للإنـسان قوة إدراكية، فالحائط، والطاولة، والأحجار، والأشـجار هـذه الأشياء لا تدرك، فالإنسان مميز، ومفضل، ومكرم بهذه القوة الإدراكية.
مثلاً: مجتمـع الـقرود منذ وجودهم على الأرض وحتى الآن، هل طرأ على حياتهم تطور؟ فهل سكنوا في البيوت؟ وهل اخترعـوا أجـهزة؟ وهل نظموا مجتمعهم؟ فالقرد هو القرد، لم يتغير ولم يتبدل، فالفرق الجوهري بين الإنسان والحيوان هو القوة الإدراكية.
فالإنسان إذا عـطل إدراكـه عطـل إنسـانيته، أي إذا عـطل إدراكـه جعل نفسـه فـي صف الحيوان، وهذا قول لا يحتمل المناقشة لشدة وضوحه ولشدة تشعّب الموضوع، فلْنَبْقَ في القـوة الإدراكـية التـي خصـهـا الله للإنـسان والتـي يتميز بها عن سائر المخلوقات ولاسيمـا الحيوان، ولها مشكلة، أنها عالة على العالم الخارجي والعالم الداخلي، وهي مـن دون عالـم خـارجـي وعالم داخلي لا قيمة لها، حيث تتعطل وظيفتها.
نوافـذ القوة الإدراكية على العالم الخارجي، الله تعالى جعـل لنـا نوافـذ تطل عليه، فالبصر نافذة، والشم، والسمع، والذوق، والإحسـاس بالحرارة والبرودة، وكذلك الضغط وجميع الأعصاب والحواس هي نوافـذ القوة الإدراكية على العالم الخارجي، ولو تخيلنا أن إنساناً أوتي من الذكاء ما لم يؤت أحـد من العـالمين وكان كفيف البصر، فهل يستطيع أن يعـرف الـلون الأحمر، وما الفرق بينه وبين اللون الأخضر؟ نرى أن كـلمة أحمـر، وأخضـر وغيـره من هذه الكلمات لا معنى لـها إطلاقاً عندَ هذا الكفيف، فهذه القوة الإدراكيـة تستعين بهذه النوافذ، تحتاج إلى سمع وبصر وإلى نطق، فأي كائن أصم، وأبكم، وأعمى فهو لا يعقل، وهنا نجد أن هذه الآية تشير إلى ذلك، قال تعالى:
﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾
هذه الحواس خلقها الله سبحانه وتعالى بقدَر، قال الله تعالى:
﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾
فإنـك عنـدمـا تريد شُـرب المـاء تـراه صـافياً نقيـاً، فلو وضعت منه قطرة تحت المجهر لرأيت آلافاً، بل مئات الألوف من الجراثيم والبكتريات والـعصيات، فماذا تستنتج؟ إن هذه القوة الإبصارية محدودة، فإنك تستطيع أن ترى الأشياء على بُعد مئة متر أو مئتين، ثم بعد ذلك لا ترى شيئاً، وحدودها من تقدير عزيز، عليم، خبير، بصير، حكيم، ولو زادت قوة الإبصار أكثر من ذلك لما رأينا في الأرض جمالاً، وبعـض الأمـاكـن في أنعـم جـلد بشـري تـرى جبـالاً ووديـاناً ونتوءات، وعندما تم تـكبير تحت مجهر يكبر 300000 مرة كان المنظر لا يُحتمل، فلو أن هذه العين كـانـت قـوة إبصـارهـا أكبـر ممـا هـي عليه لما كان في الأرض جمال، فقوة الإبصار المحدودة تعتبر نعمة من نِعَم الله عز وجل. الفضـاء مملوء بالصور، فقوة الإبصار محدودة وكذلك الهواء مملوء بالأصوات، فالبث الإذاعي في العالم متعدد، وكل هذه الإذاعات أمواجها الصوتية مبثوثة في الفضاء، فجهاز المذياع يلتقط هذه الأصـوات أمـا الأذن فلا تستطيع ذلك، وهذه من نِعم الله عز وجل، فلو كان الـسمعُ غيرَ محـدود لسـمعت كـل الإذاعـات دون أن تـدخل إرادتك في أن تسمع أو لا تسمع، لذلك فإن الله عـز وجـل مـن حكمته جعلنا لا نستطيع أن نسمع تلك الأمواج الصوتية، والشـم، فالشـم محـدود أيضـاً، فـلو أن الإنسـان يشـم الروائـح الكريـهة لمســـافـات بعيـدة كرائحـة دابـة ميتة فـي بلد آخر لأصبحت الحياة في بلدك مستحيلة، ولكن حكمة رب العالمين إذا كانت رائحة كريهة على بعد 200 م فإنها تنتهي وتتلاشى، فـراكب السـيارة قد يشم رائحة كريهة في طريقه وبعد لحظات يبتعد عنها وتنتهي الرائحة، إذاً هنـاك محـدودية للحواس.
فهل ننكر الأشياء الغير محسوسة؟ فمثلاً هناك أجهزة تطرد البعوض والذباب بواسطة أصوات يصدرها الجهـاز تزعج البعوض والذباب ولكن لا يسمعها الإنسان، وتكون هذه الأصوات دون عتبة السمع، كمـا أن هنــاك أجهـزة حـديثـة لـلقوارض تصـدر أصـواتاً لا يسمعها الإنسان ولكن القوارض تســمعها، فـإذا سـمعتْه هـربتْ، ويسـتخـدم فـي المستودعات، فهل يجـوز للعـاقل أن ينكـرهـا لعدم استماعه لها؟ فتقول: إذاً إن الحواس محدودة لدى الإنسان، وهـذه النقطـة هي التـي يجـب أن نصـل إليـها، وقد قال عـلماء التوحيد: " عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود ".
