بحث

زيارة المريض من الآداب الإسلامية

زيارة المريض من الآداب الإسلامية

بسم الله الرحمن الرحيم

     قد يسأل سائل ما حجم الآداب في الإسلام؟ إنَّها ربع الإسلام، في الإسلام عقائد، وفي الإسلام عبادات، وفي الإسلام معاملات، وفي الإسلام آداب، فعندنا آداب المسافر، آداب الزواج، آداب مجالس العلم......إلخ وهنالك آداب عيادة المريض. فعيادة المريض سُّنة مؤكّدة، كلُّكم يعلم أنّ هناك فرضاً، وهناك واجباً، وهناك سُّنة مؤكَّدة، وهناك سُّنة غير مؤكَّدة، وهناك مُباحاً، وهناك مكروهاً كراهة تنزِّيهية، وهناك مكروهاً كراهة تحريميّة، وهناك حرام، فأيُّ حركة، وأيُّة سكَنة، وأيُّ تصرّف لابدَّ من أن ينضوي تحت هذه الأحكام العدَّة التي نصَّ عليها العلماء. قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((أَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ، وَفُكُّوا الْعَانِيَ . وَالْعَانِي أي الأَسِيرُ )) ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا عَادَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ)) .

     يجب عليك أن تعود المريض، لكنَّ الشيء الذي يُلفت النظر هو أنه مما يلحَق بعيادة المريض، تفقّد أحواله، زرتَ المريض وسلّمتَ عليه وسألتَه عن صحته، وخاطرَك مع السلامة.. لعلَّه بحاجة إلى شيء، بحاجة إلى دواء، إلى طبيب، إلى حاجات للبيت.. فقال: مما يُلحَق بعيادة المريض، تفقّد أحواله، وتعهّده والتلطُّف به، أشياء ثلاث، تفقّد أحواله، أن تسأله، هل أنت بحاجة إلى شيء؟ هل أنت بحاجة إلى أغراض؟ هل أنت بحاجة إلى دواء؟ هل أنت بحاجة إلى طبيب؟ هل أنت بحاجة إلى ممرّض؟ اسأله، تفقّد أحواله، وتعهّد بعضها، أنا آتيك بالطبيب، صار فيه تعاون، في الإسلام هناك شيء  عميق ، نحن أسرة، أسرة واحدة، كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى، هكذا المؤمنون، كالبنيان المرصوص يشدُّ بعضه بعضاً، إذاً أدقٌّ شيء في العيادة: ما يلحقُ في الأحوال، وتفقد بعضها، والتلَّطف بالمريض، تفقّد، تعهّد، تلَّطف، هذا مما يُلحَقُ بعيادة المريض. العيادة لا تتقيَّد بوقت، لا يوجد في السِّنة وقت خاص بها، بحسب عادات الناس بعد الظهر مثلاً، بعد العشاء، قبل المغرب، بحسب عادات المريض، بحسب فراغه، بحسب الإمكانات المتاحة.   

     لكن أدقُّ ما في الموضوع هو أن الله سبحانه وتعالى حينما قال: ((إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا بْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي؟ قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟)) ، كيف نسب الله المرض إلى ذاته وهو لا يمرض؟ أيّ كيف أضافه إلى ذاته؟ هذا تطييبٌ لقلب المريض، وهذا جبرٌ لخاطره، وهذا تكريمٌ له، وهذا تشريفٌ له، أي كما يُقال: إنَّ الابن إذا تألَّم تألَّمت معه أمه، هناك مشاركة، ومحبة، فربُّنا عزَّ وجل حينما يقول: ((مَرِضْتُ فَلَم تَعُدْنِي....)) والنقطة الثانية: ((...أنَّكَ لَوعُدْتَهُ لَوَجَدْتَني عِنْدَهُ...)) أيّ: أنا يا عبدي، حينما سلَبْت هذا المريض بعض صحته عوّضته سكينة في قلبه وعوّضته قرباً مني، عوضّته سكينة في قلبه، لذلك من أدق الآثار أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام علَّمنا أنَّك إذا عدت مريضاً قال: ((عودوا المرضى وأمروهم فليدعوا لكم، فإنَّ دعوة المريض مستجابة، وذنبه مغفور))،  هذا معناه أنَّ المريض أقرب منْك إلى الله، لأنه بهذا المرض سلبَه الله الصحة لكن عوضَّه القرب، عوضَّه الرقّة، عوضَّه التجلي، قذف في قلبه نوراً، وليس غريباً أن تزور مريضاً فترى في وجهه تألُّقاً، فترى في حديثه روحانيةً، إذا سلَب الله المريضَ صحته عوضه السكينة والتجليات والقرب والأنوار وما إلى ذلك.. وهذا شيء مألوف جداً، تشعر أنه قريب، تشعر أنه رقيق المشاعر، تشعر أنه طليق اللسان، تشعر أنَّه ازداد معرفة بالله عز وجل، وأجمل كلمة قالها لي مريض عدته في هذا الأسبوع، قال لي: هذه خلوةٌ مع الله، هذا المرض خلوة مع الله، لأنَّ الإنسان أحياناً يكون مُثقلاً بالمواعيد واللقاءات والأعمال والمتاعب، يقول لك: جفَّ قلبي، أنكرتُ قلبي فإذا أراد الله أن يقربه، أيّ أن يريحه في البيت أسبوعاً، فإذا بهذا الأسبوع خلوةٌ مع الله عزَّ وجل. كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: ((عَجِبْتُ لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ! إِنَّ أَمْرَ الْمُؤْمِنِ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، لَيْسَ ذَلِكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ وَكَانَ خَيْرًا، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ وَكَانَ خَيْرًا)).  

