ربُنا سبحانه وتعالى يقول: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ﴾ قال بعضهم: إذا تعلَّم الرجل، وسار على معرفةٍ بالله عز وجل، يكفي أنه جاء ثالث اسمٍ في هذه الآية، ويُستنبط من هذه الآية أن العالم الحقيقي هو الذي يشهد لك عدالة الله عز وجل، أما الذي ينقل لك بعض ما قرأه فهو ناقل وليس عالماً، أي أن الإنسان عندما يريد أن يأخذ دينه عن عالم فهذا أثمن شيء في الحياة.. ((يا بن عمر دينك دينك إنما هو لحمك ودمك، فانظر عمن تأخذ، خذ الدين عن الذين استقاموا، ولا تأخذ عن الذين قالوا)) لأن الإنسان إن سمع كلاماً غير صحيح من رجل ينقل لك العلم لا أقول عالماً، وهذا الكلام أعانك على معصية، أو برر لك المعصية، فهذا هو الضلال بعينه، شيءٌ آخر.. ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ العالمون وحدهم يعقلون هذه الأمثال، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾ هذا مثل ضربه الله لنا عز وجل، فكيف أصلها ثابت؟ أي أن الحق مبني على قواعد ثابتة، أسس الحق ثابتة، عبر العصور، والأزمان، والأمصار، والأصقاع، لا يتبدل ولا يتغير، الحق هو هو، قديمٌ وأزليٌ وسرمديٌ وأبدي.. ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ﴾ أي أن التعامل مع الله ثابت، الله سبحانه وتعالى له قواعد ثابتة في التعامل معه. فالتعامل مع الله عز وجل مريح، أما التعامل مع البشر، البشر متقلِّب ما كنت ترضيه به اليوم لا يرضى به غداً، فقد يأخذ موقفاً آخر، قد يتقلب، قد يغير، قد ترضيه فيغضب غيره.. ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾ آثار التدين الصحيح سمو في النفس.. ﴿وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾ آثار الدين الحقيقي مروءة، وفاء، عفة، صدق، أمانة، لو أن مال الدنيا وضع تحت يدي رجل مسلم ما أخذ منه شيئاً إلا بحقه، فالمؤمن أمين، المؤمن صادق، المؤمن عفيف، المؤمن يؤتمن على كل شيء.
القرآن الكريم كتاب الله، قال الله عز وجل: ﴿بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ أي أن القرآن الكريم ليس هذا الذي كتب على ورق، القرآن الكريم: ﴿هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ لذلك: من لم يأخذ هذا العلم عن الرجال، فهو ينتقل من محال إلى محال، لا يعرف ما نقول من لم يقتف أثر الرسول صلى الله عليه وسلم: النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((الحكمة تزيد الشريف شرفاً، وترفع المملوك حتى يدرك مدارك الملوك)) أي إذا كان الإنسان من عائلة أو من أصل رفيع وتعلم، تزيده رفعةً، هذا العلم يزيده رفعةً، إن كنت شريفاً فالعلم يزيدك شرفاً، تعلموا العلم - كما قال بعض الخلفاء - فإن كنتم سادةً فقتم، وإن كنتم وسطاً سُدتم، وإن كنتم سوقةً عشتم . وقال صلى الله عليه وسلم: ((خَصْلَتَانِ لا تَجْتَمِعَانِ فِي مُنَافِقٍ حُسْنُ سَمْتٍ وَلا فِقْهٌ فِي الدِّينِ)). فإذا قلت: مؤمن. لا يمكن إلا وأن يكون على شيءٍ من العلم، فكلمة مؤمن مرتبة علمية، وكلمة مؤمن مرتبة أخلاقية، وكلمة مؤمن مرتبة جمالية. فيه فقه، فيه تعمُّق، المنافق يخلِّط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، إذاً ليس فقيهاً.. مثل، إذا إنسان معه دكتوراه في ميكانيك السيارات، بسيارته الخاصة عندما شعل الضوء الأحمر الخاص بالزيت لم ينتبه ولم يهتم، وبقي يمشي، فاحترق المحرك، وآخر لا يقرأ ولا يكتب عندما شعل الضوء الأحمر توقف، أيهما أفهم؟ عملياً هذا الذي توقف فجأةً، هذا استفاد من معلومات بسيطة، أما هذا الآخر فعلى علمه الشديد حرق المحرك. ليس من الشرط أن يكون متبحراً في كل شيء، لأن العمر قصير، لكن إذا خشي الله عز وجل فهو على نوعٍ من أنواع العلم الراقي، كفى بالمرء علماً أن يخشى الله، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم والجهاد، أما أهل العلم فدلوا الناس على ما جاءت به الرسل)) وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنما العلم بالتعلم)) وقال عليه الصلاة والسلام: ((لموت قبيلةٍ أيسر من موت عالم)). لذلك لنبحث عن الهدى لأن ربنا عز وجل قال: ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾ لأنك بالحكمة تحسن إنفاق المال، وتحسن كسب المال، وبالحكمة تصلح السيئة، وبالحكمة تحسن تربية الأولاد، وبالحكمة تحسن استغلال وقتك. فكانت الحكمة كل شيء بالحياة، المال يحتاج إلى حراسة، أما العلم فيحرسك، الحكمة تجلب المال، والحمق يبدد المال. ((من تفقه في دين الله عز وجل كفاه الله تعالى ما أهمه، ورزقه من حيث لا يحتسب)). ((صنفان من أمتي إذا صلحوا صلح الناس، وإذا فسدوا فسد الناس: الأمراء والفقهاء)).
