هناك تلازماً ضرورياً بين التدين الصحيح والخلق القويم، حدد النبي صلى الله عليه وسلم الغاية الأولى من بعثته، والمنهج الأمثل لدعوته، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ)) فالهدف الأول لدعوته هو إرساء البناء الأخلاقي للفرد والمجتمع، لأنه ثمن سعادة الدنيا والآخرة، والوسيلة هي التعليم لا التعنيف، قال صلى الله عليه وسلم: ((علموا ولا تُعنِّفوا، فإن المعلم خير من المُعنِّف)) والمتتبع لنصوص القرآن الكريم، وللسنة المُطهرة الصحيحة يجد ذلك التلازم الضروري بين التدين الصحيح والخلق القويم، فالإيمان أساس الفضائل ولجام الرذائل وقوام الضمائر، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن أحسن الناس إسلاماً أحسنهم خلقاً، وأن أكملهم إيماناً أحسنهم خلقاً، وأن من أحبِ عباد الله إلى الله أحسنهم خلقاً، وأن من أقرب المؤمنين مجلساً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة أحسنهم خلقاً، وأن خير ما أُعطي الإنسان خلق حسن، وأنه ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وأن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم، بل إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة، والخلق الحسن يُذيب الخطايا كما يُذيب الماء الجليد، والخلق السوء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل .
التواضع في حقيقته، رؤية صحيحة لعظمة خالق الأكوان، وشعور واقعي بضعف الإنسان، وسلوك أصيل أساسه الانضباط والإحسان، فهو مظهر لعبودية الإنسان تجاه خالقه، ونتيجة لرؤية افتقاره لفضله، وليس سلوكاً ذكياً، أساسه مصلحة راجحة، ولا ضعفاً نفسياً أساسه توهُّم باطل، أو رؤية ضبابية، وليس تقصيراً، أو إهمالاً، أو إساءة. إنه فضيلة الفضائل، وهو بين دناءة الذلِّ وغطرسة الكبر، ((ليس كل مُصَلٍّ يصلي، إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي...)) والتواضع في أدق تعاريفه: خضوع العبد لسلطان الحق، والانقياد له، والدخول تحت مظلته، ومن تكبر عن الانقياد للحق، أذله الله، وصغّره وحقّره، ومن تكبَّر عن الانقياد للحق، ولو جاءه من صغير أو بعيد أو عدو فإنما تكبّره على الله، فإن الله هو الحق، وكلامه حق، ودينه حق، والحق صفته، والحق منه، والحق إليه، وحينما عرَّف النبي صلى الله عليه وسلم الكبر فقال إنه: ((الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ ـ أي جحد الحق ـ وَغَمْطُ النَّاسِ)) أي احتقارهم وازدراؤهم، وعرَّف التواضع بقاعدة " مفهوم المخالقة "، أي إنه الخضوع للحق، وإنصاف الناس لهذا قيل: من عرف نفسه عرف ربه، ومن لم يعرف نفسه فهو مغرور، ومن نظر بعين المعرفة إلى سلطان الله، فني عنه سلطان نفسه، ومن نظر إلى عظمة ربه صغرت عنده نفسه، وقهرت تحت جلال هيبته.
المؤمنون قوم فرَّغ الله قلوبهم من الكبر، وجعل رحيق محبته مشروبهم، وأطال على باب خدمته وقوفهم، وجعل رضاه وقُربه مطلوبهم، وغضبه وبعده مخوفهم، فهم من خشيته مشفقون، ومن هيبته مطرقون، إن تواضعوا فلرفعته، وإن تذللوا فلعزته، وإن طمعوا ففي فضله، وإن خضعوا فلعظمته، إلى الله افتقارهم وبالله افتخارهم، وإلى الله استنادهم، هو كنزهم، وعزهم، وفخرهم، وذخرهم، ومعبودهم، ومقصودهم. هذه بعض المنطلقات النظرية، لخلق التواضع، ولكن أين هي التطبيقات العملية؟ إن هذا الانفصال بين المُثُل النظرية، والواقع العملي، بين ما ينبغي أن يكون وبين ما هو كائن، يرفضه الإسلام أشد الرفض، لقد رفع الإسلام الواقع إلى مستوى المثل، وشد المثل لتكون واقعية، فصار ما في الإسلام يسمى بالواقعية المثالية، أو المُثُل الواقعية. إليكم أنموذجاً واقعياً من خلق التواضع عند النبي صلى الله عليه وسلم:
