الساعة البيولوجية في الإنسان، شيء محير، وشيء بالغ الدقة، لكن قبل الحديث عن هذه الساعة فهل في مخلوقات أخرى مثل هذه الساعة؟ اكتشف أحد العلماء أن في مقدور بعض النباتات حساب الزمن، حيث إن بعض أوراق مجموعة من النباتات تؤدي حركات معينة في وقت محدد من اليوم، إذاً هذا النبات عنده ما يسميه العلماء ساعة بيولوجية، تحسب له الزمن. ثم إن العلماء اكتشفوا أيضاً أن هناك حيوانات تشبه النباتات في تحديد الزمن، حيوانات تعرف بدقّة بالغة مرور الزمن، فتتجه إلى مكان سباتها في الشتاء، لو تأخرت أو بكرت قليلا لماتت، إنه حساب في غاية الدقة، ولولا أنها تعرف كيف يمر الزمن لما أمكنها ذلك، قال تعالى والآية دقيقة جداً: ﴿ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾ زوّده بكل ما يحتاجه من أجهزة، ثم هداه إلى مصالحه.
الإنسان بإدراكه الواعي يعلم ما إذا كان في الليل أو في النهار، لكن هناك أجهزة كثيرة جداً في الجسم ينبغي أن تكون في النهار على وضعٍ، وفي الليل على وضعٍ آخر، فمن الذي ينبئ هذه الأجهزة التي ليست عاقلة أن الوقت نهار أو أن الوقت ليل؟ بجوار غدته النخامية مجموعة خلايا لها خاصية عجيبة، إنها تستشعر الضوء الذي يسقط على قاع الشبكية في أثناء النهار، إذا استشعرت هذا الضوء معنى ذلك أن الوقت نهار، فإذا غابت هذه الأشعة التي تسقط على قاع الشبكية معنى ذلك أن الوقت ليل. إنها الساعة البيولوجية مكانها إلى جوار الغدة النخامية، مرتبطة بقاعِ العين، فإذا جاء الضوء في النهار على قاع العين أشعرَ هذا المركز البيولوجي أن الوقت وقت نهار، فإذا غاب هذا الضوء من قاع الشبكية أخبرها أن الوقت وقت ليل. إن سقوط الضوء فوق الشبكية ينتقل بوساطة سيالات عصبية عبر ألياف العصب البصري إلى الغدة النخامية، ووزنها نصف غرام، هذه الغدة النخامية تؤمّن التكامل والتكيّف بين وظائف الأجهزة الداخلية، هي مسيطرة، هي ملكة الغدد، تؤمّن أيضاً ضبط النشاط العام للجسم.
الآن أول غدة تتعلق بهذا المركز الذي هو الساعة البيولوجية الغدة الدرقية، والغدة الدرقية فيها استقلاب، معنى استقلاب: تحول الغذاء إلى طاقة، هذا الغذاء يتحول إلى طاقة عالية في النهار، وطاقة متدنية في الليل، أنت في النهار تتحرك، تعمل، تذهب إلى عملك، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا*وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا﴾ فالغدة الدرقية التي أوكل إليها أمر الاستقلاب، هذه الغدة تعمل بنشاط بالغ في النهار، وبنشاط متدنٍّ في الليل، بأمر من هذا المركز البيولوجي الذي هو الساعة البيولوجية.
أنا أنصح أن يكون العمل في النهار، لكن هناك حالات استثنائية كالمطارات، ومراكز الحدود، وبعض المعامل، إذاً الطاقة التي يستطيع الإنسان بذلها في النهار ليست كالطاقة التي يستطيع بذلها في الليل، إذاً حينما نكلف إنسانًا أن يعمل في وقت السكن والنوم فلا شك أن هذا العمل لن يكون في فعاليةِ عملِ النهار.
في النهار تزداد ضربات القلب من عشر إلى عشرين ضربة عنها في الليل، يزداد إدرار البول من ضعفين إلى أربعة أضعاف في النهار عنه في الليل، بل إن المثانة كأنها في الليل تأخذ إجازة، من أجل أن يرقد صاحبها براحة من دون إزعاج، دخول وخروج إلى الحمام، ألا ترى معي أن لهذا الإنسان تصميماً رائعاً؟ أن هذا الخالق العظيم رتب أجهزة الإنسان وعملها وتصميمها والتنسيق بينها بشكل معجز؟
شيء آخر، في النهار يرتفع النشاط الكهربائي للدماغ، وفي الليل يضعف هذا النشاط، والإنسان في النهار يمكن أن يؤدي عملاً فكرياً رائعاً، لكنه في الليل لا يستطيع ذلك، طبعاً في النهار أقصد به بعد طلوع الشمس، هذه ساعة الفجر المباركة. كنت البارحة في حفل تكريم عالم من علماء دمشق، فقام هذا العالم وألقى كلمة، وأشار فيها إلى أن بركة صلاة الفجر وما بعد الفجر هي وراء هذه المؤلفات الضخمة التي أنتجها في حياته، هو يستيقظ عند صلاة الفجر، ولا ينام بعدها إطلاقاً، هذا وقت مبارك، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا...)). فيبدو أن الدماغ في النهار في أعلى مستوى من النشاط، هذا النشاط يضعف أيضاً في الليل.
