أيها الأخوة، الإنسان أي إنسان، كبير أم صغير، متعلم أم جاهل، غني أم فقير، قوي أم ضعيف، مدني أم ريفي، عبقري أم غبي، بحسب فطرته مؤمن بأنه لا إله إلا الله كيف يبدو هذا؟ لو ركب البحر إنسان ملحد وإلحاده عميق، أي عنده ألف دليل ودليل بحسب تصوره الأخرق على أنه لا إله، فصارت الأمواج كالجبال وأصبحت السفينة تتهاوى بين الأمواج كريشة في مهب الريح، عندئذٍ يلتجئ هذا الملحد إلى الله عز وجل، وهذه طائرة تحمل بضعة خبراء لا يؤمنون بالله، ينكرون وجوده فلما وقعت في عدة جيوب هوائية، وظن هؤلاء أن الطائرة على وشك السقوط دعوا الله مخلصين، فالإنسان مؤمن بالفطرة لكنه وهو في سلام، وفي بحبوحة، وفي غنى، وفي أوج وقوة يكابر.
شخص قال لي لقد نشأت في بيئة تنكر وجود الله عز وجل إنكاراً كلياً، وعملت عند شخصٍ في حرفة، وهذا الشخص أيضاً ينكر وجود الله، أوحى إلي على أنه لا إله و افعل ما تشاء فالحياة اقتناص ملذَّات وهكذا فعلت، لم أترك معصيةً إلا وارتكبتها وعملت في التجارة فربحت مئات الألوف وتزوجت وسافرت إلى بعض الدول وفعلت فيها من كل أنواع المعاصي وفجأةً صودرت بضاعته وبقي بلا دخل وعليه دين، وصار أصحاب الدين يطالبونه بقسوة، مرض أولاده وزوجته وليس معه ثمن الدواء فضلاً عن ثمن الغذاء، وضاقت عليه الدنيا فقال لي: أصابتني مصائب لو أنها نزلت على جبلٍ لهدَّته، وما شعرت في أحد الأيام إلا و أنا داخل إلى المسجد لأصلي فهذه هي الفطرة وصلّى.
إنسان آخر هذا عقيدته أنه لا إله و له أعمال مخزية جداً، وعنده بنت صغيرة في سن الورود مرضت مرضاً شديداً، وهذا المرض جعله ينفق كل ما يملك إلى أن قال له أحد الأطباء: لا تنتظر أن تعيش هذه الفتاة دعها كي تموت قال: فكنت آخذها معي إلى عملي خشية أن تموت في غيابي لشدة تعلقه بها و هو يصر أنه لا إله ارتفعت حرارتها وبقيت في الأربعين ولم يترك طبيب أطفال إلا وزاره، ولم يترك دواءً إلا واستعمله، وهذه الحرارة لا تنخفض، إلى أن همس في أذنه أحد أطباء الأطفال إن هذا المرض نادر الوقوع وإن هذه الحرارة لن تنخفض إلا عند الموت، قال: في أحد الأيام قلت لزوجتي سخني لي الماء لأغتسل للصلاة، و سأل زوجته: ماذا تقرئين في الصلاة؟ إنه لا يعرف الفاتحة، وتقول زوجته: بقي واقفاً نصف ساعةٍ يبكي و يقول: يا رب إما أن تأخذها أو أن تأخذني أو أن تشفيها، ضيّق الله عليه فظهرت فطرته فأين الإلحاد؟ أين دعواك العريضة أنه لا إله؟ وما أن سلم من صلاته حتى رأى حرارتها قد انخفضت بعد أن تصلبت عضلاتها وبدأت تتحرك.
فحينما أنكروا كانوا كاذبين ويكابرون، ويركبون رؤوسهم ويبالغون، والإنسان لا ينبغي له أن يأتي في الشدة، بل عليه أن يأتي في الرخاء، والبطولة أن تأتي إليه وأنت معافى وأنت في أوج صحتك وقوتك، ومالك، وفراغك، لا أن تأتيه بعد شدةٍ بالغة تنهدُّ لها الجبال.