لقد كان صلى الله عليه وسلم جمَّ التواضع، وافر الأدب، يبدأ الناس بالسلام، وينصرف بكله إلى محدثه، صغيراً كان أو كبيراً، ويكون آخر من يسحب يده إذا صافح، وإذا تصدق وضع الصدقة بيده في يد المسكين، وإذا جلس جَلس حيث ينتهي به المجلس، لم يُرَ ماداً رجليه قط، ولم يكن يأنف من عمل لقضاء حاجته، أو حاجة صاحب أو جار، فكان يذهب إلى السوق، ويحمل حاجته بيده ويقول: أنا أولى بحملها، وكان يجيب دعوة الحرِّ والعبد والمسكين، ويقبل عذر المعتذر، وكان يرفو ثوبه، ويخصف نعله، ويكنُس داره، ويخدم نفسه، ويعقل بعيره، وكان في مَهنة أهله، وكان يأكل مع الخادم، ويقضي حاجة الضعيف والبائس، وكان يمشي هوناً خافض الطرف، متواصل الأحزان، دائم الفكرة، لا ينطق من غير حاجة، طويل السكوت، إذا تكلم تكلّم بجوامع الكلم، وكان دمثاً ليس بالجاحد، ولا المهين، يعظم النِّعم، وإن دقَّت، ولا يذمُّ منها شيئاً، ولا يذمُّ مذاقاً، ولا يمدحه، ولا تُغضبه الدنيا، ولا ما كان منها، ولا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها، إذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، كان يؤلِّف ولا يُفرق، ويُقرّب ولا يُنفّر، يكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، يتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، يُحسِّن الحسن ويصوّبه، ويُقبِّح القبيح ويوهِّنه، لا يُقصِّر عن حق، ولا يجاوزه ولا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه، من سأله حاجة لم يرده إلا بها، أو ما يَسّره من القول، كان دائم البشر، سهل الخُلق، لين الجانب، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخَّاب، ولا فحّاش، ولا عيّاب، ولا مزّاح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يُخيِّب فيه مؤمله، وكان لا يذم أحداً، ولا يعيِّره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يُرجى ثوابه، يضحك مما يضحك منه أصحابه، ويتعجب مما يتعجبون، ويصبر على الغريب وجفوته، في مسألته ومنطقه، لا يقطع على أحدٍ حديثه حتى يجوزه... والحديث عن شمائله لا تتسع له المجلدات، ولكن الله جل في علاه، لخَّصها في كلمات فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ فمن عنايته بأصحابه، وتواضعه لهم:
- دخل النبي صلى الله عليه وسلم بعض بيوته، فدخل عليه أصحابه حتى غصَّ المجلس بأهله وامتلأ، فجاء جرير البجلي، فلم يجد مكاناً فقعد على الباب، فنزع رسول الله صلى الله عليه وسلم رداءه، وألقاه إليه، فأخذه جرير، ووضعه على وجهه، وجعل يقبِّله، ويبكي، وأعاده إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ما كنت لأجلس على ثوبك، أكرمك الله كما أكرمتني، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم يميناً وشمالاً، وقال: ((إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ))
- وعن عدي بن حاتم أنه قال: لما دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم ألقى إلي وسادة من أدم محشوٍّ ليفاً، وقال: اجلس عليها، فقلت: بل أنت فاجلس عليها، قال: بل أنت، فقال عدي: فجلست عليها، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأرض، فقلت: أشهد أنك لا تبغي علواً في الأرض ولا فساداً.. وأسلم عدي بن حاتم.
- وفدَ وفدُ النجاشي على النبي صلى الله عليه وسلم فقام يخدمهم بنفسه، فقال أصحابه: نحن نكفيك القيام بضيافتهم وإكرامهم، فقال صلى الله عليه وسلم إنهم كانوا لأصحابنا مُكرمين، وأنا أحب أن أكافئهم.
- وكان صلى الله عليه وسلم يمرُّ على الصبيان فيسلم عليهم، وكانت الأمة ( الطفلة الصغيرة) تأخذ بيده فتنطلق به حيث شاءت، لقد كان هين المؤنة لين الخُلق، كريم الطبع جميل المعاشرة، طلق الوجه، بساماً متواضعاً من غير ذلة، جواداً من غير سرف رقيق القلب، رحيماً بكل مسلم خافض الجناح للمؤمنين، ولين الجانب لهم.
- كان صلى الله عليه وسلم في سفر فأمر أصحابه بإصلاح شاة ذُبحت، فقال رجل: عليَّ سلخها، وقال آخر: عليَّ ذبحها، وقال صلى الله عليه وسلم " وعليَّ جمع الحطب " فقالوا: يا رسول الله، نحن نكفيك العمل، قال: ((قد علمت ذلك، ولكنني أكره أن أتميز عليكم، وإن الله يكره من عبده أن يراه متميزاً على أصحابه))
- ما من موقف ينزلق فيه صاحبه إلى الكبر، والاستعلاء، والغطرسة، والعنجهية، كأن يفتح مدينة مستعصية ناصبته العداء أمداً طويلاً. لقد دخل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً متواضعاً لله، ذاكراً لفضله، حتى أن ذؤابة عمامته كادت تلامس عنق بعيره من شدة تواضعه وشكره، هذا هو تواضعه صلى الله عليه وسلم.