قال الله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ ، الإنسان لا يخلو من أن يكون أباً، أو موظفاً، أو أخاً أكبر، لا يخلو أحدكم من أن تكون له وِصايةٌ أو إشرافٌ أو ولايةٌ على من هم دونه ولو كانوا أولاده. إذاً هذا الموضوع نحنُ جميعاً بحاجة إليه موضوع المشاورة، فقد أمرَ الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بالمشاورة في الأمرِ الذي يحتاج إلى المشاورة، إذا إنسان أراد أن يشرب كأسَ ماء فهذه لا تحتاج إلى مشاورة، أمّا إذا أراد شراء محل تجاري يا ترى موقعه مناسب؟ سعره مناسب؟ هل عليه مشاكل؟ هذا الأمر يحتاج إلى مشاورة، وبالمناسبة ما نَدِمَ من استشار ولا خابَ من استخار، والمشاورة لأُولي العقولِ من المؤمنين - أُولي الخبرات - والاستخارة لله عزّ وجل. قال: فإذا عَزَمَ قلبه على الفعلِ وعلى إمضائِهِ بعدَ المشاورةِ فليمضِ وليتوكل على الله سبحانه وتعالى.
أمرَ الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُشاوِرَ أصحابَهُ أهلَ الرأي والتدبير في الأمورِ، مع أنَّ عقلهم بالنسبة إلى عقلِهِ الشريف كالسُهى بالنسبة إلى شمسِ الضُحى، السُهى: نجم ضئيل جداً يكاد لا يُرى بالنسبة إلى شمس الضُحى، ومع ذلك صاحب العقلِ الذي كشمس الضُحى أُمِرَ أن يستشير صاحب العقلِ الذي كالسُهى.. لماذا؟
- تطييب لنفوسهم: الزوج الحكيم يستشير زوجته وأولاده، والمدير الحكيم يستشير كِبار الموظفين عنده، وأي إنسان له ولاية على بعض الأشخاص في بعض الأمور يستشيرهُم، حتى إذا دخلوا في ذلك الأمر، ومضوا فيهِ كالحرب وأمثالِها، يكون ذلك عن طيبِ نفوسِهم واختيارِهم، النبي الكريم استشار أصحابه الكِرام في بدر قال: أشيروا عليَّ يا معشر الأنصار ما قولُكُم؟ قال أحدهم- سيدنا سعد- لكأنكَ تعنينا؟ قال: نعم، قال: يا رسول الله لقد آمنا بِكَ وصدقّناك وشهدِنا أنَّ ما جِئتَ بهِ هو الحق فامضِ بِما أراكَ الله، نحنُ معك لن يتخلّف منا رجلٌ واحد، إنّا لصُبرٌ في الحربِ، صُدقٌ عندَ اللقاء، فحارب من شِئت وسالم من شِئت، وعادِ من شِئت، وخُذ من أموالِنا ما شِئت، فو الذي تأخذُهُ أحبُّ إلينا من الذي تُبقيه، فامضِ على بركة الله... النبي الكريم شاور أصحابه في هذه المعركة، طيّبَ قلوبهم، رفع من مكانتهم، أشعرهم بقيمتهم، عرّفهم بمهمتِهم.
- الاستظهار برأيهم: بمعنى أنَّ رأيهم الموافق لرأيهِ صلى الله عليه وسلم يزدادُ به النبي الكريم قوةً، إن كان لكَ رأيٌ سديد واستشرت إنساناً آخر وأشار عليك بما أنتَ قد فكرت فيه فهذا مما يزيدُ رأيكَ صلابةً وقوةً وقناعةً، إذا أمضيتهُ تُمضيهِ عن ثِقةٍ أشد، قال عليه الصلاة والسلام لأبي بكرٍ وعُمر: لو اجتمعتُما في مشورةٍ ما خالفتُكُما .