أيها الأخوة، الإنسان مؤمن بالفطرة وحينما يؤمن ترتاح نفسه وهذا هو الدليل، وحينما ينكر تضطرب نفسه، ويختل توازنه، ويضجر، ويسقم، ويسأم، وحينما لا يؤمن ترون منه ردود فعلٍ قاسيةً جداً لأسبابٍ تافهةٍ وهذا دليل اضطرابه، وهذا عند علماء النفس دليل اضطرابه الداخلي لأنه خالف الفطرة، وهذا المحرك لا يعمل إلا بالوقود، فلو وضعت فيه ماءً لظهرت أصوات واضطراب ولتوقف، وتشعر أن الوضع غير طبيعي، فالإنسان مؤمن بالفطرة، لا تفهموا من هذا الكلام أنه ليس هناك أدلة، بل هناك مليون دليلٍ و دليل على وجود الله، وقبل أن نستعرض هذه الأدلة العلمية والبراهين العقلية نود أن نلفت النظر إلى أن الإنسان مؤمن بالفطرة.
قال العلماء: الطفل حينما يولد يملك منعكساً اسمه منعكس المص، ومنعكس المص عملية بالغة التعقيد، الآن ولِدَ هذا الطفل ولو أنه بعد الولادة بساعة واحدة وضعته أمه على ثديها لالتقم الثدي ولأحكم إغلاق فمه على الثدي ولسحب الحليب، وهذه عملية معقدّة كيف خلقت هذه الفطرة؟ إن الطفل بالفطرة يتقن المص إتقاناً كاملاً. أما الحيوان فلأنه ليس مكلفاً، ولم يخلق الله له فكراً، تراه مزوداً بمئات المنعكسات هذه يسميها العلماء الغريزة، وهي آلية معقدة جداً ولكنها جاهزة دون تعلم هذه الفطرة، بالنسبة إلينا بني البشر أطفالنا حديثو الولادة مزودون بمنعكس المص، وهذا المنعكس ليس له تفسير إلا الفطرة أي بفطرة هذا الطفل المولود يعرف أن يلتقم ثدي أمه، وأن يمص منه الحليب، وهذا من أدلة الفطرة، ودليل آخر: شعور الأم بعاطفةٍ جياشةٍ نحو ابنها من دون أن تعلم ما قيمة هذه العاطفة؟ ولولا هذه العاطفة لما كنا نحن هنا.
حينما أرى طفلاً أمه تعتني به وأبوه يأتي كل مساء بكل حاجاته، يكدح الأب ويسعى ويجهد ويتحمل المخاطر ويغامر إلى أن يأتي مساءً بكل حاجات البيت، وحينما يرى ابنه في دفءٍ ويرتدي ثياباً نظيفة ويأكل ما يشتهي، يشعر الأب بسعادةٍ لا توصف هذه هي الفطرة.
فلو حللنا هذه الفطرة لعرفنا أنه لولا هذا العطف لما استمرت الحياة وهذا إدراك عقلي، لكن الأب يشعر بهذه العاطفة من دون أن يبحث في تحليلاتها ومدلولاتها، فمن منا ينكر الأم عطف الأم إنه شيء ثابت فما الدليل؟ لا يوجد دليل، وإحساسها بالعاطفة هو الدليل وإحساسها هو الفطرة، والإحساس الفطري لا يحتاج إلى دليل بل بديهي يسميه الناس المسلمات مبادئ لا تحتاج إلى براهين، الكل أكبر من الجزء برهن عليها إنها واضحة كالشمس هذه مسلمة.
شخص قال لي: وقعت بعجزٍ مالي في عملي التجاري أي أخفقت، وضاقت عليَّ الدنيا، فالتقيت بتاجرٍ في طرفٍ من أطراف البلاد البعيدة، فقام هذا التاجر وأعطاني بضاعة بما قيمته خمسون ألف وقال: خذ هذه البضاعة وبعها وحينما تشعر أنك وقفت على قدميك ادفع لي الثمن، فقال لي: أشعر أن قلبي ينفطر حباً له هذه هي الفطرة، أخوه النسبي لم ينجده وهذا الإنسان من بلدٍ بعيد علم بحالته وأمده بهذه البضاعة كي يقف على قدميه فأحبه.
