الصَّبر كما قال عليه الصلاة والسلام نصف الإيمان ، الإيمان نصفٌ صبرٌ، ونصْفٌ شكرٌ، فالصبر من الإيمان كالرأس من الجسد فإذا ذهب الصبر ذهب الإيمان.
والصَّبر أساسه المعرفة، فإذا عرفْت أنّ الله سبحانه وتعالى رحيمٌ بك، وخلقكَ لِيُسْعِدَك فإذا رآك قد حِدْتَ عن الطريق الذي يؤدِّي إلى سعادتك ساقَ لك من الشَّدائد ما يُعيدُك إلى الطريق الصحيح، فالصَّبر معرفة، ولن تكون صابرًا إلا إذا كنتَ عارفًا، فإذا عرفْت الله، وعرفْت حبَّه، وعرفْت حِرْصهُ ورحمتهُ، ولماذا خَلَقَكَ؟ وعرفْت أنّ هذه الدُّنيا دار عمل، فإذا جَعَلتها دار أمل لا بد من عِلاج، وإذا علمْت أنّ هذه الدنيا دار تكليف وجعلتها دار تَشريف فلابدّ من عِلاج، إذا عرفْت أنَّ الدنيا دارَ سَعي والآخرة دار جزاء فعَكَسْت الآية لابدَّ من عِلاج، فالإنسان متى يُعالج؟ ومتى يقسو الأب على ابنِهِ؟ لا يمكن لأبٍ يرى ابنهُ على الطريق الصحيح، وفي الاتِّجاه الصحيح، وفي السرعة المناسبة ويقسُو عليه، ويؤكِّدُ هذا قوله تعالى: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وءَامَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾.
فلمّا الإنسان تأتيه الشدائد، والشدائد أنواع منوَّعة، هناك شدائد نفْسِيَّة، وهناك شدائد جسدِيَّة كالأمراض، وشدائد ضيق في الدَّخْل، وشدائِد ألم، وشدائِد قهر، وشدائِد فقد الحُريَّة، أنواع الشدائد أنواع منوَّعة، ويجب أن تعلمَ عِلْم اليقين أنَّ الله سبحانه وتعالى لا يسوقها إلا لِحِكمةٍ بالغة لو كُشِفَتْ لك لذابَتْ نفسُكَ محبَّةً لهذا الربّ العظيم، والمؤمن يعرف هذا الكلام، والمؤمن الصادق يقيس على ما قد سلف، أيَّةُ مشكلةٍ ساقها الله إليك انتَهَت بثَمَرةٍ طيِّبة، قد يكون هناك انْحِراف طفيف، وسوء ظنٍّ بالله تعالى، شِرْكٌ خفيّ، اعْتِماد على غير الله، وطَمَع في الدنيا، وطمأنينة لها، تأتي المشكلة لِتُطَهِّر النَفس مِمَّا علِقَ بها من حبّ الدنيا، يُرْوى أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام زار أحد أصحابه وكان مريضًا فقال هذا الصحابيّ المريض: " يا رسول الله اُدع الله أن يرْحمني؟ فقال: يا ربّ ارْحَمْهُ؟ فقال الله عز وجل: وعِزَّتي وجلالي لا أقبضُ عبْدِيَ المؤمن وأنا أحِبّ أن أرحمَهُ إلا ابتَلَيْتُهُ بكلّ سيّئةٍ كان عملها سُقْمًا في جسَدِه، أو إقْتارًا في رزقه، أو مصيبة في ماله أو ولده، حتى أبلغَ منه مثل الذرّ فإذا بقِيَ عليه شيءٍ شدَّدْتُ عليه سكَرات الموت حتى يلْقاني كيَوْم ولدَتْهُ أُمُّه "
إذا تابعَ عبْدهُ المؤمن بِعِقابٍ إثْرَ كلّ مَعْصِيَة لكان هذا العبدُ مكرَّمًا عند الله عز وجل، فإذا تركَهُ هملاً فهذه هي الإهانة، الإهانة أن يدَعَكَ وانْحِرافَكَ من دون معالجة، ولكنَّ التَّكريم أن يُتابِعَك على كلّ ذَنْب تقترفهُ عُقوبةً أو ضيقًا أو شِدَّة.
إنَ الصَّبر عِلم، والإنسان لن يصبر إلا إذا كان عالمًا بالله عز وجل، حينما ترى الأب يُضيِّقُ على ابنِهِ، فأنت كأبٍ آخر تعرف أنّ هذا رحمة ولُطف وعَطف وشفقَة وحِرص، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ .
