بحث

المشاورة و الحكم المستنبطة منها

المشاورة و الحكم المستنبطة منها

بسم الله الرحمن الرحيم

المشاورة : 

      لعل من أبرز شمائل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم المشاورة حيث قال الله تعالى : ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ 

      الإنسان لا يخلو من أن يكون أباً، أو موظفاً، أو أخاً أكبر، لا يخلو أحدكم من أن تكون له وِصايةٌ أو إشرافٌ أو ولايةٌ على من هم دونه ولو كانوا أولاده. 

      إذاً هذا الموضوع نحنُ جميعاً بحاجة إليه موضوع المشاورة، فقد أمرَ الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بالمشاورة في الأمرِ الذي يحتاج إلى المشاورة، إذا إنسان أراد أن يشرب كأسَ ماء فهذه لا تحتاج إلى مشاورة، أمّا إذا أراد شراء محل تجاري يا ترى موقعه مناسب ؟ سعره مناسب ؟ هل عليه مشاكل ؟ هذا الأمر يحتاج إلى مشاورة. 

      قال صلى الله عليه وسلم:(( ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار)) 

      والمشاورة لأُولي العقولِ من المؤمنين - أُولي الخبرات - والاستخارة لله عزّ وجل . 

      فإذا عَزَمَ قلب المؤمن على الفعلِ وعلى إمضائِهِ بعدَ المشاورةِ فليمضِ وليتوكل على الله سبحانه وتعالى .  

الحكم المستنبطة من مشاورة النبي أصحابه : 

أولا: تطييب لنفوسهم : 

      أمرَ الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُشاوِرَ أصحابَهُ أهلَ الرأي والتدبير في الأمورِ، مع أنَّ عقلهم بالنسبة إلى عقلِهِ الشريف كالسُهى بالنسبة إلى شمسِ الضُحى، السُهى : نجم ضئيل جداً يكاد لا يُرى بالنسبة إلى شمس الضُحى، ومع ذلك صاحب العقلِ الذي كشمس الضُحى أُمِرَ أن يستشير صاحب العقلِ الذي كالسُهى.. لماذا ؟  

      قال : أولاً لِحكمٍ كثيرة أحدُها : تطييبُ نفوسِهم، الزوج الحكيم يستشير زوجته وأولاده، والمدير الحكيم يستشير كِبار الموظفين عنده، وأي إنسان له ولاية على بعض الأشخاص في بعض الأمور يستشيرهُم، حتى إذا دخلوا في ذلك الأمر، ومضوا فيهِ كالحرب وأمثالِها، يكون ذلك عن طيبِ نفوسِهم واختيارِهم، النبي الكريم استشار أصحابه الكِرام في بدر قال : أشيروا عليَّ يا معشر الأنصار ما قولُكُم ؟  

      قال أحدهم- سيدنا سعد-  لكأنكَ تعنينا ؟  

      قال : نعم  

      قال : يا رسول الله لقد آمنا بِكَ وصدقّناك وشهدِنا أنَّ ما جِئتَ بهِ هو الحق فامضِ بِما أراكَ الله، نحنُ معك لن يتخلّف منا رجلٌ واحد، إنّا لصُبرٌ في الحربِ، صُدقٌ عندَ اللقاء، فحارب من شِئت وسالم من شِئت، وعادِ من شِئت، وخُذ من أموالِنا ما شِئت، فو الذي تأخذُهُ أحبُّ إلينا من الذي تُبقيه، فامضِ على بركة الله...  

      النبي الكريم شاور أصحابه في هذه المعركة، طيّبَ قلوبهم، رفع من مكانتهم، أشعرهم بقيمتهم، عرّفهم بمهمتِهم.  

ثانيا: الاستظهار برأيهم : 

      بمعنى أنَّ رأيهم الموافق لرأيهِ صلى الله عليه وسلم يزدادُ به النبي الكريم قوةً، خطَرَ في بالِكَ خاطر فسألت أخاً مُخلصاً فقال لك مِثلَ ما خَطَرَ في بالِك فتتأكد أنت وتقوى، تتأكد من صِحة رأيك، إن كان لكَ رأيٌ سديد واستشرت إنساناً آخر وأشار عليك بما أنتَ قد فكرت فيه فهذا مما يزيدُ رأيكَ صلابةً وقوةً وقناعةً، إذا أمضيتهُ تُمضيهِ عن ثِقةٍ أشد، قال عليه الصلاة والسلام لأبي بكرٍ وعُمر : لو اجتمعتُما في مشورةٍ ما خالفتُكُما  

ثالثا: أن تكون الاستشارة سُنةً من بعدِهِ لأمتِهِ : 

      فقد عَلِمَ الله تعالى ما برسول الله صلى الله عليه وسلم حاجةٌ إليهم، ولكن أرادَ أن يستنَّ المسلمون من بعدِهِ هذه السُنّة الطيبة، أن تطلُبَ الاستشارة،  

      وقد رُويَ : ((عن ابن عباس قال : لما نزلت (وشاورهم في الأمر) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما إن الله ورسوله لغنيان عنها، ولكن جعلها الله رحمة لأمتي، فمن استشار منهم لم يعدم رشدا، ومن تركها لم يعدم غيا)) 

      الله ورسولُهُ غنيانِ عن المشورة ولكنَّ أي إنسان آخر بعد النبي الكريم بحاجةٍ ماسّةٍ جداً لهذه المشورة . 

