بحث

النفس البشرية وخصائصها

النفس البشرية وخصائصها

بسم الله الرحمن الرحيم

     الإنسان مؤلَّف من ذات هي نفسه التي بين جنبيه، هي التي تؤمن، هي التي تكفر، هي التي تحب، هي التي تبغض، هي التي تسمو، هي التي تسهو، هي الطائعة، هي العاصية، هي المؤمنة، هي الكافرة، هي التي لا تموت، هي التي مصيرها إما إلى جنة يدوم نعيمها، أو إلى نار لا ينفذ عذابها، هي ذات الإنسان، وقد خاطبها الله بقوله تعالى:  ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ﴾ ،  ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾، ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ﴾. ذاتك، من أنت؟ نفسك هذا وعاء الجسم، وعاء النفس، في داخل الجسم ترى من عينين، تنتقل، لها الأصوات من أذنين، تعبر عن ذاتها باللسان، تنتقل من مكان إلى مكان عن طريق الرجلين، تبطش باليد، تستخدم جهاز الفكر، هذه التي تخاطب، والتي تعاتب، هي ذاتك، هي التي تؤمن، هي التي تكفر، قال تعالى:  

﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا  * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ 

     مَن حملها على معصية الله، من أبقاها غافلة عنه، لذلك: ( قد أفلح ) في القرآن تعني النجاح كل النجاح، والفلاح كل الفلاح، والفوز كل الفوز، والتوفيق كل التوفيق، والتفوق كل التفوق، أن تزكّي نفسك، أي أن تؤهّلها لدخول الجنة، ثمن الجنة تزكية النفس. 

     من خصائص النفس: أن كل نفس ذائقة الموت، ومعنى ذائقة لا أنها تذوق الموت، هي التي لا تموت. 

     من خصائص النفس أن الله خلق البشر من نفس واحدة، من خصائص واحدة، الإنسان هو الإنسان، في أي مكان وزمان، فأيّ إنسان على وجه الأرض يحب الجمال، ويحب الكمال، ويحب النوال، خصائص ثابتة، مسلم أو غير مسلم، ملحد، علماني، بعيد، قريب، أيّ نفس إنسانية تحب الكمال، قد يكون الذي يحب الكمال ناقصاً، قد يكون مجرماً قد يكون لصاً، يقول اللص لإخوانه اللصوص: قسموا بالعدل، فطرته العدل، لكنه يخالف فطرته. فالفطرة تعني تحب النوال، وتحب الكمال، وتحب الجمال، الكمال أخلاقي، والجمال قد يكون حسيًا، والنوال عطاء، هذه خصائص النفس البشرية. 

     من خصائص النفس البشرية أن الإنسان خلق هلوعا، ما معنى هلوع القرآن فسر الهلوع، قال تعالى:  ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً  * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ﴾ يقلق على حياته، يقلق على رزقه، يقلق على من يلوذ به، لو لم يكن هلوعاً لما تاب إلى الله، لو أن الإنسان لا يخاف، فبلغوه بخبر ورم خبيث، خير إن شاء الله، ما من مشكلة، لا يتوب إلى الله، لذلك خُلق الإنسان هلوعا، هذا ضعف في أصل خلقه لمصلحته، ألا ترى أن بعض الآلات الغالية جداً فيها وصلة ضعيفة جداً تسمى ( الفيوز )، كومبيوتر صناعي ثمنه ثلاثون مليونًا، لو جاءت شحنة كهربائية عالية جداً لأحرقته، لكن فيه وصلة ضعيفة جداً، فإذا جاء التيار عالياً ساحت هذه الوصلة، وقطعت عنه التيار، وسَلِم الجهاز، هذا الضعف في أصل تصميم الجهاز لصالح الجهاز، وهكذا الإنسان، ومعنى: إذا مسه الشر جزوعا، يقلق أشد القلق يطرب، لا ينام الليل، وإذا مسه الخير منوعا، لأنه إذا مسك الخير تكون منوعًا، فترقى بالصدقة، والمال محبب . لأن المال محبب، فبإنفاقه يرقى به، والشيء الذي لا تحبه إذا أنفقته هل تشعر برقي؟  ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً  * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً  * إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ المصلي قد ينجو من هذا الضعف الخلقي، وهو ضعف في أصل خلق الإنسان، لكنه لصالح الإنسان . 

     خلق الله الإنسان عَجُولاً، يريد أشياء قريبة، فإذا اختار الآخرة يعاكس فطرته، فإذا عاكس فطرته ارتقى عند الله، يريد شيئًا مستعجلا جاهزا، أحياناً يدعى إلى عمل دخله كبير جداً فيه مئات الشبهات، شبهات في العمل، في الدخل، يريد المال سريعاً، يأتي المؤمن فيقول: معاذ الله، إنه ربي أحسن مثواي، يبحث عن شيء ينفعه بعد الموت، اختار هدفا بعيدا عن متناول يده، بهذا الاختيار يرقى الإنسان، لأنه عجول، إذا اختار هدفاً بعيداً يرقى بهذا الاختيار، لو كان في الأصل مَهُولا لا يرقى باختيار الآخرة أبداً. قال تعالى:  ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولاً ﴾. 