هناك نوافذ داخلية أيضا، إنك تكوِّن بعض الحقائق من العالم الداخلي، ذلك لأن النفس تغضب، وتـخاف، وترجو، وتفرح، وتحزن، وتقلق، وتستكبر، هذه المشاعر يدركها الإنسان عن طريق العالم الداخلي وليـس عـن طريق العالم الخارجي، إذاً هناك نوافذ داخلية ونوافذ خارجية، كالبيوت مثلاً فقـد يـكون لـها نـوافـذ تطـل عـلـى ساحة البيت ونوافذ تطل على الشارع، كذلك الإنسان له نوافذ تطل على العالم الخارجي منها يكوِّن مدركاته، وله نوافذ تطل على العالم الداخلي ومنها يكوّن أحاسيسه. ما هو الخيال؟ هو القدرة علـى التصور، يتصور الإنسان أن له بيتاً يطل على حديقة وعلى جنبيها أشجار سرو، وأشجار مثمرة متنوعة، وفـي الـحقيقـة لا يـوجد عنده شيء من ذلك، فما هذا الخيال؟ فـلو قلنـا لإنسـان: تخيـل أن لك بيتاً، فإنـه يتخيل مسكناً له سقف، وجدران، وأرض، فهل يسـتطيـع أن يتخيل غـير ذلـك؟ وكـذلـك لـو قلنـا لـه: تصور حورية نصفها امرأة ونصفها سـمكة، فـإنـه يسـتطيع تصور ذلـك، لأنه يعرف المرأة ويعرف السمكة فيتصور ذلك، فالخيال البشري لا يستطيع أن يتصوَّر شيئاً من لا شيء، إنما يستطيـع أن يـتصوّر شيئاً من شيء، إذا كنت لا تستطيع أن توجد صورة خيالية من لا شيء، فكيف بإمكان الإنسان أن يتخيل الجنة وهو لم يرها؟ فالخوض في الغيبيات ليس من العقل. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ: ((أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) )) فـالخيال يـجب ألاّ يجول في العالم الآخر، وذلك لأن الخيال لا يأتي إلا ب شيء من شيء، أما من الجنة فلا نرى منها شيئاً، وقد قال العلماء: "نحن نكتفي بعالم الغيب بالخبر الصادق الذي ورد في كتاب الله "، لا أقل من ذلك ولا أكثر، فإذا كـنت عـاجـزاً عـن تخيـل الجنة فهل تستطيع أن تتخيل ذات الله عز وجل؟ لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تفكروا في المخلوقات ولا تفكروا في الخالق فتهلكوا)).
عقلك مـربـوط بـحواسـك وخيـالـك مرتبط بالواقع ولن تستطيع التجاوز، وهذا الكلام يراد منه أن العقل أو الفكر البشري عندما يعجز عن الوصول إلى شيء فهذا لا يعني أن الشيء غير موجود، ولكن العقل الذي وهبنا الله إياه له طاقة محدودة، لحكمة بالغة أرادها الله عز وجل، مثلاً: ميزان يزن 30 كغ تضع عليه سـيارة، ينكسر ويتحطم، فهل نقول: إن هذا الميزان ليس جيداً؟ لا بل هو ميزان جيد ولكن مخَصَّص للأوزان التـي لا تـتجاوز 30 كغ وليس لسيارة، مِن هذا المثـل يتضـح لـنا أن الإنسـان عندمـا يكلف عقله فوق طاقته، ثم يخفق فالخطأ ليس في عقله بل في سوء اسـتخدام العقل، لأن العقل مربوط بالواقع، والواقع فيه زمان ومكان، مثلاً يقال: إن هناك جريمة وقعت، فنقول مباشرة: متى وأين؟ فالعقل البشري ليس عنده إمكانية أن يتصور حدثاً إلا ولـه زمـان ومكـان، ولـكـن الخـالـق ليـس كمثلـه شيء ولا يسأل عنه أين هو؟ لأنه خالق المكان ولا يسـأل عنه: متـى كـان، لأنه خـالق الـزمان، فكلمة (متى) و(أين) في حق الله مستحيلة، لأنه خالق الـزمان والـمكان، فعدد السـنين هـذه مـن اختصـاصنـا نحن البشر، أما بالنسبة لله فالزمان صفر، لا يقيده زمان ولا مكان.
فالإنسان العاقل يعقل الحقائق التي ذكرناها سابقاً: " عـدم الـوجدان لا يدل على عدم الوجود"، إذاً إن الفكـر البشـري محدود بالحواس، وخيـاله يمده من الواقع والواقع محـدود، فـأنـَّى لـهذا الفكـر البشـري المـحـدود بالحواس والحـواس يحـدُّهـا الواقـع أن يـدرك الـلامحـدود، معرفة الله لا تـكون إلا من معرفة آثاره فقط أمَّا معرفة ذاته فمستحيلة،
لا تبحثوا ً في ذات الله عـز وجل وبعلمه فهو يعـلم بلا كيف، وهذا اختصار للبحث فـي علـم الله الـذي لا يمكـن أن يدركه عقـل أي إن هنـاك أسئـلة خـطيرة فـي العـقيدة ينبغي أن نقف عندها ونقرأ:
﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾
فهنـاك مـوضـوعـات مـن اختصـاص الـفكر البشـري، وهناك موضوعات فوق الفكر البشري يجب عدم الخوض فيها، وإذا عجز الفكر عن إدراكها فلا ينبغي أن ننكرها، لأنه كما قلنا: "عـدم الـوجدان لا يدل على عدم الوجود ".