إذا أتى عليَّ يومٌ لا أزداد فيه علماً يقربني إلى الله عز وجل فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم، أي إن كنت على يقينٍ من صدق النبي عليه الصلاة والسلام يجب أن تراجع نفسك كل يوم، أنا اليوم تعلمت تفسير آية ما كنت أعرفها، تعلمت حديثاً شريفاً ما كنت أعرفه، تعلمت قضية بالفقه، عملت عملاً صالح، نفذت شيئاً من سنة رسول الله، عدت مريض مثلاً، تصدقت، نصحت، أمرت بالمعروف، نهيت عن المنكر، تليت كتاب الله، ذكرت الله عز وجل؟ ((حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، فإنه أهون لحسابكم، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا))، في اليوم الذي لا تزداد فيه من الله علماً أو لا تزداد فيه من الله قرباً فهذا يومٌ ضائع ولو اشتريت صفقة ربحت منها مليونين، مال الدنيا للدنيا.
الفقه خير العبادات: ((ما عبد الله بشيء أفضل من فقه في الدين، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد ولكل شيء عماد وعماد هذا الدين الفقه)) إذا استمعت إلى مجلس علم فهذه أفضل عبادة، ((قيل: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ فقال: العلم بالله عز وجل. فقيل: أي العلم تريد؟ قال عليه الصلاة والسلام: العلم بالله سبحانه. فقيل يا رسول الله: نسأل عن العمل وتجيب عن العلم؟! ـ فقال عليه الصلاة والسلام: إن قليل العمل ينفع مع العلم بالله تعالى وإن كثير العمل لا ينفع مع الجهل بالله)) كثير العمل لا ينفع مع الجهل، فإذا إنسان عمل بناء من غير مهندسين، وأحضر مئة طن من الحديد، ولكن لا يوجد علم، هنا وضع لكل متر سبعة أكياس، هناك وضع كيسين، بعدما انتهى من صب عشرين طابقاً البناء كله مال، كل البناء صار يحتاج لتكسير، كل هذه النفقات أصبحت على الأرض، هذا المال يحتاج لعلم، تريد مهندساً ليعطيك نسباً صحيحة، فالنبي الكريم يقول: ((إن قليل العمل ينفع مع العلم بالله تعالى، إذاً العلم أعظم من العمل. وإن كثير العمل لا ينفع مع الجهل بالله))
وقال أبو الأسود: " ليس شيءٌ أعز من العلم، الملوك حكامٌ على الناس، والعلماء حكامٌ على الملوك". الآن هل يستطيع أي ملك من الملوك ألا يكون عنده مستشارون؟ إذا كان يريد أن يمنع شيئاً أو يسمح بشيء يحتاج إلى خبراء اقتصاد، إذا منعنا ماذا يحدث؟ يحدث هكذا وهكذا وهكذا، كل رؤساء الدول حولهم فريق مستشارين من أعلى مستوى، معناها العلم هو الأساس، كل وجدت معضلة اجتماعية أو اقتصادية يجتمع الخبراء، كيف الحل؟ ماذا نفعل؟ إذاً من هو حجر الزاوية في بناء المجتمع؟ العلم.
خُيِّر سليمان بن داود عليهما السلام: بين العلم والمال والمُلك، فاختار العلم فأعطي المال والمُلك معه: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أوتي القرآن - أي أوتي فهمه- فرأى أن أحداً أوتي خيراً منه فقد حقَّر ما عظمه الله)) لله فهمك كتابه، أنت بأدنى مستوى معيشي، والآخر بأعلى مستوى معيشي، لكن الله علمك القرآن، فإذا رأيت أن هذا الآخر أوتي خيراً مما أوتيت، فقد حقرت ما عظمه الله.
وقال الفتح المُصلِّي رحمه الله: "أليس المريض إذا منع الطعام والشراب يموت؟ قالوا: بلى، قال: كذلك القلب إذا منعت عنه الحكمة والعلم ثلاثة أيامٍ يموت".
وقال بعض المفسرين وهو الحسن رضي الله عنه: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ فقال: إن الحسنة في الدنيا هي العلم والعبادة.
وقال الأحنف رحمه الله: كل عزٍ لم يرطب بعلمٍ فإلى ذلٍ مصيره.
يقول سيدنا الزبير: "عليك بالعلم فإنك إن افتقرت كان لك مالاً، وإن استغنيت كان لك جمالاً".