اختيار الرسل اصطفاء من الله لهم :
يا أيها الأخوة, بما أنَّ الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم وسلامه مكلفون برسالة عليهم أن يُبلغوها, ولاسيما الرسل فلا بُدَّ من صفات تتوافر فيهم، فالرسل قبل كل شيء مصطفون من قِبل الله جلَّ وعلا بالوحي, أي الرسالة اصطفاء من الله سبحانه وتعالى لأهلية الرسل, وبما أنَّ الرسول مبلغّ عن الله علوم شريعته وأحكامه لخلقــه، وبما أنَّ الرسول قد حمل مهمة الدعوة إلى الله, وإلى صالح العلم بالأسلوب الحكيم، وبما أنَّ الرسول مصدّق من قِبل الله جلَّ وعلا بالمعجزة، والمعجزة تصديق من الله ورسوله، وبما أنَّ الرسول قدوة حسنة يتأسى بها في عمله, وفي خلقه, ويُهتدى بهديه، وبما أنَّ الرسول مُطاع بإذن الله متبع بأمر الله، وبما أنَّ الرسول قائد أمته ومدبّر سياستها الدينية والدنيوية, لهذه الأسباب كلها يجب أن تتوافر في الرسول صفات لا بد من توافرها .
صفات الرسل بالإجمال :
من هذه الصفات, علّو الفطرة وصحة العقل والصدق في القول والأمانة في تبليغ ما عٌهد عليه تبليغه, والعصمة من كل ما يشوه السيرة البشرية, وسلامة البدن مما تنفر منه الأذواق السليمة، وقوة الروح بحيث لا تستطيع نفس إنسانية أو جنية أن تسطو عليه سطوة روحانية, لأن الله يُمده دائماً بمدد منه, وهذه الصفات إن شاء الله تعالى سوف نُفصّلها واحدةً واحدة، لكن فيما عدا ذلك فهو بشر, كيف؟
أنهم يأكلون ويشربون, وما أروع القرآن حينما وصف بشرية سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم كان يأكل الطعــام ويمشي في الأسواق, فالذي يأكل الطعام ليس إلهاً إنه مفتقر إلى تناول الطعـام، ونحن جميعاً مفتقرون إلى شرب كأس ماء، وإلى تناول الطعام، إنه مفتقر إلى كسب الطعام، فأنت مُفتقر إلى الطعام وإذا جلست في البيت سوف تجوع، ولا بُدَّ من أن تخرج لتكسب رزقاً تشتري به طعامك، وهاتان الصفتان كافيتان لأن تكون بشراً وليس فوق البشر، فالأنبياء بشر,
قال تعالى : ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾
من علائم بشرية رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه يأكل ويشرب وينام، فهو يحتاج إلى النوم، لماذا النوم؟ فأنا بشر أحتاج إلى النوم, كل إنسان يحتاج إلى النوم, لكن من قضى عمره بالنوم أتى يوم القيامة مفلساً، أمّا أن ينام ويتزوج إذ يوجد في نفسه حاجة إلى نصفه الآخر كما يقولون: هذه حاجة ثابتة في الأنبياء أيضاً، فالنكاح من سُنة النبي عليه الصلاة والسلام, وإنه يمرض، والمرض من صفات البشر, وقد ينسى
اللهم إني بشر أنسى كما ينسى البشر
و قال عليه الصلاة والسلام: قَالَ إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلا يَأْخُذْهَا
أنه ينسى فيما لا علاقة له بتبليغ ما أمره الله أن يبلغه، ولا ينسى أوامر التبليغ فهذه تتناقض مع عصمته,
قال الله : ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى﴾
وقد تمتد إليه أيدي الظلمة, ألم يرد في القرآن الكريم أنّ الكفار قد اعتدوا على الأنبياء فقتلوهم,
قال الله : ﴿وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾
لأنهم بشر, إلا إذا عصمهم الله عزّ وجل من القتل بنص من القرآن الكريم,
قال الله: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾
أكثر المفسرين على أنه معصوم من أن يغتاله بشر, أي النبي محمد عليه الصلاة والسلام, وهذه الصفات التي تمتُّ إلى بشريته بصلة لا تنقص من قدره كنبي, ولا تقلل من مكانته عند الله عزّ وجل،
إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ
وهذه الصفات تؤكد في الأنبياء عبوديتهم لله عزّ وجل .