جميع الناس مدفوعون بدافعٍ من فطرتهم إلى كسب قوت يومهم وهذا دافع خفي، فعندما يفتح الإنسان محلاً وينطلق هذا المحل فإن نفسه ترتاح لأنه أمن رزقه وأكله، وإذا كان الموسم جيداً والقمح كثيراً يرتاح الفلاح لأنه أمن المؤونة فالفطرة هكذا، الإحساس بالجوع هل لك أن تنكره؟ برهن عليه، أخي أنا جائع ما الدليل عليه؟ إنه لا يحتاج إلى دليل، إحساس بالجوع صارخ فالإحساس بالجوع فطرة، لا أقول هذا الكلام لأنه ليس هناك أدلة على وجود الله، هناك ملايين الأدلة، لكن أحب أن أؤكد لكم قبل كل شيء على أنك إنسان بفطرتك مؤمن بالله وحينما لا تؤمن تصور مرآةً كانت صقيلةً نظيفةً ذات قابليةٍ للانعكاس عالية جداً، جاءها دخان كثيف من شمعةٍ فطمست معالمها، وشفافيتها، وانعكاسها عندئذٍ الآن نحتاج إلى دليل فلو أن هذه المرآة صافية لما احتجنا إلى دليل.
يحتاج الإنسان لأن يأكل شيئاً حامضاً فيكون عنده نسب الكلس عالية والكلس لا يذوب إلا بالحمض، وقد يشتهي الإنسان سلطة فيها حمض زائد فما السبب؟ أحياناً فتيات يأكلن الليمون، و قد يشمئز الإنسان من أكل الليمون، وقد ترى البنت تأكل الليمون بكل سرور، تقطعه وتأكله مع الملح فما هو تفسير هذا الشيء؟ السبب هو وجود مواد كلسية زائدة لديها، فربنا عزّ وجل لحكمةٍ بالغة يخلق في الإنسان دافعاً نحو الحمض، وقد يشتهي الإنسان أكل الموالح فيكون عنده نقص بالملح، وأحياناً يشتهي أكل الحلو فيكون عنده نقص بالطاقة، فرغبة الإنسان لأنواع الطعام مبنية على حاجاته.
هناك علماء أتوا بعشرة أطفالٍ ووضعوهم في مختبر أمام ألوانٍ منوعة من الطعام وعشرة أطفالٍ آخرين تولى خبراء في التغذية إطعامهم، أي تغذية مدروسة بالحريرات والبروتينات، والدهنيات، والسكريات، والمعادن وأشباه المعادن، والفواكه، واللحوم فكانت نتيجة الأطفال الذين أكلوا وفق رغبتهم الخاصة أن نموهم كان أفضل لأن الرغبة الخاصة مبنية على حاجة داخلية، فحينما تشتهي الطعوم الحامضة يكون عندك كلس زائد، وحينما تشتهي الموالح يكون عندك نقص بالأملاح، وحينما تشرب الماء يكون دليلاً على نقص الماء بالجسم وهذا أيضاً إحساس بالفطرة، شعورنا بالعواطف والأحاسيس هذه كلها من الفطرة ولا برهان عليها، وشعورنا وحده هو الدليل.
الشعور الفطري إحساس بين جميع الخلائق المدركة على اختلاف نزعاتها ومستوياتها وثقافاتها في البيئات البدائية، وفي المدن المتحضرة، وفي منتديات المثقفين، وفي قاعات العلوم والفنون والمختبرات، إنه شعور مشترك بين جميع الناس، يقوم في نفس الطفل الصغير والإنسان البدائي والمتحضر، والجاهل، والعالم، والباحث، والفيلسوف، والعبقري، والخبير في المعمل، وكل هؤلاء يشعرون أن الله حق، وأنه القوة القابضة على ناصية كل شيء والعالمة بكل شيء والحكيمة والمريدة التي لا شك فيها.