     إذاً: سلوك إسلاميّ، سلوك إيمانيّ، سلوك يتميَّز به المسلم، هو أن تعود أخاك المريض، بالإضافة إلى العيادة، أن تتفقد أحواله، وأن تتعهد بعضها، وأن تتلطَّف به، هذه أحكام العيادة. أحياناً تعود إنساناً ذميّاً، هذه العيادة يطرَب لها، يفرح بها، تكلِّمه كلمات دقيقة أنَّ الإنسان المريض يكون قريباً من الله كثيراً، تكون مشاعره مرهفة، يكون فكره يقظاً، فإذا عدَّته، ونطقت بالحق أمامه، ولفتَّه إلى الله عزَّ وجل، فهذا عمل طيب، ((كَانَ غُلامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: أَسْلِمْ فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْلَمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ)) ، وقد روي أنَّ أبا طالب مرض فعاده النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا بن أخي - أبو طالب يخاطب النبيّ صلى الله عليه وسلم - قال: يا بن أخي ادع إلهك الذي تعبده أن يعافيَني سبحان الله! فقال النبيّ عليه الصلاة والسلام: "اللَهُمَّ اشْفِ عَمِّي" فقام أبو طالب، كأنَّما نشط من عُقال، شعر بنشاط، فقال له: يا بن أخي إلهك الذي تعبده يطيعك؟ قال عليه الصلاة والسلام: وأنت يا عمِّي إن أطعت الله يطيعك، إذا أطعته ودعوته يستجيب لك، هذه في اللغة تسمى مشاكلة، أي ليس فقط أنا بل أنا وأنت، إذا عرفته وأطعته ودعوته يستجيب لك.   

      من السّنة إذا كنت في عيادة مريضٍ أن تذكر ما قاله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ)) أي يبتليه، إذا أحبَّ الله عبداً ابتلاه، فإن صبر اجتباه، وإن شكر اقتناه. وفي حديث آخر: ((إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ فَمَنْ صَبَرَ فَلَهُ الصَّبْرُ وَمَنْ جَزِعَ فَلَهُ الْجَزَعُ)) ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ، وَلا نَصَبٍ وَلا سَقَمٍ، وَلا حَزَنٍ، حَتَّى الْهَمِّ يُهَمُّهُ إِلا كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ)) ، وقوله لمَّا النبيّ الكريم دخل على مريض قال: يا رسول الله، ادعّ الله أن يرحمني؟ قال: ((يا ربِّ ارحمه، فقال الله عزَّ وجل: كَيْفَ أَرْحَمُه مِمَا أَنَا أَرْحَمُه، وَعِزَّتِي وَجَلالِي لا أَقْبُضُ عَبْدِيَ المُؤْمِنُ، وَ أَنَا أُحِب أَنْ أَرْحَمَهُ، إِلاَّ ابْتَلَيْتُهُ بِكُلِّ سَيِئَةٍ كَانَ عَمِلَهَا سَقَمَاً في جَسَدِه، أَو إِقْتَاراً في رِزْقِهِ، أو مُصِيبَةٌ فِي مَالِهِ أَو وَلَدِهِ، حَتَّى أَبْلُغَ مِنْهُ مِثْلَ الذر، فَإِذَا بَقِيَ عَلَيهِ شَيءٌ، شَدَّدَّتُ عَلَيِهِ سَكَرَاتِ المَوتِ حَتَّى يَلْقَانِي كَيَومَ وَلَدَتْهُ أُمُّه)) ، أي المرض للمؤمن تكفير، المرض للمؤمن ترقية، المرض للمؤمن خلوة إجبارية، المرض للمؤمن مناسبة ليلتفت إلى الله عزَّ وجل، الآية الكريمة: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ *أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ الصلوات من الله عزَّ وجل بمعنى المغفرة و الثناء، والرحمة: العطاء و الإحسان. وأولئك هم المهتدون، هذا هو التاج، فلذلك المريض، هذه فلسفة المرض في الإسلام، عيادة المريض واجب، والمريض يرقى بالمرض.  

     لكن الآن المريض نفسه، جاءه العوّاد، ماذا يقول؟ قال: لا بأس على المريض أن يخبر من يعوده بما يجده من ألمٍ، لا على سبيل الضجر و الصخب بل على سبيل البيان، مبتدئاً أن يقول: الحمد لله، أجد كذا وكذا... أو الحمد لله بيّ كذا وكذا، فقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: " إذا كان الشكر قبل الشكوى، فليست بشكوى " الحمد لله، الله عزَّ وجل ابتلاني، أجد ألماً في صدري، أجد ألماً في يدي، أجد ألماً في رأسي، إذا كان هناك شكوى، وكان هناك حَمدُ قبل الشكوى، فالحمد قبل الشكوى يبطل الشكوى،  أي ممكن، إنسان يتألم، لكن الصياح، وتمزيق الثياب، وضرب الوجه، هذا الذي نهى عنه النبيّ عليه الصلاة والسلام، طبعاً إخبار المريض صديقه أو طبيبه عن حاله لا بأس به إتفاقاً، لأن هذا لا يتنافى مع الصبر الجميل، سيدِّنا يعقوب ماذا قال؟ ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ ، وسيدِّنا أيوب قال: ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ ، الأكمل أن تشكو إلى الله عزَّ وجل، من الأدعية الجميلة: يا ربّ أشكو إليك ما لا يخفى عليك، وأطلب منك ما لا يعسر عليك، أشكو إليك ما لا يخفى عليك، وأطلب منك ما لا يعسر عليك.  



المصدر: موضوعات فقهية متفرقة - الدرس : 34 - عيادة المريض وأحكامه .