رابعا: في المشاورةِ تقدير للمستشار واعتبار لمنزلِتِهِ : 

      أنَّ في المشاورةِ تقديراً للمستشار واعتباراً لمنزلِتِهِ وإعطاءً له حرية الرأي والنظر، وبهذا يشعر المستشار أنَّ له اعتباراً وشأناً، وأنَّ عليه مسؤوليةً ينبغي أن يؤديّها حقها ناصِحاً صادقاً، بِخلاف الاستبدادِ للرأي في مواضع الاستشارة فإنه يجعلُ الموجودين من عقلاء الرجال كالمفقودين، ويجعلُ المختارين كالمُكرهين، من دون استشارة العقلاء كأنّكَ تعُدُّ وجودهم لاغياً كأنهم غير موجودين، فإذا أحسّوا هذا الإحساس انقلبوا إلى أعداء، لذلك كان عليه الصلاة والسلام يُكثرُ مشاورة أصحابِهِ، فقد روى الشافعي رضي الله عنه : (( مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ مَشُورَةً لأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )) 

خامسا: في المشاورة استعراض للآراء : 

      أنَّ في المشاورة استعراضاً للآراء، أحياناً تسمع رأي اثنين وثلاثة وأربعة مختلفين وكل رأي يلفت نظرك إلى جِهة لم تكُن في بالِك، هذا التصرف مُفيد لكن له مضاعفات سيئة من هذه الناحية، فالمشاورة تُقلّب لكَ الرأي على كُلِّ وجوهِهِ، تعرض لكَ الوجه الطيب والصورة السيئة، النواحي الإيجابية والنواحي السلبية، عن عائشة رضي الله عنها قال : ((عن عائشة بلفظ : إن المشير معان والمستشار مؤتمن فإن استشير أحدكم فليشر بما هو صانع لنفسه )) 

      إنسان له عقل استعار عشرة عقول من دون مقابل، عوّد نفسكَ أن تستشير في كُل قضية، اسأل عقلاء، اسأل خبراء، اسأل أُولي خِبرة، اسألهم سؤالاً، هل أشتري هذه الحاجة ؟ هل أشتري هذا البيت ؟ أحياناً هناك بيت عليه قص يكون ثمنه خمسمئة ألف فيُباع بـأربعمئة و خمسين فتجده فرصة، اسأل.... وجدَ عليه قص فتمَّ تسعيره بمئة ألف ذهبت عليك الأربعمئة ألف، فالإنسان يسأل في شِراء بيت، أو في زواج، أو في أي نشاط له مضاعفات، المستشير مُعانٌ والمُستشار مؤتمن فإذا أُستُشيرَ أحدُكم فليُشر بما هو صانعٌ لِنفسِه، في بعض الآثار يقولون :  " نقِّحوا عقولكم بالمذاكرة واستعينوا على أُمورِكُم بالمشاورة"  

صفات المستشار : 

      العلماء بيّنوا أنَّ المستشار يجبُ أن يكونَ أميناً على الاستشارة، محترماً، ناصحاً، ثابِتَ الجأشِ، غيرَ معجبٍ بنفسِهِ، ولا متلوّناً في رأيِهِ، ولا كاذباً في مقالِهِ، متغالياً في محبة الأمرِ المُستشار فيه، ولا متجرّداً عن الدنيا فإنه لا يُستشار في أمر الدنيا لعدم معرفتِهِ.  

      أردت أن تعمل في التجارة فذهبت وسألت ابن عمٍ لك موظف وهو بعيد عن التجارة بعداً شديداً، ولا يعرف شيئاً في التجارة، يجب أن تسأل إنساناً في المصلحة نفسها، في السوق نفسه، في الموضوع ذاته، أمّا إذا سألت إنساناً صاحب دين لكن لا توجد لديه الخِبرة فلن يفيدك إذاً يجب أن تبحث عن الخبير المؤمن، لو كان خبيراً غير مؤمن، قال لي أخ أراد أن يعمل بعمل متعلّق بالحلويات : ذهبَ وسأل فأول محل أجابه بأنَّ هذه المصلحة مُفقرة وناشفة وغير طعامك لا تُحصّل، أقسم بالله أنه سأل أربعة محلات فأعطوه أخباراً سيئة جداً، أنا أعرف أنَّ هذا الكلام له غرض، وأنَّ هؤلاء يربحون أرباحاً طائلة، وأنَّ هذا الكلام لِئلا يدخل أحدٌ جديد على هذه المصلحة، أرسلته إلى أخ مؤمن في المصلحة نفسِها وقُلتُ له : استشر فُلاناً، فكان الجواب بالعكس، قال له : هذه مصلحة جيدة، وأرباحُها جيدة، وطلبُها ثابت، وموادُها الأولية متوافرة، والعملية بسيطة، المؤمن أشار بما هو صانِعٌ لنفسِهِ أمّا المُشرِك الذي رأى أنَّ هذا سوف يُخلّصهُ رِزقهُ.. هذا إشراك بالله عزّ وجل.. فأعطى معلومات مغلوطة، فلذلك إيّاكَ أن تستشير فاسقاً أو منافقاً أو مُشرِكاً، وإيّاكَ أن تستشيرَ جاهلاً، لابُدَّ من صفتين تجتمعان في المُستشار :  