- أن تكون الاستشارة سُنةً من بعدِهِ لأمتِه: فقد عَلِمَ الله تعالى ما برسول الله صلى الله عليه وسلم حاجةٌ إليهم، ولكن أرادَ أن يستنَّ المسلمون من بعدِهِ هذه السُنّة الطيبة، أن تطلُبَ الاستشارة، لما نزلت (وشاورهم في الأمر) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أما إن الله ورسوله لغنيان عنها، ولكن جعلها الله رحمة لأمتي، فمن استشار منهم لم يعدم رشدا، ومن تركها لم يعدم غيا))، الله ورسولُهُ غنيانِ عن المشورة ولكنَّ أي إنسان آخر بعد النبي الكريم بحاجةٍ ماسّةٍ جداً لهذه المشورة.
- في المشاورةِ تقديراً للمستشار واعتباراً لمنزلِتِهِ: وإعطاءً له حرية الرأي والنظر، وبهذا يشعر المستشار أنَّ له اعتباراً وشأناً، وأنَّ عليه مسؤوليةً ينبغي أو يؤديّها حقها ناصِحاً صادقاً، بِخلاف الاستبدادِ للرأي في مواضع الاستشارة فإنه يجعلُ الموجودين من عقلاء الرجال كالمفقودين، ويجعلُ المختارين كالمُكرهين، من دون استشارة العقلاء كأنّكَ تعُدُّ وجودهم لاغياً كأنهم غير موجودين، فإذا أحسّوا هذا الإحساس انقلبوا إلى أعداء، لذلك كان عليه الصلاة والسلام يُكثرُ مشاورة أصحابِهِ، فقد روى الشافعي رضي الله عنه: ((مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ مَشُورَةً لأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)) .
- في المشاورة استعراضاً للآراء: أحياناً تسمع رأي اثنين وثلاثة وأربعة مختلفين وكل رأي يلفت نظرك إلى جِهة لم تكُن في بالِك، هذا التصرف مُفيد لكن له مضاعفات سيئة من هذه الناحية، فالمشاورة تُقلّب لكَ الرأي على كُلِّ وجوهِهِ، تعرض لكَ الوجه الطيب والصورة السيئة، النواحي الإيجابية والنواحي السلبية، ((إن المشير معان والمستشار مؤتمن فإن استشير أحدكم فليشر بما هو صانع لنفسه)) ، إنسان له عقل استعار عشرة عقول من دون مقابل، في بعض الآثار يقولون: "نقِّحوا عقولكم بالمذاكرة واستعينوا على أُمورِكُم بالمشاورة".
والمستشار يجبُ أن يكونَ أميناً على الاستشارة، محترماً، ناصحاً، ثابِتَ الجأشِ، غيرَ معجبٍ بنفسِهِ، ولا متلوّناً في رأيِهِ، ولا كاذباً في مقالِهِ، متغالياً في محبة الأمرِ المُستشار فيه، ولا متجرّداً عن الدنيا فإنه لا يُستشار في أمر الدنيا لعدم معرفتِهِ. أردت أن تعمل في التجارة فذهبت وسألت ابن عمٍ لك وهو بعيد عن التجارة بعداً شديداً، ولا يعرف شيئاً في التجارة، يجب أن تسأل إنساناً في المصلحة نفسها، في السوق نفسه، في الموضوع ذاته، أمّا إذا سألت إنساناً صاحب دين لكن لا توجد لديه الخِبرة فلن يفيدك إذاً يجب أن تبحث عن الخبير المؤمن، لو كان خبيراً غير مؤمن، قال لي أخ أراد أن يعمل بعمل متعلّق بالحلويات: ذهبَ وسأل فأول محل أجابه بأنَّ هذه المصلحة مُفقرة وناشفة وغير طعامك لا تُحصّل، أقسم بالله أنه سأل أربعة محلات فأعطوه أخباراً سيئة جداً، أنا أعرف أنَّ هذا الكلام له غرض، وأنَّ هؤلاء يربحون أرباحاً طائلة، وأنَّ هذا الكلام لِئلا يدخل أحدٌ جديد على هذه المصلحة، أرسلته إلى أخ مؤمن في المصلحة نفسِها وقُلتُ له: استشر فُلاناً، فكان الجواب بالعكس، قال له: هذه مصلحة جيدة، وأرباحُها جيدة، وطلبُها ثابت، وموادُها الأولية متوافرة، والعملية بسيطة، المؤمن أشار بما هو صانِعٌ لنفسِهِ أمّا المُشرِك الذي رأى أنَّ هذا سوف يُخلّصهُ رِزقهُ.. هذا إشراك بالله عزّ وجل.. فأعطى معلومات مغلوطة، فلذلك إيّاكَ أن تستشير فاسقاً أو منافقاً أو مُشرِكاً، وإيّاكَ أن تستشيرَ جاهلاً، لابُدَّ من صفتين تجتمعان في المُستشار: الخِبرةُ والأمانة: ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ وإيّاكَ أن تستشيرَ بخيلاً، مثلاً تسأله بطبع كروت للمحل يقول لكَ: لا ليسَ هناك حاجة، فالبخيل يُشير عليك بما لا ينفعُكَ.. هذه قاعدة.