ما أرْوَعَ المؤمن حينما تأتيه الشِّدَة فيقول: يا ربّي لك الحمْد، وأنا راضٍ بِحُكْمك، أليْسَ النبي عليه الصلاة والسلام قدوتنا في هذا الموضوع؟ ألم يذهب إلى الطائف مَشْيًا على قدَمَيْه؟ ألمْ يلْقَ من أهل الطائف ردًّا قبيحًا واسْتهزاءً وكُفرًا وتكذيبًا؟ ألم يضيِّق عليه أهل الطائف ويرجئوه إلى الحائط؟ أما دعا عليه الصلاة والسلام قائلاً: " اللَّهم إنِّي أشْكو إليك ضَعْف قوَّتي وقلَّة حيلتي وهواني على الناس، يا ربّ المستضعفين إلى من تكلني؟ إلى عدوٍّ ملَكْتهُ أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضبٌ فلا أُبالي، ولك العتبى حتى ترضى، ولكنَّ عافيتَكَ أوسَعُ لي " هذا هو حال المؤمن، والنبي الكريم قُدوَةٌ لنا، لا تخْلو حياة أحدنا من شدَّة، قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَريبٌ﴾، قال تعالى:﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ من ظنَّ أنَّه يُبْتلى أو لا يُبْتلى فقد ضلَ وأخطأ، الصحيح أنَّهُ لابدَّ من أن نُبْتَلى، وإنَّ الله سبحانه وتعالى جعَلَ هذه الحياة الدنيا دار ابْتِلاء وامْتِحان، المركبة لا تُمتحَن في الطريق النازلة، مهما كانت المركبة ضعيفةً، ففي الطريق النازلة تُسْرع، ولكنَّ المركبة لا تمْتحن إلا في الطريق الصاعدة، وكذا الإنسان لا يُمْتحنُ بالرَّخاء فجَميع الناس يشكرون الله سبحانه وتعالى، ولكنَّ البُطولة أن تشكرهُ في الشِّدة، قال الإمام عليّ كرَم الله وجهه: " الرِضا بِمَكروه القضاء أرْفَعُ درجات اليقين " البُطولة وأنت في الضِّيق المادّي تقول: يا ربّ لك الحمد مِن أعماق أعماقك، والبطولة في ساعة الشِدة، وأنت في الضِّيق، وأنت في الهمّ والحزن، يا أرحم الراحمين بِرَحْمتِكَ أسْتغيث، يا ذا الجلال والإكرام بِرَحمتك أسْتغيث، اللهمّ إنِّ عبدك، اللهمّ أنت خلقتني وأنا عبدك، أبوء بذنبي، حالة المؤمن حالةٌ راقيَة.
لا بدّ أن تعرفوا أنَّ الصَّبْر نصف الإيمان، والصَّبر تمامًا يُشبه مريضًا جالسًا على كرسي طبيب أسنان، هذا المريض الواعي الراشد والواعي والعاقل مع أنَّ آلامًا مبرِّحة في الأسنان حين الحَفر، وفي أثناء المعالجة، لكنَ هذا المريض يضْغط على يدَيْه ويحْتملُ الآلام، وفي النِهاية يشْكر الطبيب لأنَه يعلمُ علم اليقين أنَ هذا الذي يؤلِمُه هو في مَصْلحته.
مرَةً أنّ أحد الأعراب كان يطوف بالبيت وهو يقول: يا ربّ هل أنت راضٍ عنِّي؟! كان خلفهُ الإمام الشافعي فقال له: ي هذا، هل أنت راضٍ عن الله حتى يرضى عنك؟! فقال: يا سبحان الله! من أنت؟ فقال: أنا الشافعي، فقال: وكيف أرضى عنه وأنا أتمنَى رِضاه؟ قال: إذا كان سرورك بالنِّقمة كَسُرورِكَ بالنِّعمة فقد رضيت عن الله! هذه هي البطولة، البُطولة عند الصَّدمة الأولى، وعندما يأتي الخَبَرَ المؤْلِم، هذا فعلُك، وفِعلكَ لا يخلو من حكمة بالغة، هذه إرادتك، وهذه مشيئتك، وهذا قضاؤُك، وأنا راضٍ به، والله كلمةُ: أنا راضٍ بهذا القضاء تعْدلُ الدنيا وما فيها ؛ لأنَّ هذه الكلمة امْتِحان، وقد نَجَحْت في هذا الامتِحان، وسوف يمضي كلّ شيء، الخَير سيَمضي، والضِّيق سيَمْضي، وتبقى هذه الكلمة التي قلتها معبِّرًا بها عن امْتِنانك، وعن رضاك بِقَضاء الله، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: " إذا أحبَّ الله عبده ابتلاه، فإن صبَرَ اجْتباه، وإن شكر اقْتَناهُ " معنى هذا أنِّي غالٍ عليك يا ربّ، ومعنى هذا أنَّك لم تنْسَني، ومعنى هذا أنَّك تحبّني، ومعنى هذا أنَّه لولا حرصك عليّ لما ضيَّقْت عليّ، ومعنى هذا أنَّك تريد أن تُقوِّمَ سُلوكي، ومعنى هذا أنَّك تريد أن تقرِّبني إليك، ومعنى هذا أنَّك تبتغي بِيَ مقامًا أعلى مِن مقامِي بهذه المصيبة.