صفات المرسلين عليهم الصلاة والسلام بالتفصيل :
لو أردنا أن نأخذ الصفات التي يجب أن تتوافر في الرسل عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام كان في مقدمة هذه الصفات:
أولاً: الفطانة :
الفطانة بمعنى الذكاء، أي ما كان الله عزّ وجل ليرسل رسولاً إلى خلقه لا يتصف بالفطانة، فالفطانة صفة لازمة للأنبياء, مادام الله سبحانه وتعالى قد اصطفاهم، وما دام الله سبحانه وتعالى قد كلفهم تبليغ رسالاته, وبما أنَّ الله سبحانه وتعالى قد كلفهم بنشر دينه فلا بد من أن يعطيهم مع هذا التكليف ما يعينهم على نشر الرسالة, لا بد من أن يكون النبي الرسول أعلى كل أصحابه ذكاءً حتى يستوعبهـــم، وحتى يستطيع توجيههم، وحتى يعرف إمكاناتهم, ولذلك فالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم كان يجمع كل صفات الكمال, فهذا سيدنا خالد كان شجاعاً, إذن هو سيف الله, وهذا سيدنا أبو عبيدة كان أميناً, إذن أبو عبيدة أمين هذه الأمة, وكان سيدنا علي مدينة العلم, وكان سيدنا معاذ, والله يا معاذ إني لأحبك كان محبوباً, وكل صحابي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتصف بصفة يتميز بها, لكن النبي عليه الصلاة والسلام, جمع كل صفات الكمال,
قال الشاعر :
و أحسن منك لم تر قط عيني وأجمل منك لم تلد النسـاء
خٌلقت مبرءاً من كل عيــب كأنك قد خُلقت كما تشــاء
محمدٌ بشرٌ وليس كالبشــر لأنه ياقوتة والناس كالحجر
لو أن هذا النبي العظيم عليه أتم الصلاة والتسليم قيست إمكاناته الفكرية بمقاييسنا المعاصرة, لكان من أعلى البشر إدراكاً وفطانة وحسن تصرف واستيعاباً وحفظاً ومحاكمة وقياساً وإلقاءً، و لا يوجد إنسان يستطيع أن يقود إلا أن يكون على مستوى عالٍ من الذكاء, ولو أن الإنسان محدود لا يستطيع أن يقود نفسه قبل أن يقود الآخرين, أي يكون له تأثير على الآخرين بإمكانات محدودة وهذا شيء مستحيل, وهذا مثل قريب: فمن منا يستطيع أن تُتلى عليه سورة البقرة فيحفظها من أول مرة؟ هذا فوق طاقة البشر، النبي عليه الصلاة والسلام إذا جاءه الوحي يحفظه فوراً, وهذا أعلى مستوى في الذكاء، حَفَظَة القرآن يقول لكَ: يوجد متشابهات, والله احترت غفور رحيم أو رحيم ودود, تجده أثناء الحفظ أو أثناء القراءة أو أثناء الصلاة يقع في إشكالات، أمّا النبي عليه الصلاة والسلام لم ينس شيئاً من كتاب الله أبداً، هذه من فطانته عليه الصلاة والسلام، وبهذه الفطانة يعرف ما أنزل إليه، و يعرف المضمون، والنبي عليـه الصلاة والسلام بيّن للناس ما نُزل إليهم عن طريق السنّة المطهرة التي هي أصلٌ ثانٍ من أصول الشريعة الإسلامية,
قال الله في القرآن الكريم : ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾
السنّة المطهرة وحيّ غير متلو، فالنبي الكريم, يجب أن يعرف مدلولات الآيات الكريمة بشكل دقيق حتى يفسرها, فأحكام العدة، وأحكـام الطلاق، وأحكام الزواج، وأحكام الصلاة، و أحكام الصيام، وأحكــام الحج، وأحكام الزكاة، وأحكام البيوع، هذه التفصيلات الشديدة، هنالك 80 حديث في البيوع مأخوذة من آية واحدة,
قال الله : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ﴾
التراضي صار له أحكام: لا يكون فيه تدليس، ولا يكون فيه غش، ولا يكون فيه غبن بالسعر ، ولا فيه غبن بأشياء أخرى، ولا جهالة في الثمن، وجهالة بالقيمة، والتسليم, وأحاديث كثيرة جداً في البيوع كُلُها مستنبطة من آية واحدة، أحاديث الصيام مستنبطة من آية الصيام, وأحكام المواريث .
