سعْد بن أبي وقاص، أوَّلُ نقطة في شَخْصِيَّة هذا الصحابي الجليل أنه شَخْصِيَّةٌ فذَّة، بِمَعْنى أنه يُمْكن أنْ يُعْتمد عليه في أشَدِّ الأزْمات، ويُمْكن أنْ يُدَّخَر لِحَلِّ مُشْكِلَاتٍ كبيرة .
فَسَيِّدُنا عمر رضي الله عنه كان أمير المؤمنين، وقد تلقى أنْباءً مُؤْسِفَةً جداً من بلاد الفُتوحات في فارس، فقد قُتِل في يومٍ واحدٍ أربعة آلاف شهيد من أصْحاب رسول الله ، ولم يعُدْ يمْلك خِياراً، فأراد هذا الخليفة العظيم أن يقود جَيْشَ إنْقاذٍ بِنَفْسِه، وجَهَّزَ هذا الجَيْش ممن بَقِيَ من أصْحاب رسول الله وقادهم وخرج من المدينة، لكنّ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم رأوا أنَّ حياة هذا الخليفة العظيم ليْسَتْ مِلْكَهُ، إنما هي مِلْكُ المُسْلِمين.
أتوقَّفُ قليلاً عند هذه الكلِمَة, أنت كَمُؤْمِنٍ لك رِسالة تعْرف لماذا جِئتَ إلى الدنيا، وتعرف عِظَم المُهِمّة التي ألْقاها الله على عاتِقِك؟ تؤمن وتوقِنُ أنَّ حياتك لَيْسَتْ مِلْكك، وهي قبل كُلّ شيءٍ مِلْكُ أُسرتك، ومِلْكُ المؤمنين، ومن هنا كانت العِنايةُ بِصِحَّة الإنسان واجِبًا دينيًا، ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام: (( من ركب ناقةً حرونًا فلا يقربنّ مجْلِسَنا...)). الناقة الحرون هي الناقة الخَطِيرة، يُقاسُ على هذا أنَّك إذا ركِبْتَ مرْكَبَةً ليْسَتْ جاهِزِيَّتُها كاملة فقد عَصَيْتَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم. فعِنايَتُكَ بِصِحَّتِكَ ليْسَتْ أنانِيـَّةً أو أَثَرَة، ولكنَّها مؤاثرة قد يسأل سائل: ألَيْسَت الأعْمارُ بِيَد الله؟ نعم الأعمار بِيَد الله، ولك عُمُرٌ لا يزيد ولا ينْقص، ولكن إما أنْ تُمْضي العُمُر الذي كتبه الله لك هكذا صحيحًا، وإما أنْ تمْضيه هكذا طريح الفِراش، لذلك دقِّقوا في قوله تعالى على لسان سيدنا إبراهيم: ﴿ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾، فما قال: والذي إذا أمْرضني فهُو يشْفين، فالمرض في هذه الآية عُزِيَ إلى الإنسان، أما الخلق فعُزِيَ إلى الله، فأصْلُ المرض مُخالفَةٌ لِمَنْهج الله عز وجل. المُلَخَّص أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام لما نهى أن تشْرب مِن فم الإناء, وأمر أنْ تشرب الماء ثلاثاً، وأنْ تشْربه قاعداً، ونهى كذلك أنْ تأكل أكثر من حَدِّك الطبيعي، ونهى عليه الصلاة و السلام أنْ تأكل فاكِهَةً ليْستْ مغْسولةً، فمن أكل التراب فقد أعان على قتْل نفْسه، وأيضًا النبي أنْ تترك صحاف الطِّعام وقُدور الماء مكْشوفةً، فهذا كُلُّه من أجل الحِفاظ على حياتك .
أصْحاب رسول الله حينما رأوا خليفتهم وهو في وقْتٍ عصيبٍ جداً، وقد علِموا أنَّ أثْمن شيءٍ يمْلِكُهُ المُسْلمون حياةُ أميرهم، فلِذلك اجْتمع أصْحاب رسول الله ولَحِقوا بِعُمَر ، وثَنوهُ عن أنْ يقود جَيْشاً بِنَفْسه، وأنَّ حياته الآن في هذا الوقْت العصيب وقْتِ الرِّدة والفِتَن والحُروب والفتوحات هي أثمُن شيءٍ عند المؤمنين، فنزل سيّدنا عمر عند رأْيِهِم، وقال: (( من تَرَوْن أنْ نبْعث إلى العِراق؟ فصَمَتَ أصْحابُهُ، وراحوا يُفَكِّرون، ثمَّ صاح عبد الرحمن بن عَوْفٍ لقد وَجَدْتُهُ، قال عمرُ: من هو؟ قال: الأسد في براثِنِه سعْدُ بن مالك الزهري )) أيْ سعْدُ بن أبي وقاص.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام كلما دخل عليه سعْدُ بن أبي وقاص يُداعِبُهُ, ويقول: هذا خالي، أروني خالاً مِثْل خالي ، ومُداعَبَةُ النبي شيءٌ ثمينٌ، فَمُداعَبَةُ النبي لأصْحابه تعْني أنَّهُ راضٍ عنهم، ورِضاءُ النبي عليه الصلاة والسلام هو عَيْنُ رِضاء الله عز وجل .
