسد في الوقت نفسه يعد سبباً، هو عرض وسبب في وقت واحد، يعد سبباً لآثام خطيرة، فالغيبة من الحسد، والنميمة من الحسد، والبغي من الحسد، والعدوان من الحسد، والظلم من الحسد، والاتهام الباطل من الحسد، وافتراء الكذب من الحسد، والجور في الحكم من الحسد، والسرقة أحياناً من الحسد، والغش من الحسد، وقد ينتهي الحسد إلى القتل. لا أبالغ إذا قلت إن هذا الداء الدفين الذي دب في الأمم هو وراء الحروب، وراء المنازعات، وراء الكوارث، وراء الانقسامات، وراء شقاء البشرية، وراء الحروب المدمرة التي تركت مئات الملايين قتلى، ومفقودين، ومصابين. ضعف في إيمان الإنسان بكمال حكمة الله، مضاف إلى هذا الضعف إفراط في حب الذات، هذان السببان يقودان إلى ظاهرة تعد من أقبح رذائل النفس.
يجب أن نعلم علم اليقين أن المؤمن الحق لا يحسد، لماذا؟ لا يجتمع حسد وإيمان، لأن الحسد عرض لمرض، والمؤمن الحق لاتصاله بالله عز وجل هو الذي جعله يبرئ من هذه العلة القاتلة. فلو أن الإنسان آمن بكمال حكمة الله تعالى لما انساق إلى الحسد، يرى أن الله سبحانه وتعالى يعطي كل إنسانٍ استحقاقاً أو حكمة، ويرى أن يد الله جل جلاله فوق أيدي الناس، كما قال الله في الآية الكريمة: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ ، ويرى أن الله هو وحده المعطي، وهو المانع، وهو القابض، وهو الباسط، وهو المعز، وهو المذل، ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ ، علاقتك مع الله هو الذي أعطى فلان بحكمة بالغة، وعدالة مطلقة، وهو الذي منعك لحكمة بالغة ولعدالة مطلقة. ويرى أيضاً أن الله سبحانه وتعالى قد يكون عطاؤه حرماناً، وقد يكون حرمانه عين العطاء، لقوله عز وجل: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ . يجب أن نعلم علم اليقين، وهذه حقيقة خطيرة في الدين، أن الدنيا بأكملها ليست عطاءً، لأنها تنقطع بالموت، ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا﴾ أداة ردع ونفي، يا عبادي ليس عطائي إكرام، ولا منعي حرماناً، عطائي ابتلاء، وحرماني دواء، ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك. ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ إذا أيقنت أن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبة، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سببا، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضا، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي إذا أيقنت بهذه الحقائق لا يكمن أن تحسد أحداً. ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾. هذه المنطلقات الإيمانية الثابتة هذه تبعده عن الحسد.
قال رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يجتمعان في قلب عبد الإيمان والحسد))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب))، وقال: صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيضا : ((لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا)).