يجب أن تكون فطانته مُعينة له على فهم هذا الوحي الذي جاءه من عند الله، و حفظ ماأنزل إليه من كلام الله، ووسيلة لنقل هذه الرسالة, وهذا الكتاب الكريم إلى الناس، ووسيلة لإلقاء الحق بحكمةٍ بالغة، والآيات التي تشهد له بالفطانة،
يقول الله عز وجل : ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ ﴾
هذه إشارة من الله عزّ وجل إلى فطنته أو فطانته,
وفي آية أخرى : ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾
و كأنه فَهِمَ على الله عزّ وجل كل ما يريد, ولذلك فربنا عزّ وجل قال له: انتظر, اصبر, حينما تنزل الآية .
مشاهد من فطنت النبي محمد صلى الله عليه وسلم مع أصحابه :
مثال1: سأله أحد أصحابه, ماذا ينجّي العبــد من النار؟
فقال عليه الصلاة والسلام: الإيمان بالله, قال يا رسول الله: أَمع الإيمان عمل؟
قال: أن تعطي مما أعطاك الله, قال: فإن كان لا يجد ما يعطي؟
قال: أن تأمر بالمعروف وأن تنهى عن المنكر, الحديث طويل,
فقال له: أما تريد أن تترك لصاحبك من خير, ليكف أذاه عن الناس, قال: إن فعل هذا دخل الجنة؟
فقال عليه الصلاة والسلام:أّيما عبدٍ يصيب خصلة من هذه الخصال إلا أخذت بيده حتى تدخله الجنة
يعني كل خصلة إذا طبقتها تنقلك إلى أعلى منهـــا, وهكذا إلى أن تدخل الجنة، ويوجد توجيهات نبوية دقيقة جداً،
مثال2: حينما بلغ النبي عليه الصلاة والسلام أن الأنصار قد وجدوا عليه في أنفسهم, الآن هو قائد وعقب المعركة هناك أناس فُتنوا أي غضبوا، ووجدوا عليه في أنفسهم،
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا فِي قُرَيْشٍ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِمُ الْقَالَةُ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا الْحَيَّ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ قَسَمْتَ فِي قَوْمِكَ وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَامًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الأَنْصَارِ شَيْءٌ
قَالَ فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَنَا إِلا امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي
وَمَا أَنَا قَالَ فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ قَالَ فَخَرَجَ سَعْدٌ فَجَمَعَ النَّاسَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ قَالَ فَجَاءَ رِجَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ فَدَخَلُوا وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدَّهُمْ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ قَدِ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الأنْصَارِ
قَالَ فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ ثُمَّ قَالَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلالاً فَهَدَاكُمُ اللَّهُ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ قَالُوا بَلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ
قَالَ أَلا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ قَالُوا وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ
قَالَ أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ وَمَخْذُولاً فَنَصَرْنَاكَ وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ وَعَائِلاً فَأَغْنَيْنَاكَ أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلامِكُمْ أَفلا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الانْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِحَالِكُمْ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَتِ الأنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الأنْصَارِ وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ قَالَ فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ وَقَالُوا رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ قِسْمًا وَحَظًّا ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَرَّقْنَا
هذا موقف فيه منتهى الفطانة, كادت أن تحدث فتنة فطوّقها اللهم صلِ الله عليه وأنهاها، كان فطناً، أي كان إدراكه ومعالجته للأمر من أعلى مستوى،
مثال3: وكان أحدهم يقول له: عظني, فينظر إليه فيقول له: لا تغضب وكأنه أدرك أنه يعاني من الغضب الشديد، يقول له آخر عظني يقول له: قل آمنت بالله ثم استقم، فكل صحابي جليل أو كل رجل سأله يعطيه ما يناسبه
وهذه من علائم الفطنة التي كان النبي عليه الصلاة والسلام يتمتع بها .
مشاهد من فطنت النبي الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام :
الأنبياء أيضاً فطنون ،
مثال1: فسيدنا إبراهيم,
قال الله عنه: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ﴾
أوتي الحجة، أنت تقدر أن تناقش خصماً عنيداً؟ فهل تصمد في نقاش دقيق جداً من واحد مثقف ثقافة عالية يريد أن يُطفئ نور الله عزّ وجل؟ فإذا كان عندك حُجة قوية فهذه صفة طيبة في المؤمن, فإذا كنت مؤمناً صادقاً فيجب أن يكون معك شيءٌ من هذه الحُجة، أو معك حُجة قوية،
فالنمرود مثلاً, قال له: من ربك يا إبراهيم؟ ﴿رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾
أعطاه صفة دقيقة يُحيي ويُميت " فأجابه النمرود: أنا أحيي وأميت, فمن كان محكوماً بالإعدام أعفو عنه فقد أحييتهُ، وأُحضر إنساناً وأقوم بقتله، وكان من الممكن أن يقوم سيدنا إبراهيم بتفنيد هذه الحُجة، أي أنت لا تُحييه من العدم، فإذا عفوتَ عنه فليس هذا حياةً بالمعنى الدقيق، لكن من فطانته عليه الصلاة والسلام ما أراد أن يدخل مع النمرود في نقاش سفسطائي بل تركه, وقال له: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾
إذا أردت أن تُناقش إنساناً فلا تبدأ بحُجة ضعيفة مُركبة تحتاج إلى توضيح, وإلى شواهد .