قرأت كلمةً لأكبر عالمٍ في الفيزياء المعاصرة، وهذا العالم اكتشف أحدث نظرية حتى الآن اسمها النظرية النسبية قال هذا العالم:" كل إنسان لا يرى في هذا الكون قوةً هي أقوى ما تكون، عليمةً هي أعلم ما تكون، حكيمةً هي أحكم ما تكون، هو إنسان حي ولكنه ميت ".
نقطة دقيقة جداً، النبات أوضح شيء، ترى نبتةً يقال لك إن هذه النبتة تحتاج سقيا في الأسبوع مرة فلو أكثرت عليها الماء تموت، وهذه النبتة تحتاج ثلاث مراتٍ سقيا أسبوعياً، وهذه النبتة بالشهر مرة، وهذه النبتة لا تزدهر إلا في أشعة الشمس، فلو جلست مع صاحب حدائق لديه خبرات عالمية لوجدت أنه يعلم طباع كل نبتة، فهذه النبتة تحتاج إلى ظل وإلى شمس، وهذه تحتاج إلى ضوء، وهذه تنمو في البيوت في الغرف، وهذه تحتاج إلى سقيا كثيرة، وهذا النبات لا ينمو إلا في الماء كالزنبق الذي يجب أن يغمر في الماء، ربنا عزّ وجل خلق في النباتات شيئين: شيئاً ظاهراً ليعينك مثل طولها، وشكلها، وأوراقها، وألوانها، وأزهارها، وأشياء تكتشفها مع الأيام وهي طباعها وطباعها هي الفطرة التي فطرها الله عليها أي حاجاتها وأنواعها ومواسمها وأوقات ازدهارها أي أشياء دقيقة جداً، فمثلاً بعض النباتات يزهر مرتين في السنة، وهذا النبات تسقط أوراقه، وهذا أزهاره فواحة، وهذا أزهاره ليست لها رائحة، وهذا أوراقه كثيفة، وذاك أوراقه مبعثرة، فطرة الله التي فطرَ النبات عليها، وهذه خبرة الفلاح وكل نبات يعرف طباعه، فالتفاح ينمو في المرتفعات، والحمضيات في السواحل، وهذا ينمو في أفريقيا ويحتاج إلى رطوبة عالية، وهذا النبات ينمو في الصحراء فالشوكيات كلها صحراوية، وهذا النبات قطبي وهذا نبات ينمو في قاع البحر، وفي الأنهار وهذه هي الفطرة لكل مخلوق.
الإنسان مفطور على حب الكمال، ومفطور على حب الإحسان، وقد خلق ضعيفاً وعجولاً وهلوعاً هذه هي فطرته قال تعالى:
﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾
هذه الفطرة فقد تنطمس بفعل انغماس الإنسان في الشهوات فيتحول هذا الإنسان إلى وحشٍ بشري امرأة في فرنسا لها ولد، أغلقت عليه البيت وسافرت إلى عند صديقتها فمات بعد أسبوعين جوعاً وعطشاً، ويوجد حالات نادرة فهذه الأم تشوهت فطرتها. إنسان آخر دخل إلى بعض القرى وذبح امرأته وأولاده الخمسة وهذا فطرته مشوهة.
موضوع الفطرة وهو موضوع طويل، لكن الإنسان من دون تعقيدات في بنيته النفسية وبطبيعته وطريقة خلقه وبفطرته التي فطره الله عليها مؤمن بالله، وهذا هو الأصل فإذا كفر أو إذا أنكر أو إذا ألحد اضطربت نفسه واختل توازنه وقست ردوده وأصبح مريضاً. أشخاص ليسوا في مستشفى المجانين لكنهم قريبون جداً من الجنون، ترى أحدهم عنيداً لدرجة أنه يطلّق امرأته لسببٍ تافه، ويفصل الشركة مع شريكه لأتفه سبب، ويقتل إنساناً لأن بقرته دخلت إلى أرضه وأكلت بعض الحشائش، هذه واقعة لكنها حالات نادرة.