     خلق الله الإنسان ضعيفاً ليفتقر في ضعفه، فيسعد بافتقاره، ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً ﴾ ولو خلق قوياً لاستغنى بقوته، فشقي باستغنائه، لذلك أحياناً يكون الإنسان في حالات قوياً جداً، فيستغني بقوته عن الله، قد يكون غنياً جداً فيستغني بماله عن الله، والآية واضحة جداً:  ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى ﴾ رأى نفسه مستغنياً عن الله عز وجل، لذلك بطولة المؤمن أنه مفتقر دائماً إلى الله عز وجل. 

     من خصائص الإنسان التقليد، الإنسان يحب التقليد، إن قلدت مؤمناً ارتقيت، وإن قلد فاسقاً هلكت، التقليد حيادي، الإنسان يغار، إن غار من مؤمن حافظٍ لكتاب الله يرقى، وإن غار من إنسان غارق في الزنا يهلك، فالغيرة حيادية. لأن الإنسان مخير فكل خصائصه حيادية، التقليد خصيصة، طفل يقلد أباه، وهو يصلي، وطفل إنسان فاسق يقلده، وهو يفسق، أساساً من صفات المؤمنين أن أولادهم في الأعم الأغلب مؤمنون، ومن صفات الكفار والفاسقين قال تعالى: ﴿وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً﴾ فالطفل بحسب ما يرى يقلِّد، فالتقليد صفة في الإنسان، يمكن أن توظف في الخير أو في الشر، فإنْ صحبت المؤمنين تمنيتَ أن تكون مثلهم، وإن صحب الإنسانُ أهلَ الفسق والفجور تمنى أن يكون مثلهم، لذلك قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾. عش في أجواء إيمانية، عش مع المؤمنين، لا تصاحب إلا مؤمناً، لا تصاحب إلا من يرقى بك إلى الله حالُه، ويدلُّك على الله مقالُه. لذلك التقليد من خصائص الإنسان، قال تعالى:  ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْم﴾ غير المؤمن يقلِّد أهل الفجور والانحراف والفسوق والعصيان. 

     هذه النفس جبلت جبلة عالية، حيث إنها إذا أحسنت شعرت بشكل طبيعي ابتداءً من دون تعليم، من دون توجيه أنها أحسنت، وإذا أساءت شعرت ابتدأً من دون توجيه ولا تعليم أنها أساءت، قال تعالى:  

﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ 

     إن فجرت فجورها، وإن اتقت تقواها، عندك مشعر ذاتي، أنت بالفطرة تعرف خطأك من دون أن تنبه إليه، أنت بعقلك تعرف ربك، وبفطرتك تعرف خطأك، لولا هذه الفطرة لما تألم إنسان من معصية، فلو أن جبلته جبلت على معصية فكلما عصى ربه ازداد راحة وانسجاماً مع نفسه، ولكن لأنك مفطور فطرة عالية، مفطور على الكمال، مفطور على الرحمة، على الإنصاف، على العدل، على الصدق، على الأمانة، جبلتك، فطرتك، بنيتك النفسية، خصائصك تحب الرحمة، فإذا رحمت المخلوقات تنام قرير العين، تنام مرتاحاً، تنام مطمئناً، تنام سعيداً. لذلك أيها الإخوة، لمجرد أن تتوب إلى الله، وأن تصطلح معه تصطلح مع نفسك، وترتاح نفسك، وتطمئن نفسك، وتسعد نفسك. كيف سواها الله عز وجل؟ سواها حيث إذا فجرت تعرف أنها فجرت، وإذا استقامت تعرف أنها استقامت. 

     أيها الإخوة، من أرقى خصائص النفس أنها جبلت على الكمال، أنها توافقت مع منهج الله، فما من أمر أمرك الله به إلا وفطرتك ترتاح له، وما من أمر نهاك الله عنه إلا وفطرتك تتألم منه، فالفطرة متوافقة تماماً مع منهج الله، كيف أن العقل متوافق توافق تاماً مع قوانين الكون، بني الكون على السببية، والعقل لا يفهم شيئاً إلا بسبب، وبني الكون على الغائية، والعقل لا يفهم شيئاً بلا غاية، كذلك بني منهج الله على الصدق والأمانة، والعدل والإنصاف، والرحمة، والنفس البشرية لو أنها عاصية، ولو أنها آثمة لا ترتاح إلا للصدق والأمانة، والعدل والإنصاف. ففي قلب المؤمن من الراحة النفسية والطمأنينة والسكينة والهدوء ما لو وزع على أهل بلد لكفاهم، لأن المؤمن التائب انسجم مع نفسه، اصطلح مع نفسه، جاءت حركته متوافقة مع خصائصه. 



المصدر: العقيدة - العقيدة والإعجاز - الدرس (09-36) مقومات التكليف : الفطرة -1- الفطرة وخصائص النفس