في النهار تزداد درجة لزوجة الدم عنها في الليل، طبعاً إذا كان الدم لزجاً كان أقرب إلى الصون من أن يسيح من جرح بسيط، فالإنسان حينما يغضب وحينما يخاف ترتفع لزوجة دمه، في الليل يتميع الدم، وهذا أيضاً بسبب الخالق العليم الحكيم الذي جعل هذا الدم صونه في النهار أن يكون لزجاً، وصونه في الليل أن يكون متميعاً.
يزداد عدد كريات الدم البيضاء كسلاح دفاعي في الإنسان في النهار عنها في الليل، فالكريات البيضاء هي جنود خاضعة لنظام دقيق من أجل أن تؤدي وظيفة الدفاع عن الجسم، في النهار هناك حركة، ومصافحة، وتناول طعام، وعمل في أماكن قد تكون فيها جراثيم، فجهاز الدفاع في الإنسان يكون مستنفراً، وفي جاهزية عالية في النهار عنه في الليل.
الليل لباس، الليل وقت الإنسان ليلتقي بزوجته فرضاً، لذلك معدّلات النمو في الليل أعلى منها في النهار، الإنسان ينام وهرمونات النمو تكون أشد فاعلية في الليل عنها في النهار، حتى الهرمون الجنسي يكون في الليل في أعلى مستوى من مستوياته عنه في النهار، في الليل يقلّ استهلاك السكر ثلاثين في المئة عما هو عنه في النهار، لأن السكر هو طاقة، تحرق المواد السكرية فتشكل طاقة، الإنسان في النهار يحتاج إلى طاقة، لكن في الليل لا يحتاج إلى هذه الطاقة، إذاً يزداد استهلاك السكر في النهار ثلاثين في المئة عنه في الليل، هذا معنى قوله تعالى:
﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾
المعدة أيضاً تكون قدرتها الإفرازية وقدرتها على هضم الطعام قليلة في الليل، لذلك هذه العادات التي ألفها الناس أن يتناولوا عشاء دسماً هي عادة سيئة جداً، بل إن بعض الأبحاث العلمية تتجه إلى أن يأكل الإنسان نصف الكمية الغذائية اليومية صباحاً، وخمسةً وثلاثين بالمئة منها ظهراً، وخمسة عشر بالمئة منها ليلاً، أما ما يفعله الناس إذْ يأكلون أكبر كمية من الطعام في الليل، فالمعدة قدرتها على الهضم تضعف في الليل عنها في النهار.
كخلاصة الساعة البيولوجية تشعر الأجهزة والأعضاء والنسج والخلايا والغدد أن الوقت وقت نهار، فافعلي كذا وكذا، وامتنعي عن كذا وكذا، وأن الوقت وقت ليل، فافعلي كذا وكذا، وامتنعي عن فعل كذا وكذا، لذلك الإنسان الذي يعمل ليلاً ونهاراً بنوبات سريعة تضطرب الساعة البيولوجية في جسمه. هذا يؤدي إلى اضطراب الساعة البيولوجية، وأوضح شيء أن إنسانًا لو سافر إلى طرف الدنيا الآخر، ما الذي يحصل هناك؟ هو مبرمج أن هذا الوقت هو ليل، هو في النهار هناك، إذاً لا ينام، أو ينام في النهار، ويقلق في الليل، يحتاج يومين أو ثلاثة إلى أن يستقر في وضع متوازن، وعند العودة يحتاج إلى يومين آخرين حتى تعمل هذه الساعة بشكل منتظم، أما هؤلاء الذين يسافرون كل يوم إلى أماكن بعيدة فهؤلاء تضطرب عندهم هذه الساعة البيولوجية، على كلٍّ يقول الله عز وجل:
﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾
الآن قضية أخرى، أنت حينما تنام تأوي إلى فراشك، وحينما تقرر بإرادتك صلبة أن تستيقظ في الساعة الفلانية صدّق في الدقيقة التي عينتها تستيقظ، وهذا أشار النبي إليه لما شكا أحد إليه أنه نؤوم، فقال عمر رضي الله عنه: فضحت نفسك يا رجل، فقال عليه الصلاة والسلام: "دعه يا عمر، فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، اللهم أذهب عنه النوم إذا شاء". فأنت إن شئت أن تستيقظ تستيقظ في الوقت الذي تريده، والدليل في النزهات والرحلات، والسفر إلى أماكن بعيدة تستيقظ قبل المنبه بساعة أودعها الله بالإنسان.
﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ* الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ* فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