مثال2: سيدنا نوح أيضاً,
قال الله : ﴿قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ﴾
أي ضاقوا به ذرعاً, و كأنه غلبهم بالحجة فلم يتمكنوا, وليس من السهل أن تواجه قوماً بأكملهم بحجة ناصعة وتغلبهم بها, فهذه الصفة، صفة الفطنة أو الفطانة, وبالتعبير الحديث الذكاء أو سرعة الفهم، ودقة المحاكمة، وحسن التكيّف، أي أن تصـل إلى كل أهدافك بأيسر السبل، وأن تحقق أعلى مردود بأقل جهد، هذه من تعريفات الذكاء, و هذه كلها من لوازم أو من دلائل الذكاء والفطنة والفطانة, وهل يرسل الله عزّ وجل رسولاً أقل ذكاءً من أذكى رجل في الأمة؟ مستحيل, وبالمناسبة فصعب على إنسان أقل ذكاء أن يقود من هو أكثر ذكاء، إذ تجده دائماً يكشفه، وأحياناً يقوم بتفنيد أغلاطه، أو يُشوّه سمعته أمام الآخرين، أو يقوم بتحجيمه أمام الآخرين, فيطرح عليه سؤالاً لا يستطيع أن يجيب عليه فتجده أصبح صغيراً، فكيف يقود إنسان أمة, وهو قليل الذكاء؟ كان صلى الله عليه وسلم سيد العلماء وكان جميع أصحابه الكرام يطأطؤون له رؤوسهم في مجلسه تعظيماً له بالحق، وليس بالقهر لما عنده من صفات .
ثانياً: العصمة :
ثبت أن الرسول ( أي رسول ) هو المثل الأعلى لأمته, والذي يجب الاقتداء به في اعتقاداته وأفعاله وأقواله وأخلاقه, وهو الأسوة الحسنة بشهادة الله له, و لذلك وجب أن تكون اعتقاداته وأفعاله وأقواله وأخلاقه الاختيارية موافقة لطاعة الله عزّ وجل، ووجب ألا يدخل في شيء من اعتقاداته وأفعاله وأقواله وأخلاقه معصية لله تعالى, فالنبي قدوة حسنة، ومثل أعلى، وأسوة صالحة، فهل يكون في أقواله أو أفعاله أو أخلاقه خطأ أو معصية ؟ هذا مستحيل, لأنه قدوة, مكلّف برسالة, ومكلف أن يقتدي الناس به في أقواله وأفعاله وأخلاقه ومعتقداته, والله سبحانه وتعالى أمر الأمم بالاقتداء برسلهم, فإذا أمكن أن يفعل الرسل المعاصي, كان معنى الأمر أن يتخذوهم أسوة في المعاصي, وهذا مستحيل في حق الله سبحانه وتعالى، لأن الله سبحانه وتعالى لا يأمر بالفحشاء،
قال الله : ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾
الأنبياء معصومون في معتقداتهم وأخلاقهم وأقوالهم وأفعالهم, فتعريف السنّة المطهرة : ما صح عنه من أقوال وأفعال وإقرار، يعني إذا كان واحد فعل أمامه شيئاً فسكت النبي عليه الصلاة والسلام فسكوتهُ يُعد إقراراً, وفِعلُ هذا الصحابي من السُنة المُطهرة لأنه سكتَ عنه النبي عليه الصلاة والسلام إذ لا يعقل أن يسكت عن خطأ، فالعصمةٌ إذاً في هذا المعنى حِفظُ أوامر الله تعالى من مخالفتها وحفظ نواهيه من الوقوع بها، لا يُعقل أن يعصي أمراً ولا أن يفعل معصيةً، فإذا قال الله لهُ افعل: فلا يُعقل أن لا يفعله، وإذا قال له لا تفعل: فلا يُعقل أن يفعله، وهذا معنى أولي مبسّط من معاني العصمة، والدليل
قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾
أسوة حسنة في مطعمه، ومشربه، ومسكنه، وملبسه، وزواجه، وعلاقته بجيرانه، وفي سلمه، وحربه، و توجيهه، و في صلاته و صيامه،
وأما في حق جميع الرسل, قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ ﴾
هذه ( فِي ) تعود على الرسل جميعاً .