إذاً: المستشار مُؤتمن وله في حالات نادرة أن يمتنع عن إعطاء رأي فيما لو كان في هذا الرأي إضرار بالغ للمستشار ، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((المستشار مؤتمن وهو بالخيار إن شاء تكلّم وإن شاء سكت، فإن تكلّم فليجتهد رأيه)) أحياناً تُستشار بشيء لو أنكَ أشرتً بما تعرف للحِقَكَ من هذه الاستشارة ضرر كبير.. حالات نادرة.. سألَكَ هل أفعل هكذا؟ فلكَ أن تسكُت، أمّا إذا تكلّمت فيجب أن تنطق بالحق، وكُل إنسان يُشير خِلاف ما هو صانع لِنفسه فقد خانَ صاحِبهُ.. الاستشارة أمانة.. لكن هناك حالات مُعيّنة تستطيع أن تمتنع عن إعطاء الرأي أكثرُ هذه الحالات في التجارة، وبعضُها في التعليم، وبعضُها في القضاء.
قبل أن تُقدِمَ على عملٍ ما تبدأ بالاستشارة، والمستشار يجب أن يجمع بينَ شيئين الخِبرة والأمانة، الخبرة في الموضوع، والأمانة بأوسع معانيها الدينية، فإذا أشارَ عليكَ أن افعل هذا الأمر عُدْ إلى الله عزّ وجل واستخرهُ، صلِّ ركعتين وقُل: يا ربي إن كان هذا الأمر فيه خيرٌ لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري فاقدرهُ لي ويسّرهُ لي، وإن كان خِلافَ ذلك فاصرفني عنه واصرفهُ عني واقدُر ليَ الخيرَ حيثُ كان، الإنسان في هذا الدعاء مع التوجّه الصادق، مع الإقبال، مع الركعتين المُخلصتين، لعلَّ الله عزّ وجل يُريه مناماً أو يشرح صدرهُ أو يقبِض صدرَهُ. يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار)) ، تبدأ بالاستشارة وتختم بالاستخارة، الاستشارة لأصحاب الخِبرةِ من المؤمنين الصادقين الأُمناء، والاستخارة لله عزّ وجل، ولكن من أجل أن تعرف الحقيقة لا استشارة ولا استخارة في المحرّمات، فقط في المباحات ؛ في الزواج، في التجارة، في السفر، في هذه الموضوعات المُباحة هناك استشارة وهناك استخارة، لكن إنساناً أراد أن يستشير شخصاً في شُرب الخمر مثلاً ليست واردة.. أو بأكل مال حرام، أو برشوة، أو باغتصاب منزل مثلاً، يقول: والله لنأخذ رأي إنسان مؤمن!! هذا كلام مُضحك، لا استشارة ولا استخارة في المُحرّمات بل في المباحات وليست المباحات مثلاً تناول طعام الغذاء.. هل آكل؟.. هذه أشياء تافهة.. الاستشارة في المباحات التي لها مضاعفات، أي لها توابع، الزواج له توابع، التجارة لها توابع، إنشاء معمل صغير له توابع، كان معك مئة أصبحوا آلة.. تجمدوا.. إذا لم يكن الأمر قد تمّت دراسته بشكل جيد فتكون قد أضعت رأس مالِك في آلة ليس لها ثمن، أصبحت كتلة حديد، فالاستشارة في المباحات والاستشارة قبل الاستخارة، والمستشار يجب أن يكونَ من أصحاب الخِبرةِ، من عقلاء المؤمنين.