      الخِبرةُ والأمانة، قال تعالى: ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾ 

      وإيّاكَ أن تستشيرَ بخيلاً، مثلاً تسأله بطبع كروت للمحل يقول لكَ : لا ليسَ هناك حاجة، فالبخيل يُشير عليك بما لا ينفعُكَ.. هذه قاعدة، وعن أبي مسعودٍ أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : (( المستشار مؤتمن وهو بالخيار إن شاء تكلّم وإن شاء سكت، فإن تكلّم فليجتهد رأيه)) 

      أحياناً تُستشار بشيء لو أنكَ أشرتً بما تعرف للحِقَكَ من هذه الاستشارة ضرر كبير.. حالات نادرة.. سألَكَ هل أفعل هكذا ؟ فلكَ أن تسكُت، أمّا إذا تكلّمت فيجب أن تنطق بالحق، ولكَ أن تسكُت، أحياناً بالتجارة، والتجارة سِر، أحياناً تكون أنت تعمل بمصلحة ما و قد اشتريت ما يلزمك وسألكَ إنسان ليشتري مثلما اشتريت، فإن نصحتهُ بعدم الشراء - لا تشتر أنا اشتريت مثلها - فيُمكن أن يظُن عكس ذلك، أحياناً الكلام له مضاعفات، وفي حالات نادرة وقاهرة وحساسة لك أن تسكُت، لكنكَ إذا تكلمت لا ينبغي أن تقول إلا الحق، أمّا هُناك أُناس ينصحونكَ بشيء خِلاف مصلحتك، تاجر ناشئ سوف يُزاحِمُكَ على هذه المصلحة وسألَكَ بنفسٍ رضيّة وطيبة فأشرت عليه بنوع من البضاعة غالية الثمن وليست لها طلب إطلاقاً، واشترى كميات كبيرة ووضعها في المستودع، ولم تُباع معه فجعلته يُفلّس، كُل رأسُ مالِهِ وضعه في هذه المصلحة ولم تُباع معه، أنت في هذه الطريقة أخرجته من المصلحة.. هذه خيانة..، أي إذا كان هُناك حالات قاهرة فيها حرج أباح لكَ الشرع أن تسكُت، أمّا أن تقول غلطاً فهذه خيانة.  
      قال : شاهد على أنَّ الإنسان أحياناً يحقُ له أن يمتنع عن إعطاء رأي، طالب سألك على أن يدرس هذا الموضوع وأنت قد وضعت السؤال، إذا قُلت له : لا تدرسه فهو سيأتي في الفحص فتكون قد ضللته، وإن قُلت له بأن يدرسه وجاء في الفحص وقال الطالب أنا أخذت من الأستاذ السؤال فسوف يُدمِرُكَ... هذه ليست استشارة... تقول له : لا أعرف، حيث أنك تمتنع عن إبداء الرأي، أمّا إن تكلّمت فليس لك الحق أن تُضلله، فأكثر الناس الآن في الاستشارة إذا كان له مصلحة في الموضوع يُضللهُ، هذا المنزل مثلاً نفسهُ فيه فيجعله يكره المنطقة كلها، فكُل إنسان يُشير خِلاف ما هو صانع لِنفسه فقد خانَ صاحِبهُ.. الاستشارة أمانة.. لكن هناك حالات مُعيّنة تستطيع أن تمتنع عن إعطاء الرأي أكثرُ هذه الحالات في التجارة، وبعضُها في التعليم، وبعضُها في القضاء.  

      إذاً : المستشار مُؤتمن وله في حالات نادرة أن يمتنع عن إعطاء رأي فيما لو كان في هذا الرأي إضرار بالغ للمستشار.  

على الإنسان أن يبدأ بالاستشارة ويختم بالاستخارة : 

      يقول عليه الصلاة والسلام : (( ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار)) 



المصدر: الفقه الإسلامي - موضوعات متفرقة - الدرس 24 : خروج التائب من المظالم المادية - شمائل النبي