إن العقل البشري أداة معرفة الله عز وجل، لكن قدراته محدودة، بمعنى أن العقل إذا جال في الكون جولة يستنبط أنه لا بد لهذا الكون من خالق، يأتي الوحي، ويجيب العقل عن هذا السؤال الذي قلت: إنه لا بد له من خالق، إنه الله، الله الذي رفع السموات، فالحقيقة أنّ كلمة: ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ هي في مضمونها إجابة لتساؤل العقل من أن هذا الكون لا بد له من خالق، فهذه هي الإجابة: ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً﴾ لا بد من تكامل بين العقل والنقل، سأوضح هذا بمثل: إذا دخلت إلى جامعة فرأيت أبنيتها، وقاعات المحاضرات والمخابر، وبيوت الطلبة، والحدائق الغناء والملاعب، عقلك يستنبط عشرات الحقائق من هذا الذي رأيته. لاحظت دقة في الأبنية، وتناسب الأبنية مع أهداف الجامعة، وقاعات المحاضرات، فيها عزل للصوت، ومدرج، وسبورات تمسح آلياً، بيوت الطلبة حولها حدائق، وموقع الجامعة بعيد عن الضوضاء، والمخابر العملاقة، تستنبط أن هناك إدارة وجامعة وتخطيطًا وهندسة، ولكن هل تستطيع أن تستنبط من هو عميد الكلية؟ من هو رئيس الجامعة من هذه الأبنية؟ هل لك أن تستنبط نظامها الداخلي؟ متى ينجح الطالب ومتى يرسب؟ هل لك أن تستنبط أسماء الأساتذة؟ مستحيل، فالنظر في أبنية الجامعة ينبئك أن وراء هذه الأبنية مهندسين وعلماء، لكن من هم؟ ما أسماؤهم؟ ما النظام الذي يحكمهم؟ كيف ينجح الطالب؟ هذا لا بد من كتيب عن الجامعة، فالنظر في الكون يكمله الوحي، التأمل والتفكر في خلق السموات والأرض يكمله وحي السماء، فأنت بالعقل إذا جال في الكون تعرف أنه لا بد لهذا الكون من خالق، يأتي الوحي ويقول لك: ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾.
شيء آخر مهم جداً، الوحي ينقل لك مراد الله منك! لماذا خلقك؟ ولماذا جعل الدنيا محدودة وجعلها قصيرة؟ لماذا جعلها ممرًّا للآخرة؟ فكل هذه التساؤلات يأتيك الجواب عنها في الوحي، فنحن لا يمكن أن نعتمد على العقل وحده في الإيمان، تماماً كهذه العين، فلو أن إنسانًا يملك عينًا في أعلى مستوى من الرؤية، ما قيمتها من دون ضوء؟ لا قيمة لها إطلاقاً، لو جلس إنسان يبصر في غرفة مظلمة، وإنسان لا يبصر فهما يستويان، فكما أن هذه العين لا قيمة لها من دون ضوء يتوسط بينها وبين الأشياء، كذلك هذا العقل لا قيمة له من دون وحي ينير له الطريق، لا بد للعين من ضوء، ولا بد للعقل من وحي، فالله عز وجل يجيب العقل الذي تساءل عن أن هذا الكون يحتاج إلى خالق، أجابه، وقال: ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ بمعنى أنه رفعها بعمد لا ترونها، وما من تفسير لنظرية التجاذب في الكون إلا هذه الآية.