يبدو أن سعدًا أسلم وكان ترتيبه في الإسلام الرجل الثالث, فقال رضي الله عنه: لقد أتى عليَّ يومٌ وأنا ثُلُثُ الإسلام، لذلك فالسابقون السابقون لهم أجرٌ عظيم، وقد أسْلم على يد أبي بكرٍ.
لا يوجد صحابي جليل فداهُ النبي عليه الصلاة والسلام بِأُمِّهِ وأبيه إلا سعْد بن أبي وقاص، فعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, قَالَ: مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ أَبَوَيْهِ لِأَحَدٍ إِلَّا لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ فَإِنِّي سَمِعْتُهُ, يَقُولُ يَوْمَ أُحُد: (( يَا سَعْد,ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي )).
سيّدنا سعْد بن أبي وقاص كان يقول: (( والله إني لأوَّلُ رجُلٍ من العَرَب رمى بِسَهْمٍ في سبيل الله ))، هذا الصحابي الجليل معه سِلاحان قويَّان: رُمْحُهُ ودُعاؤُهُ، فقد كان مُسْتجاب الدعوة، لماذا كان مُسْتجاب الدعوة؟ لأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام دعا له أنْ يكون مُسْتجاب الدعوة، فقال: اللهم سدِّدْ رَمْيَتَهُ، وأجِبْ دَعْوَتَهُ، هذا الصحابي، إنه الفارسُ يوم بدْر وأحد، وفي كلِّ مَشْهَد شهِدَهُ النبي عليه الصلاة والسلام.
سيدنا سعد، هذا الصحابي الجليل كذلك قِصَّته غريبة، فقد كان غَنِياً، ولكن قيل: قَلَّما يجْتمعُ المالُ الوفيرُ مع الحلال، أما هذا الصحابي كانت أمْواله كثيرة من وَجْهٍ حلال، عَنْ سَعْدَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ, قَالَ: (( عَادَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ, فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! بَلَغَ بِي مِنْ الْوَجَعِ مَا تَرَى, وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ, أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لَا, قُلْتُ: أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ؟ قَالَ: لَا, قُلْتُ: فَالثُّلُثِ؟ قَالَ: وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ, وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي امْرَأَتِكَ )).
ذات يوْمٍ كان النبي عليه الصلاة والسلام جالِساً مع أصْحابه فَنَظَر إلى الأُفُق بإصْغاء، ثمّ قال: ((يطْلع عليكم الآن رجُلٌ من أهل الجنَّة، فأخذ الأصْحابُ يلْتَفِتون صَوْبَ كُلِّ اتِّجاهٍ، يسْتَشْرِفون هذا السعيد المُوَفَّقُ المَحْظوظ، ثمَّ أطلَّ سيّدنا سعْد عليهم، فلاذَ به أحدُ الصحابة، وقال له: قُل لي: ماذا تفْعل؟ وكيف اسْتَحْقَقْتَ هذه البِشارة من رسول الله؟ وبعد إلْحاحٍ، قال له: لا أعمل إلا ما تعْملونه جميعاً من العِبادة, أصوم وأُصلي وأغضّ بصري, غير أني لا أحمل لِأحدٍ من المُسلمين ضِغْناً ولا حقدًا ولا أبغيهم سوءًا )).
آخر قِصَّة لِهذا الصحابي، كانت مع أُمِّه، فَسَيِّدُنا سعْد حاوَلَتْ أُمُّهُ كثيراً أنْ تصْرِفَهُ عن هذا الدِّين فلم تُفْلِح، فاسْتَخْدَمَتْ آخر ورقَةٍ رابِحَة بِيَدِها, وهي حياتها، فقالت له: يا سعْد, إني سأصوم عن الطعام، ولن أُفْطر حتى تكْفر بِمُحَمَّد أو أنْ أموت، سيّدنا سَعْد إيمانه كالجِبال, قال: تعْلَمين واللهِ يا أُمي, أنه لو كانت لك مئةُ نفْسٍ فخَرَجَتْ نفْساً نفْساً، ما تَرَكْتُ دينَ مُحَمَّدٍ، فَكُلي إن شِئت أو لا تأكلي, ثمَّ تلا قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾. والله تعالى يقول: ﴿و َقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً﴾، فمن عبد والِدَيْه بأن أطاعَهُما، وعصى ربَّهُ فقد ضلَّ سواء السبيل .
لما أرسله سيّدنا عمر إلى العراق أعْطاهُ وَصِيَّةً، قال له: (( يا سعْدُ بن وهيب، لا يَغُرَنَّك من الله أنْ قيل: خالُ رسول وصاحِبُهُ، فإنَّ الله ليس بينه وبين أحدٍ نسَبٌ )). سواءٌ كنت من نسبٍ رفيع أو وضيع، وسيم الهَيْئة أو ذميماً، ذَكِياً أو بليداً، هذا كله لا قيمة له، بِطاعة الله وحده تسْتطيع أنْ تصل إلى ما تريد، التعاوُنُ مع الله سهلٌ، ولا يوجد عند الله مُقَرَّبون ومُبْعَدون إلاّ بالتقوى، وهؤلاء من جماعَتِه، وهؤلاء ليسوا من جماعَتِه، فكلُّنا عباد الله، وطريقُ رِضْوانه, وما عنده من إكْرام يُنال بطاعته .