آية ثالثة, تأمرنا أن نتبع الرسل فهم الأسوة الحسنة : ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
ومن الأدلة القاطعة على معنى العصمة التي هي صفة أساسية من صفات الأنبياء,
قول الله عزّ وجل : ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾
بالعفو عنك, و( ما تأخر) بوقايتك من الوقوع به، فإذا أعطيت إنساناً مصباحاً , وأمرته أن يسير في طريق مظلم ذات حفر وعقبات, فإن هذا المصباح يقيه الوقوع في الحفر ويقيه الارتطام بالعقبات, فكأنك بهذا المصباح جعلته لا يقع, فهذا معنى الآيه .لأنكَ مستنيرٌ بنور الله عزّ وجل فلن تقع في ذنبٍ في المستقبل .
من لوازم العصمة التي هي صفة أساسية بحق الأنبياء والرسل, العصمة عن الكتمان والتحريف: فكتمان الحق معصيةٌ في الدعوة إلى الله عزّ وجل، والتحريف أيضاً معصيةٌ في الدعوة إلى الله عزّ وجل، فالنبي عليه الصلاة والسلام معصوم عن الكتمان وعن التحريف وعن الخطأ والغلط والنسيان فيما أمره الله بتبليغه للناس، وهذه أيضاً من لوازم العصمة التي هي صفة أساسية, لأنه لو لم يكن معصوماً عن ذلك لم يكن أهلاً للاصطفاء بالرسالة, ولأثر ذلك في أصل مهمة البعثة, ولانعدمت الثقة بما يبلغه عن الله من شرائع وأحكام وأخبار وغيرها، وعلى مستوى اللغة العربية إذ كان الإنسان حُجة في اللغة, وكان من عادته أن يُخطأ في النحو والصرف، فلم يعد حُجّة, وصار كلامه غير حُجة, ونُفيت عنه أن يُحتجَّ بِهِ، فالنبي لا يمكن أن يعتقد عقيدة تُخالف الحق الذي أمرَ الله به، فهو في أحاديثه لا يكذب الله عزّ وجل , كيف؟
الله عزّ وجل أمر بشيء, فهل يُعقل أمرهُ أن يكون مخالفاً لأمر الله عزّ وجل؟ لأن هذا يتنافى مع أصل النبوة ومهمة الرسالة، ولا يمكن أن تتعرض أفعال الرسول وأقواله وسيرته للمعاصي سواءً أكانت كبيرة أم صغيرة, لأن هذا يتنافى مع كونه أسوة حسنة, ويتعارض هذا مع الأمر بالاقتداء به واتباعه, ولو كانت كذلك لما كانت أفعاله وأقواله حجة شرعية على أمته,
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أمثّل بهم فيمثّل الله بي ولو كنت نبياً
ثالثاً: الصدق :
فحينما وقف سيدنا جعفر رضي الله عنه أمام النجاشي, وقال له:
أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام, ونأكل الميتة, ونأتي الفواحش, ونقطع الرحم, ونسيء الجوار, ويأكل القوي منا الضعيف, حتى بعث الله فينا رجلاً نعرف أمانته وصدقه وعفافه ونسبه
فالصدق من أبرز صفات الرسل عليهم السلام, ولا يرفع الإنسان عند الله بشيء إلا إذا كان صادقاً معه, وصادقاً مع نفسه, وصادقاً مع الناس,
قال عليه الصلاة والسلام : يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلالِ كُلِّهَا إِلا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ
فقد يكون المؤمن حادّ الطبع، وقد يكون المؤمن كثير الإنفاق، وقد يكون المؤمن مائلاً إلى الانطواء، وقد يكون المؤمن محباً للاختلاط، كل هذه الصفات لا تقدح في كرامة المؤمن ولا في مكانته, فالمؤمنون طباع,
قال عليه الصلاة والسلام : الحدة تعتري خيار أمتي
أما أن يكون المؤمن كاذباً أو خائناً فهذا يتنافى مع إيمانه, لا يجتمع إيمان وكذب, ولا إيمان وخيانة, فالصدق صفة بارزة من صفات الأنبياء عليهم السلام, وهي من أبرز صفات المؤمن, لماذا؟ لأن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين, فإذا اصطفى الله إنساناً بالوحي, وكلفه تبليغ رسالاته للناس, وزوده بالمعجزة التي تشهد بصدقه أنه رسول .
هل يعقل أن يكذب الرسول ؟
فهل يُعقل أن يكذب الرسول؟ اصطفاه الله, وهو العليم الخبير, اصطفاه الله بالوحي وكلفه تبليغ رسالاته للناس وأيّده بالمعجزات التي تؤكد صدقه, أفيعقل بعد هذا أن يكذب؟ فهذا شيءٌ في علم العقائد مستحيلٌ عقلاً، من الذي اختاره؟ العليم الخبير، فلو أنه كذب على الله لكان اختيار الله غير صحيح, إذاً هذا الذي اصطفاه الله وأيّده وكلّفهُ بالتبليغ لا يُعقل أن يكذب .
الرسول مؤيد بالمعجزة, فلو كذب قبل المعجزة لكانت المعجزة تأييداً للكذب, ولو كذب بعد المعجزة لكانت المعجزة تأييداً للكذب, وهذا الذي أمسك العصا فإذا هي ثعبان مبين, فما معنى هذا؟ أيها الناس, إني رسول الله فإذا نطق بالكذب قبلها أو بعدها, فالمعجزة أصبحت تأييداً للكذب, وهذا مستحيل عقلاً, ولا يليق بحضرة الله سبحانه وتعالى أن يصطفي رسولاً يكذب عليه, ولا يعقل أن يكذب النبي على ربه، ولا أن يُكذّبه, فالرسول في العقيدة الصحيحة التي يجب أن يعلم بالضرورة أن يكون صادقاً قطعاً في كل ما يبلغ عن ربه,
لذلك فسيدنا سعد قال:
ثلاثة أنا فيهن رجل, وفيما سوى ذلك فأنا واحد من الناس, ما سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علمت أنه حق من الله تعالى, انتهى الأمر, من عند الخبير، من عند العليم، الخالق، الذي لا يغفل، الغني، رب العالمين، ولا سِرتُ جنازة فحدثت نفسي بغير ما تقول حتى أنصرف منها، ولا دخلت في صلاة فشغلتُ نفسي بغيرها حتى أقضيها, وفيما سِوى ذلك فأنا واحد من الناس
لو أن الرسول كذب في موضوعات غير شرعية ليس لها علاقة بالدين كعلاقته مع زوجته في بيته، أو مع أقربائه و جيرانه، فهذا الكــذب في موضوعات لا علاقة لها بالدين يسبب الشك في رسالته كلهــا، فالذي يكذب في علاقته مع الآخرين يكذب عن الله عزّ وجل ، ولذلك لا تثبت رسالة الرسول إلا بالصدق، وإياك أن تسمح لنفسك أن تعتقد أنَّ رسول الله يكذب في أمور, لا علاقة لها بالدين أبداً, لا تثبت رسالة الرسول إلا بالصدق في كل أحوال النبي عليه الصلاة والسلام، حتى أن الإيماء ليس من أخلاق الأنبياء، أي يقوم بغمز واحد افعل كذا، فهذا الإيماء كأنهُ في شيء ظاهر وشيء باطن,
المعجزة دليل صدق للأنبياء :
سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، أشار في خطابه إلى فرعون بأنه شاهد المعجزة, وهذه المعجزة دليل صدقه في النقل عن ربه, هذه المعجزات التي تأتي بها الأنبياء, هي دليل صدقهم وأنهم رسل من عند الله : ﴿وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾
شهادة الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام بأنه لا ينطق عن الهوى :
وربنا عزّ وجل شهد لهذا النبي المصطفى عليه أتم الصلاة والتسليم،
قال : ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾
فعلماء قالوا : هناك وحيٌ متلو, وهو القرآن، وهناك وحي غير متلو, وهو ما صح من الحديث الشريف,
إذا تكلم المؤمن خلاف ما يعتقد من الحق فقد خان رسالة الله :
إذا تشرّف إنسان ) فالله عزّ وجل رفعه وشرّفهُ ( في أن يدعو إلى الله, فلو أنه تكلم بخلاف قناعاته، ولو أنه سكت عن حقيقة يعرفها, أو بالغ في حقيقة أو قصّر عن إلقاء الحق، فقد خان الرسالة وخان الأمانة،
قال الله عزّ وجل : ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً﴾
لو أن أحداً قال لك: هذه حرام, وأنت تعلمها حراماً, وأردت ألا تزعجه، وألا تحرجه, وأن تبقى لك معه مصالح، وأن تنتفع منه، فقلت له: لا, هذه حلال فقد سقطت من عين الله عزّ وجل؟ لأن يسقط أحدنا من السماء إلى الأرض فتتحطم أضلاعه أهون من أن يسقط من عين الله, يجب ألا تأخذك في الله لومة لائم وأن تنطق بالحق, وكلمة الحق لا تقطع رزقاً ولا تقرّب أجلاً .
ينبغي على المسلم أن يكون كلام الله فوق كل شيء :
وقد قال لي أحدهم مرة: سعر كل سيارة هبط بمقدار 200 ألف ليرة، فإذا عمل إنسان تصريحاً صغيراً يُغيّر أسعار كل الحاجات، وربنا عزّ وجل خالق الكون ومنزل القرآن الكريم ستمئة صفحة فيه وعد ووعيد، وإنذار و إعذار، وتوضيح و تصريح, ألا يستحق خالق الكون أن تصدقه وأن تطيعه ؟ لو خاف الناس من ربهم كما يخافون من بعضهم لدخلوا الجنة , إذاً تعلم أن هذا الإنسان إذا قال فعل: وهو يملك أن يؤذيك, وقال: هذا ممنوع, فهل تفعله؟ لا والله لا تفعله, كيف تسمح لنفسك أن تصدق إنساناً وأن تطيعه, ولا تفكر في أن هذا القرآن من عند الله, وفيه أوامره ونواهيه ما لَكَ أين أنت؟
لذلك قال الإمام الجنيد: ليس الولي من يفعل خوارق العادات ولكن الولي من تجده عند الأمر والنهي في الملمات
فالله عزّ وجل السميع البصير، بيده كل شيء,
قال الله : ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾
هل من المعقول أن يكذب رسول الله ويتركه الله من دون عقاب ؟
لو أنّ رسوله كذب عليه, أيتركه هكذا؟ ويقول أحدهم: والله ما عندي علم سمعتها من إنسان، لم يبلغني ذلك أنه كَذَبَ عليّ هكذا سمعتها، أمّا خالق الكون,
قال الله : ﴿سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾
﴿ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ﴾
ولو أنَّ نبيه كَذَبَ عليه أيتركه سُدى؟
قال الله : ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴾
لو تكلم كلمة واحدة من عنده لعاقبه الله عزّ وجل, ولكَشفَ هذا الكلام الذي لا يُطابق الرسالة، ولما طلب المشركون من النبي عليه الصلاة والسلام أن يأتي بقرآن غير هذا القرآن, أو يبدّل فيه الآيات التي تمسُ معتقداتهم .
الأدلة من الكتاب على نفي الكذب من الرسل :
قال الله: ﴿ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي ﴾
هذا شيء مستحيل,
قال تعالى: ﴿ مَا يَكُونُ لِي﴾
من أشد أنواع النفي ﴿أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي ﴾
قال الله : ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾
أنا متبع,
قال تعالى: ﴿ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ ﴾
هذه وظيفتي وهذا قدري, ولا أستطيع أن أزيد فيه ولا أن أنقص منه, ولا أن أبدل، ولا أن أٌغيّر، ولا أن أُعطل, هذه أمانة التبليغ, و الذين يذهبون إلى مقام النبي المصطفى عليه أتم الصلاة والتسليم, ماذا يقولون في حضرته: أشهد أنك بلّغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة وكشفت الغمة ومحوت الظلمة وجاهدت في الله حق الجهاد وهديت العباد إلى سبيل الرشاد
قال تعالى : ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ﴾
ما هي علاقة المؤمن بموضوع الأنبياء في نفي الكذب عنهم ؟
قد يقول قائل: الأنبياء لا يكذبـون, هم صادقون مصدّقون مئة في المئة, ونحن المؤمنين ما علاقتنا بهذا الموضوع ؟ إذا خرجت عن الحقيقة, و سكتّ عن الحق, أو نطقت بالباطل, فهذا يخرجك من الإيمان، المؤمن لا يكذب، إذا أفتيت للناس بفتوى ترضيهم بها, وتُغضب الله عزّ وجل, أليسَ هذا كذباً على الله؟ وعلاقتنا من هذا الموضوع يجب أن نعتقد اعتقاداً جازماً أنَّ المؤمن إذا كذب فقد خرجَ من إيمانه, لأنَّ المؤمن لا يكذب و هكذا قال عليه الصلاة والسلام .
ألم تسمعوا بأن أحد المتحدثين الأجلاء حينما رحل من المدينة إلى البصرة ليتلقى حديثاً عن رجل في البصرة, رآه عن بعدٍ, وقد وضع طرف ردائه موهماً فرسه أن فيها شعيراً, فلما اقترب منه لم يجد شيئاً فلم يكلمه, وعاد من حيث أتى, هذا كذاب, وما دام أن هذا الإنسان كذاباً لا يليق أن نأخذ منه حديثاً عن رسول الله عليه الصلاة والسلام,
أجمــع أهل المِلل والنحل والشرائع بلا استثناء, أنه لا يتم إثبات رسالة رسول إلا بالصدق، لأن الأنبياء والمرسلين جميعاً صادقون فيما بلّغوا عن ربهم, وهذا كلام قيّم جداً, فإذا قرأت حديثاً شريفاً فهذا ليس من عند رسول الله و ليس اجتهاداً, هذا وحيٌ من عند الله, فمخالفته مخالفة لأمر الله, وطاعته طاعة لله، ولذلك
فربنا عزّ وجل قال : ﴿ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾
وقال ربنا عزّ وجل : ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾
التبليغ :
لاحظنا أيها الأخوة, أن الرسول مبلّغٌ عن الله تعالى, وأن الله اصطفاه لهذه المهمة, وأنه أمره بتبليغ جميع أحكامه وشرائعه للناس,
وذلك بمقتضى قول الله عزّ وجل : ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾
قال تعالى : ﴿يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ﴾
أي لن يستطيع أحد أن ينال منك, أو أن يقتلك .
وآية أخرى : ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً ﴾
الله عزّ وجل سيسأل الأنبياء, هل بلّغتم رسالاتي
قال الله تعالى: ﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾
أن الرسل معصومون عصمــة تامة عن مخالفـة أمر الله، ومعصومون من أن يقتلوا، والنبي عليه الصلاة والسلام عصمه الله من أن يُقتل, والأنبياء جميعاً والرسل جميعاً معصومون من أن يعصوا الله عزّ وجل , فلو عصوا الله عزّ وجل, والناس مكلفون باتباعهم لصار التبليغ باتباع المعصية, ولصار أمر الله أن تعصي الله، وهل يأمرك الله أن تُطيع هذا الرسول وهو يعصي الله, كأنَّ الله يأمرك أن تعصيه, والله سبحانه وتعالى لا يأمر بالفحشاء؟ معنى أن الرسول عليه الصلاة والسلام مكلفٌ بالتبليغ, أي لا يمكن أن يكتم من الحق شيئاً، هذا شيء مستحيل بحق الرسل, وهم معصومون أن يكتموا شيئاً أمرهم الله بتبليغه, لأنَّ الله عزّ وجل ما اختارهم لحمل رسالته إلاّ ليقوموا بتبليغ شرائعه .
والذي يؤكد أنهم لم يكتموا شيئاً مما أُمروا به؟
- أن الله عزّ وجل شهد لهم بأنهم فعلوا ذلك في مناسبات كثيرة .
- أنَّ الله وقد ذّم أهل الكتاب الذين يكتمون شيئاً من التوراة والإنجيل فلم يرض منهم هذا الكتمان وهم أفراد عاديين، فكيف يرضاه ممن اختارهم لحمل رسالته؟ وهل يسكت عنهم لو كتموا شيئاً؟
لذلك قالوا: الساكت عن الحق شيطان أخرس
لو أن النبي عليه الصلاة والسلام كتم شيئاً أنزله الله إليه, وأمره بتبليغه, لكتم ما قاله الله بحقه حينما قال : ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾
ولكم قصة زينب التي أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالزواج منها بعد أن كانت مطلقة لمتبنّاه زيد, قال الله : ﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ﴾
وقوله: ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ﴾
فلو كان بالإمكان أن يكتم النبي العدنان شيئاً من القرآن لكتم هذه الآيات، إذاً يجب أن نعتقد اعتقاداً جازماً في حق الرسل, أنهم بلّغوا جميع ما أمرهم الله بتبليغه ( اللهم قد بلغّت, اللهم فاشهد ) لأنَّ الكتمان ضد التبليغ, فإذا وجبت لهم صفة التبليغ امتنعت عنهم صفة الكتمان، هذه الصفة, صفة التبليغ من صفات الرسل عليهم الصلاة والسلام .