في الكون قوى تجاذب لا نراها، لو أنك جئت بورقة، ووضعت عليها مسمارًا، وفي أسفل الورقة دون أن نرى المغناطيس حركت هذا المغناطيس فتحرك المسمار، بين الورقة والمغناطيس قوى تجاذب، لكنها غير مرئية، لا تُرى بالعين، فأنت على وجه الأرض مرتبط بقوى التجاذب، ما هو وزن الإنسان في الأساس؟ هو قوة جذبه نحو مركز الأرض، الوزن كله، بدليل أن الإنسان فيما بين الأرض والقمر تنعدم الجاذبية، فيصبح لا وزن له، رواد الفضاء يستيقظون، فإذا هم في سقف المركبة، تنعدم الجاذبية، فالآية: ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾
من حكمة الله عز وجل أن الأرض تدور حول الشمس، هذا شيء بديهي، سرعتها في دورانها حول الشمس ثلاثون كيلو مترًا في الثانية! نحن من أول هذا اللقاء إلى الآن قطعنا مئات ألوف الكيلومترات، وهذا شيء يقيني، الأرض تدور حول الشمس في مسار إهليلجي بيضوي، والمسار البيضوي له قطران، صغير وكبير، الشكل البيضوي لو أخذنا مركزه، عندنا نصف قطر طويل، ونصف قطر قصير، ليس كالدائري، كالبيضة تماماً، في أثناء سير الأرض حول الشمس، وعلى هذا المسار إذا اقتربت من نصف القطر الصغير قَلَّت المسافة بينها وبين الشمس، وتعلمون أن قانون الجاذبية يتناسب مع الكتلة والمسافة، فإذا قَلَّتْ المسافة ازداد الجذب، فبديهي أن الأرض حينما تقترب من الشمس في هذا المكان الذي قطره صغير لا بد من أن تنجذب إلى الشمس، ما الذي يحصل؟ ترفع الأرض من سرعتها، وكأنها عاقلة، ترفع هذه السرعة لينشأ من هذه السرعة الزائدة قوة نابذة تكافئ القوة الجاذبة كيف؟ لو حملت وعاء ماء وملأته ماء، ودورته، الماء لا يسقط، لماذا؟ لأنك حينما تدير هذا الوعاء ينشأ من هذا الدوران قوة نبذ بعيدة عن المركز، فالماء لا يسقط، فالأرض حينما تصل إلى هذه المرحلة الحرجة، والتي يخشى منها أن تنجذب إلى الشمس ترفع سرعتها، حيث ينشأ من هذه السرعة الإضافية قوة نبذ استثنائية تكافئ قوة الجذب الاستثنائية، فتبقى في مسارها، وهي مادة غير عاقلة. لماذا رفعتْ من سرعتها؟ ولماذا تابعتْ سيرها؟ لأن هناك إدراكًا بالجذب القوي، لأن هناك خالقًا يسيّرها اسمه اللهُ، لكن الشيء اللطيف لو أنّ هذه الأرض رفعت سرعتها فجأة لانهدم كل ما عليها، لكن الحكمة البالغة أن التسارع بطيء، ليبقى كل شيء في مكانه، تماماً لو وضعت بضع علب في شاحنة، وأقلعت فجأة تقع العلب، أو وقفت فجأة تقع العلب.
الآن الأرض تمشي، وصلنا إلى القطر الأعظم، المسافة طالت بينها وبين الشمس، والجاذبية ضعفت، يوجد خطر من تفلت الجاذبية للشمس، الآن خطر آخر، نوع آخر، أول خطر هو خطر الانجذاب إلى الشمس، والأرض إذا ألقيت في الشمس تبخرت في ثانية واحدة، الخطر الثاني خطر التفلت من جاذبية الشمس، فإذا سارت الأرض في الفضاء الكوني أصبحت الحرارة مئتين وسبعين تحت الصفر، ولمات كل ما على الأرض، برودة لا تحتمل!! خطر الانجذاب إلى الشمس بالاحتراق، الآن: الأرض في هذا المكان الثاني تبطئ من سرعتها لينشأ من بطء السرعة ضعف في قوة النبذ يكافئ ضعف الجاذبية، فتبقى في مسارها. لا بد لهذا المسار والمسير من قدرة إلهية محكمة بحركة الأرض، الآن التسارع بطيء والتباطؤ بطيء، وهذا يعبر عن اسم "اللطيف". تركب طائرة، الطيار يهبط بخط انسيابي، وهناك طيار ينزل بك بالطائرة، وكأنك في درج .
لو أن الأرض تفلتت من جاذبية الشمس، وسارت في الفضاء الكوني، وأردنا أن نرجعها فلا بد من مليون مَليون حبل تربط بها إلى الشمس، ومن المعلوم أن أمتن حبل في الكون هو الفولاذ المضفور، ونحن من أجل أن نعيد الأرض إلى مسارها حول الشمس لا بد من أن نربطها بمليون مليون حبل فولاذي، قطر كل حبل خمسة أمتار، والمعلوم أن الحبل الفولاذي قطره خمسة أمتار يحمل مليوني طن، قوى الشد في هذا الحبل تساوي مليوني طن، نحن الآن سنغرس مليون مليون حبل على سطح الأرض كي نشدها إلى الشمس، لو زرعنا هذه الحبال لفوجئنا أنه بقي بين كل حبل وحبل مسافة حبل واحد، نحن أمام غابة من الحبال تعيق الحركة، والبناء، والطرق، وتعيق ضوء الشمس، إذاً ستنتهي الحياة، لكن حكمة الله أنه رفع السموات بغير عمد ترونها، بقوى تجاذب!!!
معنى ذلك أن الأرض مرتبطة بالشمس باثنين مليون ضرب مليون مليون، هذه قوة جذب الشمس للأرض، كل هذه القوة من أجل أن تحرف الأرض ثلاث مليمترات كل ثانية، هذا الشكل الإهليلجي الذي هو مسارها حول الشمس. هذا معنى قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾.